أبو
طالب في ميزان آل البيت
لـولا أبو طالـب
وابنه لما مثل الدين شخصاً فقاما
فذاك بمكة
آوى وحامى وذاك
بيثرب خاض
الحماما
فلله ذا فــاتحاً
للمـعالي ولله
ذا للـهدى ختـاما
رغم الوثنية التي عصفت بجزيرة العرب غير أنّ
جذوة الحنيفية ظلت راسخة في صدور ورثة الحق من أولاد إسماعيل وأبيه الخليل (ع)، وكان
في طليعتها قصي، وهاشم، وعبد المطلب، وأبو طالب.
وهو الأمر الذي صدع به رسول الله (ص) أمام أصحابه،
فقال: >لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات حتى أسكنت في صلب عبد
الله ورحم آمنة بنت وهب< [إيمان أبي طالب، للسيد فخار الموسوي: ص 56؛ السيرة الحلبية:
ج 1 ص 70؛ البحر المحيط لأبي حيان: ج 8 ص 198].
وهذا الحديث الشريف - وأمثاله كثيرة - يشير
إلى مدلول قوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ
تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 218- 219].
فإن تَقَلُب النبي (ص) في الساجدين يعني
تنقله في أصلاب الموحدين، من آدم (ع) إلى عبد الله بن عبد المطلب، كما يقرر علماء
التفسير، إذ لا يصلح المشرك بعد الحكم بنجاسته أن يكون وعاء لحمل نطفة الطاهر
المطهر الرسول الخاتم (ص) (أنظر: تفسير القمي: ج 2 ص 125؛ رجال الكشي: ص 222 ح 397؛ تصحيح الاعتقاد: ص
139).
ومن هنا فإنه رغم حملات التزييف في السنة
الشريفة والسيرة والتاريخ، ما زلنا نملك وثائق مهمة تشير إلى عظمة حلقة سلسلة ما
بين محمد رسول الله (ص) وآدم (ع).
يقول ابن أبي الحديد المعتزلي: >وأما
الذين ليسوا بمعطلة من العرب، فالقليل منهم، وهم المتألهون أصحاب التورع والتحرج
عن القبائح، كعبد الله وعبد المطلب وابنه أبي طالب...< (شرح نهج البلاغة: ج 1 ص 119).
وقال أمير المؤمنين (ع): >والله ما عبد
أبي، ولا جدي عبد المطلب، ولا هاشم، ولا عبد مناف صنماً قط، قيل: فما كانوا
يعبدون؟ قال (ع): كانوا يصلّون إلى البيت على دين إبراهيم (ع) متمسكين به< (كمال الدين: ج 1 ص 174، والخرائج
والجرائح: ج 3 ص 1074).
اسمه ولقبه وصفاته:
أبو طالب هو عبد مناف أو عمران أو شيبة بن
عبد المطلب بن هاشم جد النبي (ص) -جمعاً بين روايات المؤرخين- وألقابه كثيرة كان
أشهرها شيخ الأبطح، وسيد البطحاء، ورئيس مكة، ولكنه اشتهر بأبي طالب دون ألقابه
جميعاً.
تصدى أبو طالب لرئاسة مكة المكرمة، والزعامة
في بني هاشم وقريش بعد أبيه عبد المطلب، وكان >منيعاً عزيزاً في قريش< (أنساب الأشراف: ج 2 ص 23)، فـ>كانت قريش تطعم، فإذا أطعم
أبو طالب لم يطعم يومئذ أحد غيره< (أنساب الأشراف: ج 2 ص 23).
ولد أبو طالب (ع) قبل ميلاد خاتم النبيين (ص)
بخمسة وثلاثين عاماً، أي عام 535 من ميلاد عيسى (ع)، وترعرع في أحضان جده عبد
المطلب بن هاشم، فتأدب بآداب تلك النبتة الطيبة التي آتت أكلها فضلاً وسؤدداً
وبركة للناس، وحياطة لمفاهيم حنيفية الخليل إبراهيم. ففي الصحيح عَنْ زُرَارَةَ
بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (ع) قَالَ: >يُحْشَرُ
عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَيْهِ سِيمَاءُ
الأَنْبِيَاءِ وَهَيْبَةُ الْمُلُوكِ< (الكافي: ج 1 ص 447).
وقد كان أبو طالب وريث أبيه عبد المطلب في
حمل سنن إبراهيم (ع)، ومبادئه الهادية، ليستحق شرف كفالة خاتم الأنبياء، وسيد
الخلق (ص).
وكان من سمو صفاته ورفيع درجاته المعنوية ما
أخرجه ابن الحافظ ابن عساكر في تاريخه عن جلهمة بن عرفطة قال: >قدمت مكة وهم في
قحط فقالت قريش: يا أبا طالب، أقحط الوادي، وأجدب العيال، فهلمّ واستسق فخرج أبو
طالب ومعه غلام كأنه شمس دجن تجلّت عنه سحابة قتماء، وحوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب
فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ بإصبعه الغلام، وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من
هاهنا وهاهنا وأغدق، وانفجر له الوادي وأخصب البادي والنادي، ففي ذلك يقول أبو
طالب (الخصائص الكبرى: ج 1 ص
208):
وابيض يُستسقى الغمام بوجهه ثِمال اليتامى عصمة للارامل
يلوذ به الهُلاّك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل
وميزان عدل لا يخيس شعيرة ووَزّان صدق وزنه غير هائل
أهم المحطات في حياة
أبي طالب:
المحطة الأولى: ضمه
رسول الله إليه:
عندما حضر عبد المطلب الموت أخذ يدلي بوصيته
التاريخية أمام أولاده وبني هاشم، مخاطباً بها أبا طالب: >انظر يا أبا طالب أن
تكون حافظاً لهذا الوحيد الذي لم يشم رائحة أبيه ولم يذق شفقة أمه. انظر أن يكون
من جسدك بمنزلة كبدك، فإني قد تركت بَنيّ كلهم وخصصتك به، لأنك من أم أبيه. واعلم
فإن استطعت أن تتبعه فافعل، وانصره بلسانك ويدك ومالك; فإنه واللّه سيسودكم ويملك
ما لا يملك احد من آبائي. هل قبلت وصيتي؟
قال: نعم قد قبلت والله على ذلك شاهد.
فقال عبد المطلب: مدّ يدك.
فمدّ يده فضرب بيده على يد أبي طالب، ثم قال
عبد المطلب: الآن خفف عليّ الموت. ولم يزل يقبّله ويقول: أشهد أني لم أرَ أحداً في
ولدي أطيب ريحاً منك ولا أحسن وجهاً< (كمال الدين: ج 1 ص 171، وإعلام الورى: ص 14).
ونريد أن نلفت إلى أمرين:
1-
من الطبيعي أن يكون اختيار عبد المطلب لأبي
طالب لكفالة خاتم الرسل (ص) ورعايته لخصائص روحية مميزة امتاز بها أبو طالب عن
بقية أخوته أولاد عبد المطلب.
2-
ليس صحيحاً أن نتصور أنّ اختيار أبي طالب
لهذه المهمة كان بسبب كونه شقيق عبد الله والد النبي (ص)، فإنّ الزبير كان أخاً
لعبد الله من أمه وأبيه أيضاً، وإنّما كان ذلك الاختيار عن حساب وتخطيط; إذ إنّ
أبا طالب كان مؤهلاً من الناحية الروحية لأن يكون راعياً للرسول الخاتم والرسالة
الخاتمة دون سواه بعد أبيه عبد المطلب.
لقد بدأت مهمة أبي طالب بشأن رعاية النبي (ص)
وكفالته منذ أن رحل عبد المطلب إلى الرفيق الأعلى، أي منذ السنة الثامنة من عمر
رسول الله (ص).
لقد بدأت حياة النبي المبارك تفيض على عمه
اليقين بمستقبله الزاهر، بما يجري له من إمداد رباني يحسه أبو طالب ويراه عياناً،
فقد كان المصطفى (ص) يعده ربه ويهيئه للمهمة الكبرى من لدن أن كان فطيماً.
يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) في
هذه الحقيقة: >وَلَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ (ص) مِنْ
لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلائِكَتِهِ، يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ
الْمَكَارِمِ وَمَحَاسِنَ أَخْلاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، وَلَقَدْ
كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ
يَوْمٍ مِنْ أَخْلاقِهِ عَلَماً، وَيَأْمُرُنِي بِالاقْتِدَاءِ بِهِ، وَلَقَدْ
كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَلا يَرَاهُ غَيْرِي،
وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلامِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ
(ص) وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ،
وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ...< (نهج البلاغة: خطبة 192).
لقد كان أبو طالب يشهد ظواهر ذلك الإعداد
الرباني لرسول الله (ص)، ولقد كانت واضحة على سلوك النبي (ص)، وهو لا يزال في
مقتبل عمره الشريف، فيشم أريج النبوة التي تفوح من محمد بن عبد الله (ص) وديعة عبد
المطلب عند أبي طالب: فهو (ص) لا يبدأ بطعام إلا بعد أن يسمي عليه، ولا يختم طعامه
إلا بحمد الله عز وجل، وكان لا يأكل ما يذبح على النصب، ولا يشارك المشركين في أعيادهم،
ولا يشاركهم في لغوهم وعبثهم، وكان الصادق الأمين في قومه، يعرفه القاصي والداني
بذلك.
وكان أبو طالب يشهد كل آثاره وبركاته
وخوارقه للمألوف. لقد كان ينام فيسطع النور من رأسه إلى عنان السماء، وأبو طالب
يشهد ذلك ويراه، ولقد عطش أبو طالب والرسول (ص) معه في ذي المجاز، فمال إلى صخرة
هناك فركلها النبي (ص) برجله فنبع الماء من تحتها رقراقاً ليروى أبا طالب من نبعها
المبارك (بحار
الأنوار: ج 15 ص 406).
المحطة الثانية: إيمانه بمحمد (ص):
من الحوار السابق الدائر بين عبد المطلب
وأبي طالب نستشعر أنّهما كانا وصيين لحملة آثار إبراهيم وإسماعيل (ع).
قال الشيخ الصدوق: >اعتقادنا في آباء
النبي (ص) أنهم مسلمون من آدم إلى أبيه عبد الله، وأنّ أبا طالب كان مسلماً، وآمنة
بنت وهب بن عبد مناف أم رسول الله (ص) كانت مسلمة. وقال النبي (ص): خرجت من نكاح
ولم أخرج من سفاح من لدن آدم. وقد روي أنّ عبد المطلب كان حجة وأبو طالب كان وصيه (ع)<
(بحار الأنوار: ج 15 ص
117).
ومن هنا قطع الشيخ المجلسي بذلك فقال: >أجمعت
الشيعة على أنّ أبا طالب لم يعبد صنماً قط، وأنه كان من أوصياء إبراهيم الخليل (ع)،
وحكى الطبرسي إجماع أهل العلم على ذلك، ووافقه ابن بطريق في كتاب الاستدراك< (بحار الأنوار: ج 35 ص 138).
ولقد ذكرت الآثار أنّ أبا طالب كان يقول: >ولقد
كان أبي يقرأ الكتاب جميعاً، ولقد قال: إنّ من صلبي لنبياً لوددت أني أدركت ذلك
الزمان فآمنت به، فمن أدركه من ولدي فليؤمن به< (بحار الأنوار: ج 35 ص 147، والطرائف:
ج 1 ص 302).
وحيث إنّ أبا طالب كان مستودع أسرار أبيه
فيما يخص مسيرة النبوة فقد جاءت الرواية الصحيحة بهذا الشأن: سأل درست بن منصور أبا
الحسن موسى بن جعفر (ع): أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) مَحْجُوجاً بِأَبِي طَالِبٍ؟
قال (ع): لا، وَلَكِنَّهُ كَانَ
مُسْتَوْدَعاً لِلْوَصَايَا فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ (ص).
قلت: فَدَفَعَ إِلَيْهِ الْوَصَايَا عَلَى
أَنَّهُ مَحْجُوجٌ بِهِ؟
قال (ع): لَوْ كَانَ مَحْجُوجاً بِهِ مَا
دَفَعَ إِلَيْهِ الْوَصِيَّةَ.
قلت: فَمَا كَانَ حَالُ أَبِي طَالِبٍ؟
قال (ع): أَقَرَّ بِالنَّبِيِّ وَبِمَا
جَاءَ بِهِ وَدَفَعَ إِلَيْهِ الْوَصَايَا وَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ (الكافي: ج 1 ص 445، وكمال الدين: ج 2
ص 657).
ويقول الإمام الصادق (ع): أَنَّ جَبْرَئِيلَ
(ع) نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (ص) فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ رَبَّكَ
يُقْرِئُكَ السَّلامَ وَيَقُولُ لَكَ: إِنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ أَسَرُّوا
الإِيمَانَ وَأَظْهَرُوا الشِّرْكَ، فَآتَاهُمُ اللَّهُ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ،
وَإِنَّ أَبَا طَالِبٍ أَسَرَّ الإِيمَانَ وَأَظْهَرَ الشِّرْكَ فَآتَاهُ اللَّهُ
أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ، وَمَا خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى أَتَتْهُ الْبِشَارَةُ
مِنَ اللَّهِ بِالْجَنَّةِ< (إيمان أبي طالب، للسيد فخار الموسوي: ص 83، ووسائل الشيعة: ج
16 ص 231، والخرائج والجرائح: ج 3 ص 1078، وشرح نهج البلاغة: ج 14 ص 70).
وروي أنّ عثمان بن مظعون
قال: نزلت آية: {إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى
عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
[النحل: 90] على النبي (ص) وأنا عنده، وذكر
أنّه شاهد رسول الله (ص) على غير حالته الطبيعية، فلما سأله: يا رسول الله (ص) ما
رأيتك فعلت الذي فعلت اليوم، ما حالك؟!
قال رسول الله (ص): ولقد رأيتَه؟!
فأجابه عثمان: نعم.
قال رسول الله: ذاك جبرئيل لم يكن لي همّة
غيره، ثم تلا عليه رسول الله (ص) ما أنزل عليه.
قال عثمان: فقمت من عند
رسول الله (ص) معجباً بالذي رأيت، فأتيت أبا طالب وقرأتُ ما أوحي إلى النبي، فعجب
أبو طالب، وقال: يا آل غالب اتبعوه ترشدوا وتفلحوا، فوالله ما يدعو إلا إلى مكارم
الأخلاق
(سعد السعود: ص 122،
وبحار الأنوار: ج 18 ص 268، ومسند أحمد: ج 1 ص 318، والمنتظم: ج 3 ص 190).
المحطة الثالثة: حمايته للنبي (ص):
إنّ الدعوة المحمدية تريد أن تنقل البشرية
من الظلمات إلى النور، كما عبر عن ذلك القرآن الكريم في أحد عشر موضعاً، وهذا هو
الذي ركزّ عليه القرآن في قوله تعالى: {الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ
فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ
فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي
أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف: 157).
من هنا كان الرسول (ص) يدرك جيداً أنّ العمل
الحضاري الضخم الذي قدّر له أن يقود هذا الإنجاز، في حاجة إلى طليعة جهادية تضطلع
معه بحمل أعباء الدعوة من أجل التمكين له في الأرض.
وهو (ص) يعرف أنّ أحوال المجتمعات راسخة
قوية لا يزحزحها ولا يهدم بناءها إلا المطالبة القوية، والاستناد إلى ركن شديد،
كما قال النبي لوط (ع) حينما أحس بالضعف أمام ضغط قومه: {قَالَ
لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} (هود: 80). أي: لو أنّ لي أنصاراً
وأعواناً وعشيرة مانعة قوية تقف معي في مواجهتكم ودفعكم ومغالبتكم.
وهذه سنة طبيعية يحدثنا القرآن في شأنها،
وهذه السنة هي التي حالت بين كفار ثمود وصالح >فدفعتهم الملائكة بالحجارة
فهلكوا، فأتى أصحابهم فرأوهم هلكى، فقالوا لصالح أنت قتلتهم، فأرادوا قتله فمنعهم
عشيرته<
(بحار الأنوار: ج 11 ص
381).
وهي التي حالت بين كفار مدين وشعيب، حيث قال
تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً
مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ
لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} (هود: 21). حيث كان الكفار يقفون موقف
الاحترام، مع كونهم انسجموا مع موقف الكفار، ولم يتبعوا شعيباً في ما ذهب إليه من
دعوة. فهم ينظرون إلى أنّه ليس لشعيب نفسه أية منعة أو عزة أو كرامة.
ومن هنا نلاحظ أنّ شعيباً (ع) لا يعبأ
بمواقفهم ولا يتراجع عن موقفه ورسالته، بل يتابع العمل على تصحيح مفاهيمهم الخاطئة
والمنحرفة؛ ليعرفهم أنّ الدعوة لا تأبه إلا بصلابة الموقف، ومتانة المركز، وقوة
الشخصية، ولا تعتوره التهاويل الكاذبة {قَالَ يَا
قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ الله وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً
إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (هود: 92). لكي لا تتحول الدعوة إلى منظور عشائري
وقومي فقط، وإن كان للعشيرة ثقلها وموقعها.
ولذا كان من الطبيعي أن تكون الدعوة في
المرحلة الأولى في صفوف الأقربين. وخاصة عندما تأخذ طابع المواجهة المعلنة؛ لأنّ
هذه المواجهة تعرّض المبلغ للخطر. فلا بدّ من حماية، وعشيرة المبلغ هم أكثر الناس
استعداداً لحمايته.
ولذا يقول أمير المؤمنين - وهو المنظّر
الاجتماعي الرائع - >أَيُّهَا النّاسُ، إِنَّهُ لاَ يَسْتَغْنِي الرَّجُلُ -
وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ - عَنْ عَشِيرَتِهِ، وَدِفَاعِهِمْ عَنْهُ بِأَيْدِيهِمْ
وَأَلسِنَتِهمْ، وَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَيْطَةً مِنْ وَرَائِهِ وَأَلَمُّهُمْ
لِشَعَثِهِ، وَأَعْطَفُهُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ نَازِلَةٍ إنْ نَزَلَتْ بِهِ ...
وَمَنْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ عَشِيرَتِهِ، فَإِنَّمَا تُقْبَضُ مِنْهُ عَنْهُمْ
يَدٌ وَاحِدَةٌ، وَتُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْهُ أَيْدٍ كَثِيرَةٌ؛ وَمَنْ تَلِنْ
حَاشِيَتُهُ يَسْتَدِمْ مِنْ قَوْمِهِ المَوَدَّةَ< (نهج البلاغة: الخطبة 23).
ولذا جاء الأمر الإلهي صريحاً {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214)، كقاعدة أولى لإنذار الآخرين،
لأنّ الناس قد يتحدثون معه عن عشيرته بأنّهم الأولى باتباعهم خط الدعوة في ما يجب
أن يلتقوا به من مفاهيمها وتعاليمها، فإذا آمنوا به وصدقوه كانوا عوناً له على
رسالته بالتفافهم حوله ونصرتهم له.
ولقد وجدنا بذور الدعوة الأولى داخل بيت
النبي (ص)، الطليعة الجهادية المؤمنة. فكان أول الناس تصديقاً به هم: خديجة، وعلي،
وأبو طالب، وجعفر، ومولاه زيد بن حارثة، وبناته، ولو استعرضنا توزيع من آمن بدعوته
(ص) لوجدنا أنّ بني هاشم كانوا أكثر عدداً من غيرهم.
وفي الصحيح عن هشام بن الحكم عن أبي عبد
الله (ع) قال: بَيْنَا النَّبِيُّ (ص) فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَعَلَيْهِ
ثِيَابٌ لَهُ جُدُدٌ فَأَلْقَى الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِ سَلَى نَاقَةٍ فَمَلَئُوا
ثِيَابَهُ بِهَا، فَدَخَلَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَذَهَبَ إِلَى أَبِي
طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ: يَا عَمِّ كَيْفَ تَرَى حَسَبِي فِيكُمْ؟!
فَقَالَ لَهُ: وَمَا ذَاكَ يَا ابْنَ أَخِي؟!
فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَدَعَا أَبُو
طَالِبٍ حَمْزَةَ، وَأَخَذَ السَّيْفَ، وَقَالَ لِحَمْزَةَ: خُذِ السَّلَى.
ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلَى الْقَوْمِ
وَالنَّبِيُّ مَعَهُ، فَأَتَى قُرَيْشاً وَهُمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ فَلَمَّا
رَأَوْهُ عَرَفُوا الشَّرَّ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ لِحَمْزَةَ: أَمِرَّ
السَّلى عَلَى سِبَالِهِمْ. فَفَعَلَ ذَلِكَ حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهِمْ، ثُمَّ
الْتَفَتَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى النَّبِيِّ (ص) فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي هَذَا
حَسَبُكَ فِينَا (الكافي: ج 1 ص 449).
ويحدثنا التاريخ الإسلامي، فيما يتعلق بنصرة
هذه الطليعة للرسول، موقفاً رائعاً لأبي طالب: أنّ قريشاً لما عرفت أنّ أبا طالب
أبى خذلان رسول الله (ص)، وإسلامه وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم، مشوا إليه
بعمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد أنهد
فتى في قريش وأشعره وأجمله، فخذه فلك عقله ونصرته واتخذه ولداً فهو لك، وأسلم لنا
ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرّق جماعة قومك، وسفّه أحلامهم،
فنقتله، فإنّما رجل كرجل.
فقال: والله لبئس ما تسومونني أتعطونني
ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه هذا والله ما لا يكون أبداً!!
فقال المطعم بن عدي: والله يا أبا طالب لقد
أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكرهه فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً.
فقال أبو طالب للمطعم: والله ما أنصفوني،
ولكنّك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك (تاريخ الطبري: ج 1 ص 545).
ومن المواقف المشهودة: في الليلة التي أسري
بالرسول (ص) افتقده أبو طالب فخاف أن تكون قريشاً قد اغتالته أو قتلته، فجمع سبعين
رجلاً من بني عبد المطلب معهم الشِفار، وأمرهم أن يجلس كل رجل منهم إلى جانب رجل
من قريش، وقال لهم: إن رأيتموني ومحمداً معي فأمسكوا حتى آتيكم، وإلا فليقتل كل رجل
منكم جليسه ولا تنظروني (تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 26).
ولذا يركز اليعقوبي على أنّ أساس قضية
الهجرة إلى الحبشة كانت من منطلق أنّ الرسول (ص) لما رأى >ما فيه أصحابه من
الجهد والعذاب، وما هو فيه من الأمن بمنع أبي طالب عمه إياه، قال لهم: ارحلوا
مهاجرين إلى أرض الحبشة إلى النجاشي، فإنّه يحسن الجوار< (تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 29).
بل
إنّ أبا سلمة المخزومي لمّا دخل في جوار أبي طالب، مشى إليه رجل من بني
مخزوم فقالوا: يا أبا طالب لقد منعت منا ابن أخيك محمداً فما لك ولصاحبنا تمنعه
منا؟ قال: إنه استجار بي وهو ابن اختي وإن أنا لم أمنع ابن اختي لم أمنع ابن اخي (السيرة النبوية، لابن هشام: ج 2 ص 8).
لقد وهب أبو طالب نفسه فداءاً لدعوة الرسول
الأكرم وأشرب عشقاً في الرسالة وفي رسولها، ولذا قال رسول الله يوم موته:
>اجتمعت على هذه الأمة في هذه الأيام مصيبتان لا أدري بأيهما أنا أشد جزعاً<
(تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص
35).
فلمّا مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله
من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى قال الرسول (ص): >ما نالت
مني قريش شيئاً حتى مات أبو طالب< (السيرة النبوية: ج 2 ص 264).
المحطة الرابعة: العمل على إيقاف المد الإسلامي:
لقد راع قريشاً ذلك المد الإسلامي النشط،
فقد كان الإسلام يمتد بين الناس سرعة امتداد النار في الهشيم، يحرق كفرهم ويزرع في
رماده ورود الإيمان، فعملوا جاهدين وبكل وسيلة لإيقاف هذا المد:
1
- توسيط أبي طالب لإسكات محمد:
لقد كانت قريش تعلم أنّ رسول الله عند أبي
طالب بمكان، وأبو طالب عند قريش بمكان أيضاً، فرأوا من الحكمة أن يوسطوا أبا طالب
لعله ينجح في إيقاف هجوم محمد (ص) على عقائد المشركين وبيان زيفها، فسعوا إلى أبي
طالب وقالوا له: يا أبا طالب إنّ ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا
وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه! فقال لهم أبو طالب
قولاً رفيقاً، وردهم رداً جميلاً، فانصرفوا عنه.
2
- تهديد أبي طالب:
لا نشك في أنّ رسول الله قد علم بتوسيط قريش
عمّه أبا طالب ليسكت صوته المدوي بالحق، ولكن متى كان الحق يخضع للوساطة خاصة إذا
كان حاملُه شخصاً كالنبي محمد (ص)؟!
لقد مضى النبي (ص) في دعوته يجمع الناس
ويقودهم إلى العزة قيادة الحكيم البصير، مما زاد التوتر في صفوف قريش حتى فكر
بعضهم بالنيل منه (ص)، ولكن عقلاءهم رأوا من الحكمة أن يسعوا إلى أبي طالب مرة
أخرى.
لقد حملت في المرة الماضية الرجاء، أما الآن
فلا بد من التهديد، فقالوا له: >يا أبا طالب إنّ لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا،
وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على عيب آلهتنا
وتسفيه أحلامنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين<.
فبعث أبو طالب إلى رسول الله (ص) فقال له:
يا ابن أخي، إنّ قومك قد جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا، فأبقِ عليَّ وعلى نفسِكَ، ولا
تحمّلني من الأمر ما لا أطيق.
فظن رسول الله (ص) أنه قد بدا لعمه فيه
بَدَءٌ وأنه خاذِله ومُسلِمُه، وأنه قد ضعُف عن نصرته، فقال رسول الله (ص): يا عم،
والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره
الله أو أهلك فيه، ماتركته!.
ولما ولّى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا ابن
أخي، فأقبل عليه رسول الله (ص) فقال: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا
أسلمك لشيء أبداً.
3
- بذل البديل لأبي طالب:
لما علمت قريش بأنّ أبا طالب لن يتخلى عن
ابن أخيه محمد (ص)، لأنه ربما يؤمل منه النصرة والخير، ففكروا بأنهم لو عوضوه عنه
بشاب قوي قادر على نصرته فلربما استقام لهم ما أرادوا، فمشوا إليه بعمارة بن
الوليد بن المغيرة، فقالوا له: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد، أشد وأقوى وأجمل
فتى في قريش، فخذه، واتخذه ولداً فهو لك، وسلّم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف
دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفَّه أحلامهم فنقتله، فإنما هو رجلٌ برجل!
فقال: والله لبئس ما تسومونني! أتعطوني
ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا والله ما لا يكون أبداً.
فقال المطعِم بن عدي: والله يا أبا طالب لقد
أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً!
فقال أبو طالب للمطعِم: والله ما أنصفوني،
ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم عليَّ، فاصنع ما بدا لك.
المحطة الخامسة: أبو طالب على دين عبد المطلب:
قال الإمام الصادق (ع): نَزَلَ جَبْرَئِيلُ (ع)
عَلَى النَّبِيِّ (ص) فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلامَ
وَيَقُولُ إِنِّي قَدْ حَرَّمْتُ النَّارَ عَلَى صُلْبٍ أَنْزَلَكَ، وَبَطْنٍ
حَمَلَكَ، وَحَجْرٍ كَفَلَكَ؛ فَالصُّلْبُ صُلْبُ أَبِيكَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَالْبَطْنُ الَّذِي حَمَلَكَ فَآمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ،
وَأَمَّا حَجْرٌ كَفَلَكَ فَحَجْرُ أَبِي طَالِبٍ
وفَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدٍ (الكافي: ج 1 ص 447).
عن إسحاق بن جعفر، عن أبيه (ع) قال: قِيلَ
لَهُ إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ كَافِراً؟
فَقَالَ:
كَذَبُوا، كَيْفَ يَكُونُ كَافِراً وَهُوَ يَقُولُ:
أَلَمْ
تَعْلَمُوا أَنَّا وَجَدْنَا مُحَمَّداً نَبِيّاً كَمُوسَى خُطَّ فِي أَوَّلِ الْكُتُبِ
وَفِي
حَدِيثٍ آخَرَ: كَيْفَ يَكُونُ أَبُو طَالِبٍ كَافِراً وَهُوَ يَقُولُ (الكافي: ج 1 ص 449):
لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا
لا مُكَذَّبٌ لَدَيْنَا وَلا
يَعْبَأُ بِقِيلِ الأَبَاطِلِ
وَأَبْيَضُ
يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ثِمَالُ
الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ
إشكالات باطلة:
! تحدثت بعض الروايات عن سبب
نزول {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ
اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56]، كما رواه في الدر المنثور عن
أبي هريرة قال: لما حضرت وفاة أبي طالب، أتاه النبي (ص) فقال: يا عماه قل: أشهد أن
لا إله إلا الله، أشهد لك بها عند الله يوم القيامة، فقال: لولا أن تعيِّرني قريش
يقولون: ما حمله عليها إلا جزعه من الموت لأقررت بها عليك، فأنزل الله عليه: {إِنَّكَ
لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ...}[الدر المنثور:
ج 6 ص 428].
ونلاحظ على ذلك:
1 -
لم يسند ذلك عن رسول الله، ولا عن أحد من الصحابة الموثوقين الذين عاصروا القضية
المذكورة، فلعله سمعها من شخص غير موثوق، هذا مع التحفظ الذي نسجله على شخصية أبي
هريرة، التي اختلف الرأي في توثيقها وعدم توثيقها. ونحن نميل إلى الرأي السلبي،
ونحتمل أن يكون الحديث من موضوعاته، لا سيما أنه يمس الإمام علي (ع)، مما قد يغلب
الظن فيه، أنه كان يتحرك في دائرة الصراع بين علي ومعاوية، كما قيل إنّ معاوية
أراد من بعض الرواة أن يضعوا أحاديث تنتقص من علي وأهل بيته.
2 -
إنّ الحديث يبعث على التساؤل، فكلام أبي طالب يدل على أنّ مسألة الإيمان
بالوحدانية كانت واردةً عنده من حيث المبدأ، والحديث يوحي في أنّ المانع منه خوف
التعيير، فكيف يخاف من ذلك، ولا يخاف من عذاب الله، في الوقت الذي يعرف أنه صائر
إليه، وأنّ التعيير لا يضره شيئاً؟
3 -
إنّ دراستنا لتاريخ أبي طالب في ملامح شخصيته القوّية التي كان الآخرون يخافونها
ويحترمونها، تجعلنا نقتنع بأنه ليس بهذا المستوى من ضعف الشخصية التي تجعله يترك
إيمانه الذي يمثل عمق مصيره، كما يمثل عمق عاطفته تجاه النبي وموقع شرفه العائلي -
لو كان للقضية بعدٌ ذاتي - لمجرد الخوف من تعيير قريش إيّاه بعد الموت.
4 -
إنّ دراسة علاقته بحركة الإسلام في ساحة الصراع بين النبي وبين قريش، تؤكد لنا أنه
كان مسلماً بدرجةٍ عالية، من خلال ما نستكشفه من كلامه وطريقته في إدارة المسألة.
5 -
إنّ أجزاء الآية التي سبقت هذه الآية، تدل على أنّ القضية المثارة هي قضية إيمان
قومه الذين كانوا يواجهونه بالأساليب المتنوعة من خلال الكفر، بحيث تكون جزءاً من
هذا الفصل من السورة، مما تريد تأكيده من حدود الدور النبوي في مسألة الإيمان،
بعيداً عما يحبه وعما لا يحبه في الساحة، والله العالم. فاقرأ الآيات تلحظ ذلك: {قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ
أَهْدَى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ
يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْواءهمْ وَمَنْ أَضَلُّ
مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ * الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ
يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُواْ آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ
مِن رَّبِّنَا إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ
أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرأونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنفِقُونَ * وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ
عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سلامٌ عَلَيْكُمْ
لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [49 - 55].
6 -
إذا كان الله تعالى قد أخبر في كتابه أنّ النبي (ص) كان يحب عمه أبا طالب في قوله {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} فقد ثبت حينئذ
أن أبا طالب كان مؤمناً لأنّ الله تعالى قد نهى عن حب الكافرين في قوله {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ
أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ...}.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق