الأحد، 21 مايو 2023


 

سؤال عن آيتين من سورة آل عمران

وردني سؤال كريم من دولة الكويت يقول السؤال: لماذا قال في الآية الأولى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُم﴾ بإسناد التعذيب إلى ضمير المتكلم، وقال في الآية الثانية: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِم أُجُورَهُم﴾ بإسناد توفية الأجور إلى الغائب ولم يقل: >فأوفيهم أجورهم< فيكون الكلام على نسق واحد؟

نقول وبالله نتوكل:

يدور السؤال حول الآيات الكريمة، في سورة آل عمران: {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) (آل عمران: 55-57)..

وهذه الآيات الكريمة فيها من التنويع والتلوين بين الإفراد والجمع وبين الحاضر والغائب ما لا يخفى، ولكن لكلٍ موضعه، ومنها:

1. ننظر في الآيات يبدأ بقوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} فلم يقل: >إذ قال< للغائب، بل نسب القول لله، وكأننا حينما نسمع {إِذْ قَالَ اللهُ}؛ فالله عزَّ وجلَّ حاضرٌ في القلب دائماً، فهو الحضور الدائم أينما كنت.. وفي الآية {قَالَ} للغائب ولكن حينما اقترن بـ{اللهُ} فهو الحاضر.

2. {يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} >إنّي< -هنا- للتفرد؛ لأنَّ هذا الأمر لا يُنسب إلا لله عزَّ وجلَّ.

3. {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} أي الذين اتبعوا عيسى (ع) بمبادئه التي جاء بها، وليست منها بلا شك تلك المحرّفة، التي ذكرها النص القرآني في أكثر من موضع بقوله: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ} (المائدة: 73)، {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (البقرة: 75)، {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 13).

4. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} وهنا، نلاحظ الحضور للمتكلم الحاضر؛ لأنَّ العذاب يقع في الدنيا والآخرة.

5. {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ من المعلوم أنَّ الأجور تُدفع بعد العمل، فينبغي أن ينتهي العمل حتى تُدفع الأجور، فالأمر إذن غائب، وسوف ينتهي العمل وسوف يوفّون الأجور، هذه واحدة.

6. {فَيُوَفِّيهِمْ} مضارع وهو دال على الغيبة -هنا-، فيتناسب مع غيبة الأجور التي ستُعطى لهم.

7. {فَأُعَذِّبُهُمْ} وهي الحقيقة حيث أنهم في الدنيا يعذبون..

8. {فَأَحْكُمُ} أي عند رجوعكم وهو دال على المباشرة.

9. {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} فأنت أمام عبارة انتهت وبدأت عبارة أخرى؛ فلم يقل >والذين آمنوا<، وإنما العبارة تبدأ {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} إذن هناك مسافة فقال: {فَيُوَفِّيهِمْ} هذه واحدة، إضافة إلى استعمال الغيبة في وصف قاعدة عامة شاملة لكل زمان ومكان: {وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ.

الكلام على نحو التفصيل:

أولاً: قوله تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (آل عمران: 55). يستدعي أن نقف أمام هذا التساؤل: مَنْ المخاطب؟ وهل هي شهادة لأهل الكتاب بأنهم على صواب إلى يوم القيامة؟!

كلٌ يعلم أنَّ عيسى (ع) >اختفى عن الأنظار ولم تختفِ دعوته، وغاب عن الساحة ولم يغب أتباعه، بل اندفعوا بكل صبر وإيمان، يركّزون الأساس، ويرفعون البناء ويصنعون للمستقبل فكره وروحيّته ونظامه... لقد كانت رعاية الله لهم في كل خطواتهم العملية، فبدأ الإيمان يتقدم ليتخذ مواقعه الثابتة في حياة الناس، وبدأ الكفر ينحسر تدريجياً<.

ولقد بدأت هذه الآية بخطاب صريح من الله سبحانه لعيسى (ع) ليس فيه تأويل: {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، وتلاحظ أنَّ التركيب مضى على نمط واحد بحرف العطف وجاء الإخبار بأسماء الفاعلين: (متوفيك - ورافعك - ومطهرك - وجاعل) الذي يفيد الاستمرارية، ثمَّ كانت الإشارة الزمانية في قوله: {إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ}، والإشارة المكانية قبلها: {فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، وهذه شهاد لأتباع عيسى (ع) بأنهم فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة.

وللأسف أنَّ جمعاً من المفسرين، ويتقدمهم الزمخشري (الكشاف: ج 1 ص 433)، قام بليِّ عنق النص، فزعم أنَّ قوله {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ ...} خاص بأمة محمد (ص) والمسلمين، والمسلمون لم يتبعوا عيسى (ع) واتبعوا محمداً (ص) ورسالته التي كانت ناسخة للرسالات قبلها، وكأنه يذهب إلى أنَّ (الواو) في {وَجَاعِلُ} استئنافية أو ابتدائية وليست عاطفة، وكأنَّه نوع من الالتفات؛ وكأنَّ الله سبحانه بعد أن قال: {يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} تركه والتفت إلى محمد (ص) قائلاً: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا}،وهذا المعنى بعيد جداً.

كما زعموا أنَّ الوقف عند قوله: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، ثم بدأت جملة جديدة {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا}..

واعترض أبو حيان الأندلسي على هذا التوجيه قائلاً: >الكاف: ضمير عيسى كالكاف السابقة. وقيل: هو خطاب للنبي (ص)، وهو من تلوين الخطاب. انتهى هذا القول، ولا يظهر< (البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي: ج 3 ص 178).

وتابعه الآلوسي قائلاً: >وتخصيص المتبعين بهذه الأمة -وحمل الأتباع على المجيء بعد- مما لا ينبغي أن يخرج عليه الكتاب الكريم كجعل الخطاب للنبي (ص)، وأنَّ الوقف على {الَّذِينَ كَفَرُوا} {إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ}< (تفسير روح المعاني، الآلوسي: ج 3 ص 182).

نعم، لو جاء النظم القرآني مثلاً: >وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى أن يأتي نبي خاتم أو إلى أن يبعث بعدك أحمد< لدلَّ على ما ذهبوا إليه، وأنَّ الخطاب لأمة النبي محمد (ص)، إلا أنَّ النص جاء صريحاً على غير هذا.

ثانياً: يرى العلامة الطباطبائي -رحمه الله- في تفسيره الميزان، أنَّ المراد بالذين اتبعوه هم النصارى، وبالذين كفروا اليهود، فإنه يكفي إطلاق هذه الصّفة على المتأخرين منهم، وإن خالفوه في بعض تفاصيل رسالته. إنهم يعتبرون امتداداً للذين اتبعوه حقيقة في عصره وبعد عصره، في مقابل اليهود الذين كفروا به في حياته قبل رفعه وبعد رفعه على امتداد الزمن. وبذلك تكون الآية في مقام >بيان نزول السخط الإلهي على اليهود وحلول المكر بهم وتشديد العذاب على أمتهم...< (تفسير الميزان: ج 3 ص 242). كما أضاف -رحمه الله- وجهاً آخر، وهو: >أن يكون المراد بالذين اتبعوا هم النصارى والمسلمون قاطبة، وتكون الآية مخبرة عن كون اليهود تحت إذلال من يذعن لزوم اتباع عيسى إلى يوم القيامة... وهذا أحسن الوجوه في توجيه الآية عند التدبر...< (تفسير الميزان: ج 3 ص 243) كما يقول صاحب الميزان.

ولكن يمكن القول أنَّ جو الآية >يوحي بالوجهين معاً؛ انطلاقاً من أنَّ الآية واردة في مقام إعطاء الفكرة، بأنَّ الذين يضطهدون الأنبياء وأتباعهم لا يحصلون على الامتداد في الزمن في عمليّة ممارسة القوة والغلبة؛ لأنَّ رسالات الله سوف تتقدم وتفرض نفسها على الساحة إن عاجلاً أو آجلاً على أساس سنّة الله في خلقه، من أنَّ الحق لا بدَّ من أن يفرض نفسه في نهاية المطاف؛ والله العالم بحقائق آياته...< (تفسير من وحي القرآن).

ثالثاً: قال تعالى: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} (آل عمران: 55- 56). فأين الدنيا وقد مضت وانتهت؟ وهل قوله {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} من قبيل الكلام الزائد؟! وهل في الآيتين تداخل للأزمنة؟ وهل حلت جهنم في الدنيا؟ ولماذا المشاهد خلاف ذلك؟

ثم هل يتناقض هذا مع قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ (النحل: 61)، ومع قوله: {الْيَوْمَ تُجْزَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} (غافر: 17)؟ وهل يوم القيامة مكان للحكم فيما اختلفوا فيه أم للحساب والعقاب والثواب؟

عندما نستمر مع الآية السابقة وتحديداً مقطعها الأخير {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} (آل عمران: 55-56)، فلو ربطنا الآيتين معاً لوجدنا أنفسنا مع أزمنة وحوادث تداخلت وقد يسبب اضطراباً شديداً عند التدقيق:

أ. حيث انتهت الآية بقوله: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ...}، وعند هذا القدر انتهت الدنيا وانقضت مدة القبر، وبدأت فعاليات يوم القيامة، وبدأ الحساب، وفي هذا اليوم لا ينتظر أن يحكم الله في اختلافهم، بل يحاسب ويعاقب ويثيب.

ب. إلا أنَّ قوله: {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} يشعر أنَّ الأمر سيقف عند هذا الحد، وكأنهم سيبدأون صفحة جديدة بعد أن يحكم سبحانه بينهم ويفصل، وليس هذا المقصود حتى لو فهم من المفردات هذا المعنى؛ لأنَّ الآية بعدها قالت: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}، وكأنَّ قوله: {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} يمثل صدمة فأين الدنيا وقد ذهبت؟ والقرآن ينص أنهم لن يعودوا إليها ثانية، كما أنه لا حاجة من جهة اللغة إلى ذكر الآخرة، وقد أشير إليها في قوله: {إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ} فكأنَّ قوله: {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أشبه بالكلام الزائد!!

قال فخر الدين الرازي: >أما عذاب الكافر في الدنيا فهو من وجهين: أحدهما: القتل والسبي وما شاكله، حتى لو ترك الكفر لم يحسن إيقاعه به، فذلك داخل في عذاب الدنيا. والثاني: ما يلحق الكافر من الأمراض والمصائب، وقد اختلفوا في أنَّ ذلك هل هو عقاب أم لا؟ قال بعضهم: إنه عقاب في حق الكافر، وإذا وقع مثله للمؤمن فإنه لا يكون عقاباً بل يكون ابتلاءً وامتحاناً، ... (أو أنَّ) الآية الدالة على حصول العقاب في الدنيا خاصة، والآيات التي ذكرتموها عامة، والخاص مقدم على العام< (التفسير الكبير، فخر الدين الرازي: ج 8 ص 58). وكأنَّ الله سبحانه يقول لنا: لا تعتقدوا أنَّ تعذيبي إياهم في الدنيا يعفيهم من تعذيبي إياهم في الآخرة؛ لأنَّ التعذيب في الدنيا فقط قد يصيب من آمن بي.

رابعاً: في قوله تعالى في آل عمران: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (آل عمران: 56-57) لماذا قال في الآية الأولى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُم﴾ بإسناد التعذيب إلى ضمير المتكلم، وقال في الآية الثانية: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِم أُجُورَهُم﴾ بإسناد توفية الأجور إلى الغائب ولم يقل: (فأوفيهم أجورهم) فيكون الكلام على نسق واحد؟

والجواب:

1. الآية الأولى في سياق كلام الله سبحانه عن نفسه قال تعالى: {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} (آل عمران: 55-56).. فناسب إسناد التعذيب إلى نفسه جرياً مع سياق الحديث عن النفس.

2. وأما الآية الثانية فهي في مقام الالتفات إلى الغائب وذلك يكون مدخلاً إلى قوله تعالى: ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ فإنه لو لم يلتفت لقال: (وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فأوفيهم أجورهم وأنا لا أحب الظالمين).

3. لم يرد فعل الحب من الله في القرآن إثباتاً أو نفياً مسنداً إلى ضمير المتكلم؛ أي إنَّ الله سبحانه وتعالى لم يقل في جميع القرآن مخبراً عن نفسه بنحو: >وأنا لا أحب الظالمين أو المعتدين<، أو: >وأنا أحب الصابرين أو المحسنين<.. بل يسند ذلك إلى لفظ الجلالة في الأغلب أو إلى ضميره كأن يقول: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}، {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}، {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}، {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}، {فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}.. فالمناسب هو الالتفات وليس الاستمرار بالحديث عن النفس.

الأحد : 2 / 11 / 1444هـ ، الموافق : 21 / 5 / 2023م

الأربعاء، 17 مايو 2023


 

الحكمة من تعدد الشرائع والأنبياء

وردني سؤال كريم من دولة الكويت الحبيبة، يقول ما نصه: لماذا لم يكن كتاب واحد أو قوانين إلهية واحدة، ولكنه بعث رسل وأنبياء (متعددين)؟

ولنفصل في الجواب وعليه سبحانه نتوكل..

يشير القرآن الكريم إلى أنَّ الدين لا يتعدد، وأنه واحدٌ وهو الإسلام، ولكنَّ الشريعة متعددة، وعلينا أن نطرح أولاً تساؤلاً مهماً: ما هو الفرق بين الدين وبين الشريعة؟

بطبيعة الحال ليس حديثنا عن المصطلحات المتعددة للدين، وإنما الحديث عن >الدين الإلهي< و>الشريعة الإلهية< المنسوبين إلى الله سبحانه؛ تحت منظور قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ} (آل عمران: 19)، وتحت منظور قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} (الشورى: 13).

فما الفرق بين الدين الإلهي المنسوب إلى الله، وبين الشريعة الإلهية المنسوبة إلى الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم؟

الجواب: عندما نقرأ قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122)، ندرك أنَّ المراد من الدين هو: منظومة جميع المعارف النازلة من الله، والتي هي أعم من أن تكون ثابتة أو متغيرة، وأعم من أن تكون مرتبطة بالأمور الاعتقادية أو بالأمور العملية والسلوكية.

ولهذا أشرنا في كتابنا (فلسفة العبادات) إلى أنَّ (الفقه) أكثر ما يأتي في الحديث بمعنى البصيرة في أمر الدين، وإنّ الفقيه صاحب هذه البصيرة. >والتبصر في الدين أعم من كونه أصولاً أو فروعاً، فهو معرفة كلِّ ما جاء عن الله سبحانه وتعالى، سواء ما يتصل بالعقيدة أو الأخلاق أو أفعال الجوارح، ولهذا سمى بعضهم كتابه في العقائد: (الفقه الأكبر). ومنه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}. وقوله تعالى: {فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} (الأنعام: 78).. ويقول الشيخ البهائي: >ليس المراد بالفقه الفقه بمعنى الفهم، فإنّه لا يناسب المقام، ولا العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية فإنّه معنى مستحدث، بل المراد به البصيرة في أمر الدين< (راجع مقدمة كتابنا: فلسفة العبادات).

فما هو الغرض من هذا الدين الإلهي؟

الغرض منه إيصال الإنسان إلى كماله النهائي الذي من أجله خُلق؛ {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ} (طه: 50)، أي هيأ له الطريق إلى أن يصل إلى الكمال الذي من أجله خُلق هذا فيما يتعلق بالدين.

أمّا فيما يتعلق بالشريعة فالشريعة بحسب المصطلح القرآني تلك الأمور المرتبط بالبعد العملي في الإنسان أولاً، والمتغيرة غير الثابتة بحسب الظروف والزمان ثانياً.

ومن هنا قالوا أنَّ الشريعة أخص من الدين؛ لأنَّ الدين هو منظومة المعارف الشاملة للفقه الأكبر والفقه الأصغر، أما الشريعة فمختصة بالفقه الأصغر، ومن هنا فهي أخص من الدين.

فالدين تتقوم بأمور ثابتة وبأمور متغيرة، أما الأمور الثابتة فلا تتغير منذ آدم وإلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها، من قبيل الإيمان بالتوحيد والمعاد، وفي ذلك يمكن الاستشهاد بالنصوص القرآنية التالية:

1 . {شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِينَ وَلاَ تَتَفَرَقُوا فِيهِ} (الشورى: 13).

2. {إِنَّ الَذِينَ آمَنُوا وَالَذِينَ هَادُوا وَالنَصَارَى وَالصَابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62).

وهذا المعيار، أي الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، يتسع ليستوعب كل الأديان السماوية أو الإبراهيمية، وهذا الدين العام الشامل هو الإسلام بالمعنى اللغوي، لذلك فعندما يقول الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَهِ الإِسْلامُ} أو {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} فإنَّ المقصود هو هذا الدين العام الشامل الذي نزل على كلِّ الأنبياء، ولذلك يجب ألا نستغرب أنَّ كلَّ الأنبياء بلا استثناء يوصفون في القرآن بأنهم مسلمون.

فالإسلامُ دين جميع الأنبياء والمرسلين، وإن اختلفت شرائعهم وأحكامهم، فإنّهم متفقون على الأصل الأول، وهو التوحيد والإسلام، فمثلاً:

أخبر الله عن نوح (ع): {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (يونس: 72).

وأخبر عن إبراهيم (ع): {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (البقرة: 131).

وأخبر عن موسى (ع): {يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} (يونس: 84).

وأخبر عن حواريي المسيح: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا واشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} (المائدة: 111).

وأخبر عن سليمان (ع) على لسان ملكة سبأ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (النمل: 44).

وأخبر سبحانه وتعالى عن الأنبياء الذين تقدموا: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} (المائدة: 44).

وفى مقابل وحدة الدين تختلف الشرائع، فلكل جماعة دينية جعل الله شرعة ومنهاجاً: {لِكُلٍ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَةً وَاحِدَةً} (المائدة: 48).

وكذلك المناسك التي هي جزء من الشريعة، تختلف باختلاف الشرائع {لِكُلِ أُمَةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ} (الحج: 67).

وقد اقتضت الحكمة الإلهية ألا يكون الناس أمة واحدة وهكذا، فالتعددية في المنهج والمنسك هي الطريق الذي أراده الله للخلق لأسباب يعلمها الله الذي خلق البشر مختلفين في الأعراق والألوان واللغات.. وهذا التنوع يؤدي إلى إذكاء الحيوية وإثراء روح التنافس الحميد..

قال العلامة الطباطبائي: >قوله تعالى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ}، قد مرَّ معنى الإسلام بحسب اللغة، وكأنَّ هذا المعنى هو المراد هاهنا بقرينة ما يذكره من اختلاف أهل الكتاب بعد العلم بغياً بينهم، فيكون المعنى إنَّ الدين عند الله سبحانه واحد لا اختلاف فيه، لم يأمر عباده إلا به، ولم يبيِّن لهم فيما أنزله من الكتاب على أنبيائه إلا إياه، ولم ينصب الآيات الدالة إلا له، وهو الاسلام الذي هو التسليم للحق، الذي هو حق الاعتقاد وحق العمل، وبعبارة أخرى هو التسليم للبيان الصادر عن مقام الربوبية في المعارف والأحكام، وهو وإن اختلف كماً وكيفاً في شرائع أنبيائه ورسله، على ما يحكيه الله سبحانه في كتابه، غير أنه ليس في الحقيقة إلا أمراً واحداً وإنما اختلاف الشرائع بالكمال والنقص... < (تفسير الميزان: ج 3 ص 120).

وقال السيد عبد الأعلى السبزواري: >وكيف كان، فقد اختلفوا في معنى الشريعة، والظاهر أنَّ المراد منها هي الطريقة العملية التي تهدي الإنسان إلى إقامة دين الله تعالى، فتختصّ بالأحكام العملية من الأحكام والفرائض والحدود، وأما الدين، فهو أوسع وأشمل من حيث يشمل جميع جوانب الحياة...< (مواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيد عبد الأعلى السبزواري: ج 11 ص 273).

ونأتي للسؤال الأهم وهو: ما هي فلسفة تعدد الشرائع الإلهية، ولماذا الله سبحانه وتعالى لم ينِّزل من أول الأمر الشريعة الكاملة التي تجيب على كل أسئلة البشرية إلى قيام الساعة، وبعبارة أوضح لماذا لم تُنّزل الشريعة الخاتمة دفعة واحة وجعلها أول الشرائع؟

والجواب: لأنَّ البشرية في تغيِّر مستمر، ولكلِّ زمانٍ ومكانٍ تحتاج إلى شريعة خاصة؛ لأنَّ مقتضى حكمته سبحانه أراد أن يوصل البشرية إلى كمالها المطلوب بحسب مقتضيات القدرة الإنسانية والهداية الربانية {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ} (طه: 50)، وبطبيعة الحال أنَّ كلَّ مرحلة زمنية تحتاج إلى شريعة خاصة بها، وبالتالي فكلُّ شريعة سابقة تحتاج إلى شريعة جديدة إلى أن ختمت بشريعة سيد الأنبياء محمد (ص).

يقول الشهيد مطهري: >إنّ الإسلام دين، وإنّه آخر الأديان، وتعاليمه خالدة، ويجب أن يبقى إلى الأبد حاملاً نفس المواصفات التي كان عليها يوم ظهوره، فهو إذن ظاهرة ثابتة لا تقبل التطوّر، أمّا الزمن فهو متطوّر بذاته، وطبيعته تقتضي التجديد والتغيير، وكلّ يوم يأتي بشيءٍ جديد يختلف عن سابقه، فكيف يمكن التوفيق بين شيئين، أحدهما ثابت في ذاته لا يتغيّر، والآخر متغيّر في ذاته لا يثبت؟... وهل يمكن أن يظلّ الطفل ذو العامين يستعمل نفس ثوبه حين يصير عمره عشرين سنة في حين إنّ جسمه في نموّ متزايد، والثوب هو نفس الثوب الذي كان يستعمله خلال ذلك العمر؟ علينا الإذعان إذن بأنّها مشكلة لا يمكن علاجها بتلك البساطة، وهذه المشكلة تذكّرنا بمشكلة أخرى طرحها الفلاسفة الإلهيّون وعالجوها، وهي: >ربط المتغيّر بالثابت< أو >ربط الحادث بالقديم<. وتبدأ مشكلتهم من قولهم: يجب أن تكون علّة المتغيّر متغيّرة وعلّة الثابت ثابتة، وكذلك علّة الحادث حادثة وعلّة القديم قديمة، إذن كيف تنتهي جميع المتغيّرات والحوادث في العالم إلى علّة أزلية لا تقبل التغيير؟ يجيب الفلاسفة هناك بقولهم: إنّهم اكتشفوا رابطاً ثابتاً أزليّاً من جهة، ومتغيّراً حادثاً من جهةٍ أخرى، ويعتقدون أنّ مهمّة هذا الرابط هي ربط المتغيّرات والحوادث بالذات القديمة الكاملة الأزليّة ...< (الإسلام ومتطلّبات العصر، الشهيد مطهري: ص 14-15).

ملخص وتوضيح لما سلف:

أولاً: إنَّ دين الله واحد، فما أرسل الله رسولا ًولا أنزل كتاباً منذ البداية، إلاّ بهذا الدين الواحد الكامل، الذي ارتضاه لعباده ولا يُقبل من أحد ديناً سواه، وهو الاستسلام لله تعالى بالتوحيد والإيمان، والإذعان له بالطاعة والعبادة، فهذا هو دين جميع الأنبياء: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}.

ثانياً: إنَّ اختلاف الشرائع من حلال وحرام، هي من رحمة الله وفضله، وحكمته وعدله، أن شرع لكلِّ أمّة ما اقتضته حكمته ممّا يناسبها ويليق بحالها وزمانها ومكانها، مع اتفاق الجميع على الأصول والقواعد الكلية، إلى أن أرسل الله النبي محمداً (ص) للناس كافة بالشريعة الباقية إلى قيام الساعة، فأكمل الله له الدين، وأتم عليه النعمة: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}. وهذه الشرائع التي تختلف باختلاف الأمم، هي التي تتغير بحسب تغير الأزمنة والأحوال، وكلُّها ترجع إلى العدل في وقت شرعتها.

ثالثاً: إنَّ الطبائع البشرية تختلف باختلاف مستوى الوعي والبيئة والظروف الاجتماعية والعادات والتقاليد. وكذلك اختلاف العقول وتغيّر الأزمان والتطور العلمي والمعرفي واختلاف الحاجات والأولويات. كلُّ هذه الأمور تستدعي اختلاف الشرائع مراعاة لأحوال الناس وتحقيق مصالحهم. وبالتالي جاءت كلُّ رسالة بتشريعات تفصيلية خاصة تناسب حال القوم المخاطبين بها، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك أيضاً في القرآن الكريم ونبَّه للحكمة منه بقوله: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾. وقد مرت الحياة الإنسانية بأطوار كثيرة، من ضلال وهدى، واستقامة واعوجاج، وبدائية، وتحضّر، وقد واكبت الهداية الربانية كلَّ تلك الأطوار وجاءت بما تتطلبه من حلول وعلاج.

رابعاً: الحفاظ على مصالح البشر الحياتية ومحاربة الفساد والمفسدين، فكلُّ ما فيه صيانة للدين والنفس والعقل والمال والنسل فهو مصلحة تحميها الأديان، وكلُّ ما فيه إخلال بهذه الكليات الخمس، فهو مفسدة تحاربها الأديان وتمنعها.

خامساً: إنَّ الله تعالى خلق الإنسان متفاوت العادات، متفاوت الفكر، متفاوت الرزق، متفاوت في الجهد، في المقام، في الرتبة، ويختلف ذلك باختلاف البلاد، وتباين المذاهب والأوصاف. فالمساواة التامة وهمٌ باطل لا يمكن تحقيقه علمياً؛ يقول تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9)، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} (الرعد: 16).

سادساً: إنَّ احتياجات الأفراد غير متساوية، ومجهودات الأفراد أيضاً غير متساوية، والمساواة الصحيحة هي المساواة في المصالح الاجتماعية. بمعنى العدل لكلِّ فرد وإعطاء كلِّ فرد ما يستحقه من جزاء وعقاب.

سابعاً: إنَّ عملية التطور و الترقي عملية حتمية مستمرة لا توقف لها، ولا مفرَّ منها، فكلُّ مبصر يلاحظ أنَّ التقدم والارتقاء عملية مستمرة، كذلك الفكر والأبداع والفلسفة والعلم والإلهام والأديان. كلُّها مسائل مستمرة طالما أنَّ هناك فكر مستمر متجدد متغير حسب مقتضيات الزمان والمكان، وهذا يحتاج لدين يوافق العصر والمكان؛ لينظم هذا الفكر والرقي بدلاً من اضمحلالهما. فالعالم بدأ بالإنسان الواحد ثمَّ تدرج للأسرة ثم جماعات ثم قبائل ثم الأمة ثمَّ الدولة فتعددت المطالب وأصبحت المصالح مشتركة تدفع هؤلاء البشر الارتباط في شكل حضاري موحد والنهوض في سبيل الإصلاح لمصلحتهم الضيقة فقط دون المجتمعات الأخرى. فاشتد التنازع بمرور الزمن وظهرت الخلافات ونتجت عنها الحروب الفظيعة والقتل والتدمير الشامل لتحقيق مصالح ضيقة. وأصبح إنسان العصر إنساناً عليلاً يحتاج إلى منقذ وشافي له من جراثيم الكراهية وأوهام الاستعلاء، لكن لن يستمر هذا الخلل وسيتوقف هذا التطاحن وتأتي رحمة من الله من خلال رسله المتعاقبين لإصلاح ما فسد بين الناس.

ثامناً: إنَّ الاختلاف بين الأديان في التشريع يعبِّر عن حكمة الله سبحانه في مراعاة أحوال الناس؛ لاختلاف ظروف كلِّ أمّة واختلاف طباعها وتنوع العادات وتباين المصالح، كما أنّه يراعي الطبيعة الإنسانية في مراحل نموها المختلفة ودرجات وعيها المتفاوتة. لذا فإنّ اختلاف المناهج في التشريعات السماوية يُراعى تلك الطبيعة الإنسانية في مراحل نموها النمو البشري ودرجات الوعي البشري، وهذا من مرونة التشريع الرباني؛ بل هو الأهم؛ وهو أنّ التشريع داخل الدين الواحد لا يلزم حالة واحدة، فالمضطر له حُكم وتباح له أمور لا تحل لغيره، والمريض له حُكم وتباح له رخص لا تحل لغيره، والفقير له حُكم في إعفائه من بعض الواجبات والفرائض المالية، والغني له حُكم في إلزامه ببعض الواجبات التي لا تجب على غيره، وهكذا... يعني مرونة التشريع الرباني. وكذلك التدرج في الأحكام بين تشريع وتشريع، وداخل التشريع الواحد أيضاً.

ونسأل الله الهداية لي وللجميع.

الأربعاء: 27 / 10 / 1444 الموافق 17 / 5 / 2023

 

 

 

 

 

 

 

محرم 1447 في الصحافة الكويتية