الأحد، 5 فبراير 2023


 

زينب بنت علي صوت النهضة الحسينية

 

عندما نلتقي بالسيدة زينب (عليها السلام)، فإننا لا نريد أن نتكلم في قداسة نسبها، ولا أن ندخل في الفيض العاطفي الذي نحمله لها في قلوبنا، بل نريد أن نتكلم عنها بعيداً عن كلِّ الصفات، وأن نتمثّل فيها العناصر الحيوية، بحيث يمكن لنا أن نجد من خلال هذه المرأة العظيمة عنصر القدوة التي تُجسِّد الفكرة.

ولقد تجسد فيها جملةٌ من الكنى وصفات الجمال:

فهي (أم هاشم)؛ كُنِّيت به لأنها حملت لواء راية الهاشميين بعد أخيها الإمام الحسين (عليه السلام). ويقال لأنها كانت كجدها هاشم الذي كان يطعم الحجاج، فكانت (عليها السلام) مثله تطعم المساكين والضعفاء، ودارها كانت مأوى لكلِّ محتاج.

ولقبِّت بـ(صاحبة الشورى)؛ لأنّ كثيراً ما كان يرجع إليها أخواتها وأخوتها في الرأي.

ووصفت بـ(عقيلة بني هاشم) حيث لم تُوصف سيدة في جيلها أو غيره أو في آل البيت بهذا إلا السيدة زينب (عليها السلام).

وأَطَلق عليها أخوها الحسن (عليه السلام) لقب (الطاهرة)؛ عندما قال لها: >أنعم بك يا طاهرة، حقاً إنك من شجرة النبوة المباركة، ومن معدن الرسالة الكريمة<؛ عندما شرحت حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحلال بيِّن والحرام بيِّن.

ومن كناها المشهورة عند عامة الناس:

(أم العزائم): كانت تُكنَّى عند أهل العزم بأم العزائم وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.

و(أم العواجز): كنيت بهذه الكنية عندما شرَّفت مصر بقدومها وساعدت العجزة والمساكين.

و(أم المصائب): لشدة الرزايا والمصائب التي مرّت عليها.

وأما لقب (السيدة) فإذا أطلق في مصر من دون اسم بعده فالمقصود به السيدة زينب (عليها السلام) دون غيرها، فهي الوحيدة المتفردة من آل البيت بهذا اللقب.

ولا نريد -أيضاً- أن نتحدث كيف كانت طفولتها، وكيف انفتحت (عليها السلام) على أبيها، فتغذّت من كل فكره وروحه وشجاعته وصلابته، وكيف انطلقت مع أخويها تعيش معهما كل الأخلاق الإنسانية التي جعلت منهما نموذجين للإنسان الكامل، ولكننا نريد أن نلتقط مواقفها.

ففي كربلاء، كانت زينب (عليها السلام) رفيقة الحسين (عليه السلام)، يحدِّثها وتحدثه، فنحن لم نقرأ أنَّ هناك حالة مناجاة بين الحسين (عليه السلام) وبين أي شخص من أصحابه ومن أهل بيته يفتح فيها عقله وقلبه وشعوره إلا مع أخته زينب (عليها السلام).

وفي ليلة عاشوراء، عندما بدأ يحدِّثها عن طبيعة المعركة وعن النتائج الصعبة التي سوف تنتج عن المعركة، وكيف يجب عليها أن توازن عاطفتها، فلا تندفع فيها، لأنّ المستقبل القريب الدامي المأساوي لا يسمح لإنسانة في مستوى زينب -وهو مستوى القيادة- أن تعطي عاطفتها حريتها.

صحيح أنّ الإنسان بلا عاطفة هو حجر، وعقل بلا عاطفة هو حالة لا يمكن أن تنفذ إلى وجدان الإنسان، وأبوها أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: >كلُّ شيءٍ يحتاجُ إلى العقلِ، والعقلُ يحتاجُ إلى الأدبِ<.. لكنَّ القضية أنّ هناك موقفاً إذا تحركت العاطفة فيه مع كل المأساة التي تحيطه، فإنها تؤثر فيه تأثيراً سلبياً، وعند ذلك تصبح القضية تفصيلاً من تفاصيل العاطفة، ولا يكون هناك شيء جديد.

صاحبة الموقف الصلب:

لذلك، عندما ندرس حركة السيدة زينب (عليها السلام) في كربلاء أثناء المعركة وبعدها، فإننا نجد أنها كانت تعيش صلابة الموقف كأقوى ما تكون الصلابة.

وأما الصورة التي تُعطى للناس عند عرض المأساة عن شخصية زينب (عليها السلام)، وأنها كانت تنهار أمام هذا الشهيد وتسقط أمام ذاك الشهيد وتدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور، ليست هي الحقيقة، ولكن حاجة الناس إلى ما يحرك الدموع تجعل للخيال أن يأخذ حريته في أن يصوّر ما يشاء كما يشاء.

كانت (عليها السلام) الإنسانة التي تعيش صلابة الموقف، وعندما كانت تتدخّل بأسلوب عاطفي، فلكي تحتضن موقف الحسين (عليه السلام)، ولكي تدخل إلى وجدانه، حتى يبقى الحسين (عليه السلام) في كبرياء الموقف إنساناً أكبر من الألم، ذلك هو مغزى المواقف الصغيرة المحدودة التي انطلقت فيها عاطفة زينب (عليها السلام).

قال قرّةُ بنُ قيس التميميُّ: >لا أنسى زينبَ ابنةَ فاطمةَ حين مرّت بأخيها الحسين صريعاً، وهي تقول: يا محمّداه! يا محمّداه! صلَّى عليك ملائكة السماء، هذا الحسين بالعراء، مرمّل بالدماء، مقطَّع الأعضاء، يا محمّداه! وبناتك سبايا، وذريّتك مقتلة تُسفى عليها الصَّبا! فأبكت والله‏ كل عدّو وصديق!..< [وقعة الطف لأبي مخنف: ص 282].

وينقل تاريخ السيرة الحسينية -أيضاً-، أنها (عليها السلام) وقفت بكل شموخ، ووضعت كفيها تحت جسد الإمام الحسين -كما تروي الرواية- وقالت: >اللهم تقبّل منا هذا القربان< [الملهوف: ص 169].

فالحسين لم يكن قرباناً لفداء البشرية وفق المفاهيم الكنسية للمسيحية، والتي أنكرها النص القرآني، ولم تكن شهادة الحسين (عليه السلام) فكرة طوباوية، أو مثالية مغرقة في مثاليتها حد التطرف، بل إنّ الحسين (عليه السلام) قد جسَّد عمق العلاقة بين الشريعة وحركة التاريخ من خلال تأكيد الترابط بين الإنسان الفاعل والمحرك للتاريخ وبين الله كمصدر للتشريع؛ لإنه قربان الرسالة وقربان القضية، وفي هذا المجال فإنّ الإنسان الذي يعيش إشراقة الرسالة، لا يفقد إحساسه بالقضية عندما يعيش في تفاصيل حركتها في ساحة الصراع.

وهكذا رأيناها (عليها السلام) عند ابن زياد في الكوفة، عندما وقفت -وهو يحاول أن يتكلم بطريقة سلبية عن الإمام الحسين (عليه السلام)- عندما قال لها: كيف رأيتِ صنعَ اللهِ بأخيك وأهلِ بيته؟!

فقالت له: >هؤلاء قومٌ كتبَ اللهُ عليهم القتلَ فبرزوا إلى مضاجعِهم، وسيجمعُ اللهُ بينك وبينهم فتُحاجّ وتُخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذٍ، ثكلتك أمك يابن مرجانة<.

أتصوّرها وهي تقف -تختزنُ كل آلام المأساة- لتُشعر هذا الإنسان المتجبر بأنه حقير، أرادت أن تحقّره من حيث أراد أن يعظِّم نفسه، ولذلك لم يجد جواباً إلا أنه أمر بأن تُقتل، لولا أنَّ بعض أصحابه نصحه بغير ذلك.

وعندما وقفت في مجلس يزيد، وقفت بكل كبرياء المرأة الرسالية، وبكل عنوان الإنسانة التي تعيش آفاق الرسالة في الحياة كلها وصلابة القوة في موقفها، وهي السبية، ورأس الحسين أمامها، والأطفال حولها والنساء حولها، قالت له: >فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا< [الملهوف: ص 169]، قالت له إننا أصحاب الرسالة لا أنت، وإنَّ الموقع الذي أنت فيه ليس موقعك، ولكنه موقعنا، والله عندما حجب عنا النصر لم يحجبه مهانةً بنا، ولكنها سنّة الله في الحياة في موازين حركة القوة والضعف.

زينب.. قائدة القضية:

من خلال هذه اللقطات الصغيرة، نستطيع أن نستوحي زينب (عليها السلام) في جملة معطيات:

الأولى: هي المرأة التي تنتصر على ضغط العاطفة وعلى مشاعرها، فتملك أن توازن عاطفتها، حتى لا تتحرك عاطفتها لإسقاط موقفها.

الثانية: وهي الإنسانة القائدة، التي إذا لم يكن لها في مسيرة السبي من كربلاء إلى الكوفة إلى الشام، من تقوده من الرجال، ولكنها كانت تقود القضية.

والقيادة ليست حركة قوة يسيطر فيها الإنسان على الناس، ولكنّ القيادة حركة عقل ووعي وانفتاح على الواقع، من أجل أن تمنع الواقع من أن يسقط وينهار أمام ضغط الذين يريدون مصادرته. لو قُتِل الحسين (عليه السلام) في كربلاء وأغلِق الملفُّ لما حدث هناك شيء، ولكن زينب التي كانت تتحرك بكل دراسة للموقف وبكل وعي وبكل صلابة، كانت تعطي القضية من عقلها ووعيها وإحساسها وقوتها الشيء الكثير.

الثالثة: المعارضة، التي تقف لتتحدث بأقوى أساليب المعارضة السياسية، في موقع كانت المعارضة فيه شيئاً غير معهود، فنحن عندما نلاحظ تلك الفترة، نلاحظ أنَّ الناس كانوا لا يملكون أن يعارضوا الشخص الأول في المجتمع.

عندما بويع ليزيد وقف من يأخذ البيعة له وهو يحمل سيفاً في يمينه وصرّة من الدراهم في شماله، وقال: مَن بايع فله هذا، ومن لم يبايع فله هذا، ولم يعترض أحد!!

إنَّ هناك فرقاً بين معارضة في موقع لا يجرؤ الناس على أن ينبثوا أمامه ببنت شفة، وبين معارضة استهلاكية يمكن لك أن تتحدث فيها بأي شيء.

العمل السياسي للمرأة أساسه فاطمة الزهراء وزينب:

نحن لا نريد فقط أن نتحدث عن الموقف السياسي المعارض للسيدة زينب (عليها السلام) عند ابن زياد أو عند يزيد، كموقف استهلاكي من مواقف المعارضة الاستهلاكية في البلاد التي تملك فيها حرية الكلمة، ولكن إذا أردتم أن تعرفوا قيمة الكلمة القوية المؤنبة ليزيد ولابن زياد، فتصوّروا أن يقف إنسان اليوم أمام أحد ملوك الأنظمة العربية أو رئيس له مطلق السلطة في واقعنا العربي أو واقعنا في العالم الثالث، تصوّروا كيف تكون المعارضة، حتى تفهموا قيمة معارضة السيدة زينب (عليها السلام) في الواقع.

ومن خلال ذلك كله، نستطيع أن نعتبر أنّ موقف السيدة زينب (عليها السلام)، كما هو موقف أمها السيدة الزهراء (عليها السلام) سيدة نساء العالمين، هو موقفٌ يعطي الشرعية لحركة المرأة المنفتحة على مسؤوليتها في الواقع، بأن تقف عندما تواجه الأمة الكثير من الانحرافات والكثير من الانهيارات، لتتحدث عن وعي مسؤول وعن موقف مسؤول، تماماً كما هو الرجل.

إنّ شخصيةً كفاطمة الزهراء (عليها السلام) وكزينب (عليها السلام)، هما الأساس في شرعية مشاركة المرأة في العمل السياسي بالطريقة الإسلامية التي لا تمثل أي خروج عن خط الإسلام ولو بنسبة الواحد في المائة.

إنّ مسؤوليَّتنا كبيرة في أن نجعل عاشوراء حاضرةً في كلِّ عقلٍ وقلبٍ ووجدان، وأن ننقلها إلى كلِّ السَّاحات.

فكلُّنا إعلاميّون في ساحة عاشوراء، وعلينا تقع مهمَّة ليست بالسَّهلة، للحفاظ على هذه الثَّورة حيَّةً ونقيَّةً ومخترقةً لحواجز الزَّمان والمكان، وعلى عاتق العاملين والرِّساليّين، يقع إنتاج إعلامٍ ناجحٍ عن كربلاء، وذلك بالتزام عدَّة نقاط نوردها بإيجاز:

1- التَّأكيد أنَّ هدف إحياء ذكرى عاشوراء هو التّقرّب إلى الله أوّلاً؛ ويبقى هاجسنا هو التزوّد من هذا المعين الرّوحيّ والإيمانيّ والتَّربويّ والحركيّ والرِّساليّ لهذه الثَّورة.

2- عدم الانشغال بالتَّعبير العاطفيّ ونسيان العقل أو العكس، فهذا المزج بين العقل والعاطفة ضروريّ، لأنَّ طينة الإنسان من عقلٍ وعاطفة، وعلينا أن نعقلن العاطفة، وأن نلوِّن العقل بها.

3- يجب اعتماد التَّوثيق والبراهين والأدلَّة لإعادة شرح وتحليل ما حصل في تلك الحقبة، من طبيعة الانحراف الَّذي أدّى إلى أن يصل إلى الخلافة الإسلاميَّة رجل فاسق كيزيد، وكذلك تحليل موقف الحسين (عليه السلام) بالعمق.

4- العمل على تقديم هذا المضمون اليوم بعيداً عن الحساسيّات المذهبيَّة الَّتي لا تخدم رسالتنا في إحياء عاشوراء، ولنتصرَّف على أساس أنَّ الحسين هو للمسلمين جميعاً..

5- على قرَّاء مجالس العزاء أن يتحمَّلوا مسؤوليَّة تقديم السِّيرة كما حصلت، دون أيِّ زيادة أو نقصان، ودون أن نسيء إليها بأيّ زيادة.

6- على القيِّمين المقيمين للمجالس في البيوت أو الحسينيَّات، أن لا يكون المعيار المعتمد عندهم هو الصَّوت الجميل، بل أن يكون المعيار الأساس هو الثَّقافة والوعي واحترام المنطق، وعدم اللّجوء إلى ابتكار طقوس هي أقرب إلى الاستعراض منها إلى التَّعبير العفويّ العاطفيّ..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

محرم 1447 في الصحافة الكويتية