سياحة في حياة الإمام جعفر الصادق الفكرية
في هذا
اليوم نلتقي بذكرى وفاة الإمام جعفر الصادق -عليه السلام-..
وفي
لقائنا بأي إمام من أئمة أهل البيت -عليهم السلام- في حركة التأريخ لا بدّ لنا من
أن نحرّك تاريخهم، لا من جهة أننا نريد أن نغيب في الماضي لنستغرق فيه. فنحن قوم
مسؤولون عن حاضرنا وعن مستقبلنا بمقدار ما نستطيع أن نتحمل من مسؤولية ما نصنعه من
المستقبل.
وقصة أهل البيت -عليهم
السلام- هي قصة الإسلام، والإسلام لا ينحسر في التاريخ ولا يتأطر به، ولكنه ينفتح على
الحياة كلّها؛ لأنّه الرسالة التي أراد الله أن يحيينا بها، وأن يعطي الحياة لكل
جيل بحسب ما تحتاجه الحياة في الجانب الفكري أو في الجانب العملي... ولذلك فإنّ
استعادتنا لذكرى أهل البيت -عليهم السلام- هي استعادة لحركية الإسلام من خلال
المفاهيم التي طرحوها.
الشخصية الروحانية للصادق -عليه السلام-:
كان
الإمام الصادق -عليه السلام- في حياته كلّها يعيش الروحانية الفيّاضة بالدعاء
والابتهال والمعرفة لله التي تصفو وتسمو وترق وتلين حتى ليشعر الإنسان، وهو يقرأ
الإمام الصادق -عليه السلام- في دعائه وابتهالاته وحديثه عن ربّه، بحضور الله
أمامه كما لو كان يراه.
وبذلك
يكون قد فتح باب المعرفة لله بأوسع ما يكون، واستطاع أن يؤكّد عرفان مذهب أهل
البيت -عليهم السلام- في معرفة الله على أساس المنهج القرآني والنبوي، فلم ينطلق
من خلال فلسفة هنا وفلسفة هناك، أو من مصطلحات غامضة هنا وهناك.
وقد أُثر
عنه ما يقرب من 970 دعاءً جمعها العلامة الشيخ أحمد آل طعان القطيفي في كتابه
(الصحيفة الصادقية) في أكثر من 1000 صفحة.
لقد كان
كلامهم -عليهم السلام- كلام القرآن، وكانت مصطلحاتهم مصطلحاته، وكان منهجهم في
طريق المعرفة بالله هو منهجه، وبذلك يمكن لنا أن نتعرّف على ما ينسب من أحاديث
للإمام الصادق -عليه السلام- من خلال الأسلوب الذي يتمثّل فيه أسلوب القرآن.
يقول عبد الأعلى بن
أَعْيَنَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ -عليه السلام- يَقُولُ: "قَدْ
وَلَدَنِي رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وآله- وَأَنَا أَعْلَمُ كِتَابَ اللهِ،
وَفِيهِ بَدْءُ الْخَلْقِ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَفِيهِ
خَبَرُ السَّمَاءِ وَخَبَرُ الْأَرْضِ وَخَبَرُ الْجَنَّةِ وَخَبَرُ النَّارِ
وَخَبَرُ مَا كَانَ وَخَبَرُ مَا هُوَ كَائِنٌ، أَعْلَمُ ذَلِكَ كَمَا أَنْظُرُ
إِلَى كَفِّي، إِنَّ اللهَ يَقُولُ فِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ" [الكافي: ج 1 ص
61].
فكأنه -عليه السلام-
يتحدّث عن الولادة النسبيّة والعقلية والروحيّة والمعنويّة، وأنَّ علمه في كتاب
الله من خلال الامتداد لرسول الله -صلى الله عليه وآله-، فهو ليس امتداد النسب
فحسب، ولكنه امتداد المعرفة والعقل والتراث الذي انفتح الأئمة المعصومون -عليه
السلام- من خلاله على جدِّهم رسول الله -صلى الله عليه وآله-.
ولذلك
كان -عليه السلام- يقول: "حَدِيثِي حَدِيثُ أَبِي،
وَحَدِيثُ أَبِي حَدِيثُ جَدِّي، وَحَدِيثُ جَدِّي حَدِيثُ الْحُسَيْنِ، وَحَدِيثُ
الْحُسَيْنِ حَدِيثُ الْحَسَنِ، وَحَدِيثُ الْحَسَنِ حَدِيثُ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ -عليه السلام-، وَحَدِيثُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حَدِيثُ رَسُولِ
اللهِ -صلى الله عليه وآله-، وَحَدِيثُ رَسُولِ اللهِ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ" [الكافي: ج 1 ص
53].
فمن يزعم أنَّ لدى أهل
البيت -عليهم السلام- شيئاً زائداً عن الإسلام وعن كتاب الله وسنة رسوله، فهو
يسيء إلى أهل البيت -عليهم السلام-؛ لأنّهم هم أئمة الإسلام الذين يؤصّلون لنا
فكر الإسلام من خلال تأصيل ما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وآله- وعن الله
تعالى في كتابه.
لقد كان -عليه السلام-
المصداق الجلي لحامل القرآن وفي هذا يقول -عليه السلام-: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى
الله عليه وآله-: "إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ
بِالتَّخَشُّعِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ لَحَامِلُ الْقُرْآنِ، وَإِنَّ
أَحَقَّ النَّاسِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ
لَحَامِلُ الْقُرْآنِ..." [الكافي: ج 2 ص 604].
يقول مالك بن أنس: "ما
رأت عينٌ، ولا سمعت أذنٌ ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق فضلاً وعلماً
وعبادةً وورعاً" [مناقب ابن شهر آشوب: ج 3 ص 372].
إغناؤه -عليه السلام- للواقع الإسلامي:
لقد ملأ الإمام
الصادق -عليه السلام- هذه المرحلة الإسلامية علماً، بحيث إنّ الإنسان لا يلتقي
بأيّ موضوع من الموضوعات التي تتصل بالثقافة الإسلامية إلا ويجد للإمام -عليه
السلام- كلاماً فيها وتحليلاً لها، ولا يلتقي بأيّ حركة من حركات الصراع في عصره،
سواء كانت صراعاً بين الإسلام وبين خصومه في المسائل العقدية أو في المسائل
التفصيلية الأخرى، إلا ويجد الإمام الصادق -عليه السلام- ينفتح على كلّ هؤلاء
الذين كان لهم رأي مضاد للرأي الإسلامي، بحيث كان -عليه السلام- يلتقيهم وينفتح
عليهم ويحاورهم ليؤكد لهم أنّ الإسلام لا يلغي الآخر حتى لو كان الآخر يختلف معه
في الأسس، بل إنّ الإسلام يفتح عقله وقلبه وحركته مع الآخر ليحاوره علماً بعلم،
وفكراً بفكر، لتكون النتيجة مع الحقيقة التي تنطلق من خلال الحجة القوية.
ولذلك
نرى أنّ هؤلاء الذين كانوا يطلق عليهم اسم (الزنادقة)، يتحدثون عن الإمام الصادق -عليه
السلام- بالكلمات التي عبّرت عن خشوعهم لعلمه وخضوعهم للحجة التي كان يدلي بها في
مواجهة ما يسوقونه من أفكار.
بين الحكمين الأموي والعباسي:
عاش الإمام الصادق -عليه
السلام- في نهاية الحكم الأموي وبدايات الحكم العباسي، وكان العباسيون مشغولين عنه
من أجل تأسيس ملكهم، ولذلك اندفع الإمام -عليه السلام- ليغني الساحة الإسلامية بما
وهبه الله من علم رسول الله؛ فالله أعطى لرسوله -صلى الله عليه وآله- علم ما أراد
أن يبلّغه مما يحتاجه الناس، وهو وآباؤه -عليهم السلام- قد أخذوا من رسول الله -صلى
الله عليه وآله- ذلك كلّه.
ويمكن القول بكل جرأة أنّ
سند أغلب روايات الشيعة ينتهي بعد أمير المؤمنين -عليه السلام- بالإمامين الباقر
والصادق -عليهما السلام-. وسبب ذلك يعود إلى الظرف السياسي الخاص للمجتمع آنذاك
والذي أتاح لهذين الإمامين أكثر من غيرهما فرصة نشر علوم آل محمد -عليهم السلام-.
ولو أمعنا النظر في كثرة
الأحاديث المنقولة في هذه الفترة، واشتهار علم الفقه والحديث بين المحدِّثين في
ذلك العصر، لأمكننا القول بأنّ علم الفقه لدى أهل السنّة قد دخل أساساً في مرحلة
التدوين منذ هذه المرحلة فصاعداً.
فلم يكن الفقه والحديث قبل
ذلك يلقى رعاية أو اهتمام في المجتمع الإسلامي، بسبب عدة أمور:
1- الصراعات السياسية.
2- نمط التفكير المادي الجامح الذي استحوذ على جهاز
الحكم.
3- منع الخليفتين الأول والثاني لتدوين حديث الرسول -صلى
الله عليه وآله- في الصدر الأول.
وقد بلغ جهل الناس ذروته
عند بدء الفتوحات الإسلامية فانشغال الولاة والناس وانهماكهم في قضايا الفتوحات
والمسائل العسكرية والشؤون المالية. كان قد منعهم من الاهتمام بالنشاطات العلمية
والتربية الدينية..
فعندما قال ابن عباس -في
آخر شهر رمضان بالبصرة التي كان أحد المراكز الأصلية للفتوحات-، وهو يخطب على
المنبر: "اخرجوا صدقة صومكم" لم يفهم الناس معنى كلامه. لذا قال ابن
عباس: "من كان من أهل المدينة حاضراً فليقم ويوضح لهم معنى صدقة الصوم فإنهم
لا يعلمون من زكاة الفطرة الواجبة شيئاً" [الإحكام في
أصول الأحكام، ابن حزم: ج 2 ص 131].
ويقول الدكتور علي حسن: "في
أثناء عصر بني أمية الذين كانوا لا يهتمون كثيراً بأمور الدين كان الشعب في الواقع
قليل الفهم والمعرفة للفقه ومسائل الدين ولم يكن يعرف من هذه الشؤون إلا أهل
المدينة وحدهم" [نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي: ص 110].
وكان أنس بن مالك يتأمل في
زمانه ويقول: "مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى
الله عليه وآله-؟ قِيلَ: الصَّلَاةُ!. قَالَ: أَلَيْسَ ضَيَّعْتُمْ مَا ضَيَّعْتُمْ
فِيهَا" [صحيح البخاري: ج 3 ص 302 ح 506].
كل هذا يدل على نسيان
الفقه والحديث بين عامة الناس، وهو من أهم الأسباب التي دفعت الإمامين الباقر
والصادق -عليهما السلام- إلى الاهتمام بالفقه، بهدف إحيائه بين الناس، وصيانته من
التحريف الذي كان يحصل بالتأكيد في تدوينه وإعادة كتابته.
ولذا كانت مسيرة الإمام -عليه
السلام- العلمية غنية بالعطاء ومنها:
أ - كثرة مناقشاته مع المخالفين لفقه أهل البيت، وإتباع
بعضهم لمنهجه الفقهي.
ب- كشف تحريف البعض لأحاديث الرسول -صلى الله عليه
وآله- لغرض ما يصبو إليه.
ج- معارضته الشديدة لاستدلال أصحاب القياس.
د - سعيه الحثيث لتحديد هوية المعتقد الصحيح لأهل
البيت -عليهم السلام- في المجالات المختلفة عن بقية الفرق.
هـ- موقفه الشديد من الخوارج التي كانت لهم صولات في
تلك الفترة، حيث وصفهم بقوله: "الدِّينُ وَاسِعٌ
وَلَكِنَّ الْخَوَارِجَ ضَيَّقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ جَهْلِهِمْ" [الكافي: ج 2 ص
405].
وكما أنّ الخوارج ضيقوا على أنفسهم وكفروا الناس لجهلهم، كذلك في أيامنا هذه من
يكفِّر الناس أو يضلِّلهم ويخرجهم من الدين والمذهب ليس لعلم بل لجهله بالدين وضيق
أفقه بالمعرفة.
و- مواجهته لظاهرة الغلو التي تفشت في عصره بحيث
استطاع فريق منهم أن يدسوا جملة من الأحاديث على لسان أبيه -عليه السلام-، فقال
فيهم: "كَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ سَعِيدٍ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ
عَلَى أَبِي، وَيَأْخُذُ كَتَبَ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ المستترون
بِأَصْحابِ أَبِي، يَأْخُذُونَ الْكُتُبَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي فَيَدْفَعُونَهَا
إِلَى الْمُغِيرَةِ فَكَانَ يَدُسُّ فِيهَا الْكُفْرَ وَالزَّنْدَقَةَ ويُسنِدُونَها
إِلَى أَبِي، ثُمَّ يَدْفَعُهَا إِلَى أَصْحَابِهِ فَيَأْمُرُ أَنْ يثبتوها
[يبثوها] فِي الشِّيعَةِ، فَكُلُّ مَا كَانَ فِي كُتُبِ أَصْحَابِ أَبِي مِنِ
الْغُلُوِّ فَذَاكَ مَا دسّه [مِمَّا دسّه] الْمُغِيرَةُ بْنُ سَعِيدٍ فِي
كُتُبِهِمْ" [رجال الكشي: ص 298 ح 402].
ز- مواجهته للفكر اليهودي والإسرائيليات والفكر
الإلحادي.
الانفتاح على الجميع:
كان
الإمام الصادق -عليه السلام- يعيش مع الصغير والكبير، ولا يتعقّد من أيّ سؤال، ولا
يشعر بأنّ عليه أن يتحدّث عن طبقة معينة من الناس، وكان يرى أنه ليست هناك طبقية
في العلم، فعلى العالم -لا سيما إذا كان في مستوى المسؤولية الكبرى في موقع
الإمامة- أن يتواضع لكلّ من يتعلّم منه، سواء كان في بداية العلم أو في نهايته؛
لأنّ العالم لا يتكبّر ولا يتجبّر باعتبار أنّ العلم يمثّل حركة الإنسان نحو
الحقيقة التي تنطلق في الحياة تماماً كما هو الهواء والماء والنور.
فكان -عليه
السلام- يمتلك الصدر الرحب، بحيث كانت كلماته مع الذين يوافقونه والذين يخالفونه،
هي كلمات الرفق والرحمة والانفتاح. فكانت ساحته الثقافية مفتوحة للمسلمين جميعاً،
انفتح من خلالها على أصحاب الآراء المختلفة كلّهم، سواء ما كان يلتقي بخطّ
الإمامة، وما لا يلتقي به في هذا الخط.
وكانت
الحجّة هي ما يتحرّك به مع كلّ هؤلاء، ولذلك نستطيع القول إنّ المرحلة كلّها بكل
علمائها ومفكريها ومثقفيها تتلمذت على يدي الإمام الصادق -عليه السلام- ونهلت من
علمه.
وقد سُئِل أبو حنيفة عن
أفقه الناس في زمانه، فقال: جعفر بن محمد [البحار: ج 47
ص 217]..
وكان يقول عنه: "أليس
أنَّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس" [البحار: ج 47
ص 218]..
التراث الموسوعي:
استطاع الإمام الصادق -عليه السلام- أن يجعل مدرسته المفتوحة
على كلِّ الناس مدرسةً تتحرّك لتعطي الثقافة الإسلاميّة أكثر الأساليب والوسائل
شمولاً وسَعَةً..
وكان -عليه السلام- قد اتخذ من مسجد الكوفة، ولفترة زمنيّة
معيّنة، معهداً للتدريس، وفي هذا، يقول حسن بن عليّ الوشّا الكوفي من مشايخ رواة
الحديث: "أدركت في هذا المسجد -مسجد الكوفة- تسعمائة شيخ، كلٌّ يقول: حدّثني
جعفر بن محمد" [رجال النجاشي: ص 30].
ويقول الشيخ المفيد: "ونقل الناسُ عنه من العلوم ما سارت
به الرُّكبان، وانتشر ذكره في البلدان، ولم يُنقل عن أحد من أهل بيته العلماء ما
نُقِل عنه، ولا لقيَ أحدٌ منهم من أهل الآثار ونَقَلَةِ الأخبار، ولا نقلوا عنهم
كما نقلوا عن أبي عبد الله -الصادق -عليه السلام--، فإنَّ أصحاب الحديث قد جمعوا
أسماء الرواة عنه من الثقاة، على اختلافهم في الآراء والمقالات، فكانوا أربعة آلاف
رجل" [الإرشاد: ص 179].
ويقول السيد علي مير الهندي، وهو يتحدّث عن مرحلة الإمام الصادق
-عليه السلام-: "إنَّ الذي تزعّم حركة فكِّ الفكر من عقاله، هو حفيد عليّ بن
أبي طالب -عليه السلام- المسمّى بالإمام الصادق، وهو رجلٌ رحبُ أفقِ التفكير، بعيد
أغوار العقل، مُلِمٌّ كلَّ الإلمام بعلوم عصره، ويُعتبر في الواقع أنَّه أوّل من
أسَّس المدارس الفلسفيّة المشهورة في الإسلام، ولم يكن يحضر حلقته (مجلس درسه)
أولئك الذين أصبحوا مؤسّسي المذاهب الفقهيّة فحسب، ولكن كان يحضرها طلاب الفلسفة
والمتفلسفون من الأنحاء القاصية".
وعندما نريد أن نطلّ على كلمات علماء عصره ممن لا يرى رأيه ولا
مذهبه، من بعض أئمة المذاهب الإسلامية، نعرف من خلال هذه الشهادات كيف استطاع
الإمام الصادق -عليه السلام-، بالرغم من اختلاف الناس حول الإمامة وحوله بالذات في
موقع الإمامة، أن يفرض عظمته وعلمه وكلَّ القِيَم المتمثّلة فيه على كلِّ رجالات
عصره.
يقول مالك بن أنس: "ما رأت عينٌ ولا سمعت أذنٌ ولا خطر على
قلب بشر أفضل من جعفر الصادق فضلاً وعلماً وعبادةً وورعاً" [مناقب ابن شهر
آشوب: ج 3 ص 372].
وقد سُئِل أبو حنيفة عن أفقه الناس في زمانه، فقال: جعفر بن
محمد
[البحار:
ج 47 ص 217].. وكان يقول عنه: "أليس أنَّ أعلم الناس أعلمهم
باختلاف الناس" [البحار: ج 47 ص 218] ..
وقد قال أبو حنيفة ذلك عندما أقدم الخليفة العباسي المنصور
الإمام الصادق -عليه السلام- وطلب من أبي حنيفة مناظرته، فقال المنصور: "يا
أبا حنيفة، إنَّ الناس قد فُتِنوا بجعفر بن محمد، فهيئ لنا من مسائلك الشداد،
فهيّأت له أربعين مسألة"، ثم بعث إليَّ أبو جعفر (المنصور) وهو بالحيرة
فأتيته.. فدخلت عليه، وجعفر جالسٌ عن يمينه، فلما بصرت به، دخلني من الهيبة لجعفر
ما لم يدخلني لأبي جعفر، فسلّمت عليه، فأومأ إليَّ فجلست، ثم التفت إليه، فقال: يا
أبا عبد الله هذا أبو حنيفة، قال: نعم أعرفه، ثم التفت إليَّ فقال: يا أبا حنيفة
ألقِ على أبي عبد الله من مسائلك، فجعلت أُلقي عليه فيجيبني، فيقول: أنتم تقولون
كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربما تابعنا وربما تابعهم وربما
خالفنا جميعاً، حتى أتيت على الأربعين مسألة، فما أخلَّ منها بشيء" [البحار: ج 47
ص 217].
وقد وصف أبو نعيم الأصفهاني المتوفى عام 430هـ الإمام الصادق -عليه
السلام- بأنه: "الإمام الناطق، ذو الزمام السابق، أبو عبد الله جعفر بن محمد
الصادق، أقبل على العبادة والخضوع، وآثر العزلة والخشوع، ونمى عن الرئاسة
والجموع.. وروى عن جعفر عدّة من التابعين: منهم يحيى بن سعيد الأنصاري، وأيوب
السختياني، وأبان بن تغلب، وأبو عمرو بن العلاء، ويزيد بن عبد الله بن الهاد. وحدّث
عنه من الأئمة والأعلام: مالك بن أنس، وشعبة بن الحجّاج، وسفيان الثوري، وابن
جريج، وروح بن القاسم، وسفيان بن عيينة، وسليمان بن بلال، وإسماعيل بن جعفر، وحاتم
بن إسماعيل، وعبد العزيز بن المختار، ووهب بن خالد، وإبراهيم بن طمحان، وأخرج عنه
مسلم ابن الحجّاج في صحيحه محتجّاً بحديثه" [حلية
الأولياء: ص 192-198].
وفي التواريخ أنَّ ابن عُقدة صنّف كتاب الرجال لأبي عبد الله -عليه
السلام- عدّدهم فيه، وكان حفص بن غياث إذا حدّث عنه قال: حدّثني خير الجعافر جعفر
بن محمد، وكان عليّ بن غراب يقول: حدّثني الصادق جعفر بن محمد [البحار: ج 47
ص 27].
وقال نوح بن درّاج لابن أبي ليلى: أكنت تاركاً قولاً قلته، أو
قضاءً قضيته لقول أحد؟ قال: لا، إلاَّ رجلٌ واحدٌ، قلت: مَنْ هو؟ قال: جعفر بن
محمد
[البحار:
ج 47 ص 29].
ولا تخلو كتب الأحاديث والحكمة والزهد والموعظة من كلامه،
يقولون: قال جعفر بن محمد الصادق -عليه السلام- [البحار: ج 47 ص 30].
كما لم تنحصر علومه في علم دون علم، حتى أنّه -عليه السلام- كان
أستاذ جابر بن حيّان في علم الكيمياء الذي انتقل من خلاله إلى أوروبا.
ومن هنا نعرف أنَّ الإمام الصادق -عليه السلام- ملأ المرحلة
التي عاشها مع أبيه الباقر -عليه السلام- في العصر الأمويّ، وبداية العصر
العباسيّ، حتى أنّ أبا حنيفة النعمان، إمام المذهب الحنفي، تتلمذ عليه في مدى
سنتين، وكان يقول: "لولا السنتان لهلك النعمان".
لقد كان الصادق -عليه السلام- يمثّل رحابة العقل والقلب
والعلم.. ولذلك، فإنَّنا نعتقد أنَّ من الضروريّ لكلِّ عالم مسلم ولكلِّ طالب علم
ومثقّف، حتى ولو كان من غير المسلمين، أن يطّلع على تراث الإمام الصادق -عليه
السلام-، لأنَّه تراثٌ موسوعيّ ينفتح على كلِّ قضايا الإنسان في حياته الفردية
والاجتماعية والسياسيّة، حيث كان -عليه السلام- يعيش حرية الفكر، ويعطي للناس
الفكر، ويريد لهم أن يتحدّثوا بكلِّ شيء، وكان يحاور كلَّ الناس، ليؤكّد في سيرته
وحديثه أنَّ على الإنسان العالم أن يفتح عقله وقلبه وعلمه لكلِّ إنسانٍ يطرح
مشكلةً ويُثير شبهةً ويلتزم عقيدةً، حتى ولو كان هذا الإنسان يختلف معه في الأسس..
وهذا ما يختصره زيد بن علي الشهيد الذي قال: "في كلِّ
زمانٍ رجلٌ منا أهل البيت، يحتجُّ الله به على خلقه، وحجّة زماننا ابن أخي جعفر بن
محمد، لا يضلُّ من تبعه ولا يهتدي من خالفه" [أمالي الصدوق:
ص 243].
ويقول الشهرستاني في كتاب الملل والنحل عنه: "وهو ذو علم
غزير في الدين والأدب، وحكمة بالغة في الدنيا، وزهد بالغ في الدين، وورع تام في
الشهوات"..
وكان -عليه السلام- إذا انطلقت أية مشكلة ثقافية في الجوانب
الكلاميّة أو الفلسفيّة أو الفقهية أو التفسيريّة، يطلق أحاديثه ويدفع بتلامذته
إلى ألاَّ يتركوا علامة استفهام في وجدان أيِّ إنسان، سواء كان ممن أطلقها أو ممن
سمعها، لأنَّه كان يريد لأيّة مرحلةٍ يعيشها إمامٌ أو عالم أو مفكّر، أن يحتوي
كلَّ القضايا التي تُثارُ فيها.
وفي هذا يقول اليعقوبي في تاريخه: "كان أفضل الناس وأعلمهم
بدين الله، وكان أهل العلم الذين سمعوا منه إذا رووا عنه قالوا: أخبرنا العالِم"
.
لذلك، ليس هناك مجالٌ للإنسان المسؤول أن يعيش في موقع
اللامبالاة، أمام كلِّ الثقافات التي تتحدّى الإسلام، وأمام كلِّ التيارات التي
تواجه حركته، وأمام كلِّ الأوضاع التي تحيط به..
وعلى العالم ألا يستغرق في جانب معيّن، بل لا بدَّ له أن يتحرّك
في كلِّ الجوانب، حتى يقيم الحجّة على النّاس في ذلك، وهكذا كان أئمتنا -عليهم
السلام- يملأون المرحلة التي يعيشون فيها ويجيبون عن كلِّ مسألة، ويعملون على حلِّ
أيّة مشكلة بحسب ما تسمح لهم الظروف بذلك.
وقد كان الصادق -عليه السلام- يحثُّ أصحابه على ذلك، فيقول: "أحسنوا
النظر في ما لا يسعكم جهلُه، وانصحوا لأنفسكم وجاهدوها في طلب معرفة ما لا عُذْرَ
لكم في جهله، فإنَّ لدين الله أركاناً لا ينفع من جهلها شدّةُ اجتهاده في طلَب
ظاهر عبادته، ولا يضرُّ من عرفها فدانَ بها حسنُ اقتصاده، ولا سبيل لأحدٍ إلى ذلك
إلا بعون من الله عزَّ وجلّ".
من نبع فكره -عليه السلام-:
أولاً: رؤيته -عليه السلام- لحركة
الشرائع:
لقد جاء
في كتاب الكافي بسنده عن الصادق -عليه السلام- أنه قال: "إِنَّ
اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعْطَى مُحَمَّداً -صلى الله عليه وآله- شَرَائِعَ
نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى -عليهم السلام-؛ التَّوْحِيدَ،
وَالْإِخْلَاصَ، وَخَلْعَ الْأَنْدَادِ، وَالْفِطْرَةَ الْحَنِيفِيَّةَ
السَّمْحَةَ، وَلَا رَهْبَانِيَّةَ، وَلَا سِيَاحَةَ، أَحَلَّ فِيهَا
الطَّيِّبَاتِ، وَحَرَّمَ فِيهَا الْخَبَائِثَ، وَوَضَعَ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ
وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ افْتَرَضَ عَلَيْهِ فِيهَا:
الصَّلَاةَ، وَالزَّكَاةَ، وَالصِّيَامَ، وَالْحَجَّ، وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَالْمَوَارِيثَ،
وَالْحُدُودَ، وَالْفَرَائِضَ، وَالْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَزَادَهُ
الْوُضُوءَ، وَفَضَّلَهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَبِخَوَاتِيمِ سُورَةِ
الْبَقَرَةِ، وَالْمُفَصَّلِ، وَأَحَلَّ لَهُ الْمَغْنَمَ، وَالْفَيْءَ،
وَنَصَرَهُ بِالرُّعْبِ، وَجَعَلَ لَهُ الْأَرْضَ مَسْجِداً وَطَهُوراً،
وَأَرْسَلَهُ كَافَّةً إِلَى الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ، وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ،
وَأَعْطَاهُ الْجِزْيَةَ، وَأَسْرَ الْمُشْرِكِينَ، وَفِدَاهُمْ، ثُمَّ كُلِّفَ
مَا لَمْ يُكَلَّفْ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ سَيْفٌ مِنَ
السَّمَاءِ فِي غَيْرِ غِمْدٍ، وَقِيلَ لَهُ: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا
تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ" [الكافي:
ج 2 ص 17].
ففي هذا
النص الرائع تتجلى جملة من الأمور المهمة:
الأولى:
في حركة النبوّات:
"إِنَّ
اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعْطَى مُحَمَّداً -صلى الله عليه وآله- شَرَائِعَ
نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى -عليهم السلام-؛ التَّوْحِيدَ".
فلقد كان الإسلام يتحرّك في الشرائع التي أنزلها على رسله، فكلّ رسول من رسل الله
كان يحمل الإسلام وهذا ما عبّر عنه النبي إبراهيم -عليه السلام-{إِذْ
قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131].
وقد
حدّثنا القرآن أنّ إبراهيم -عليه السلام- هو الذي سمّاكم المسلمين من قبل، لذلك
فقيمة الإسلام بين الأديان كلها أنه يحتضن في داخله العناصر الأساسية للرسالات
السماوية كلّها، فهو -صلى الله عليه وآله- بما يحمله من تنوع في الأدوار لم يهمل
ولم يتعقّد من أية رسالة أخرى.
نعم، ربما
نرى -اليوم- اليهود الذين يتعقّدون من المسيحية والإسلام، أو نرى النصارى الذين
يتعقّدون من الإسلام، أما الإسلام فقد احتضن التوراة والإنجيل {لاَ
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285].
وهذا ما
أكّده الإمام الصادق -عليه السلام- بقوله: "التَّوْحِيدَ،
وَالْإِخْلَاصَ، وَخَلْعَ الْأَنْدَادِ، وَالْفِطْرَةَ الْحَنِيفِيَّةَ
السَّمْحَةَ" وهذه الجملة هي حديث عن شعار كل
دين يبعثه الله على البشر، فدين الله لا يخلو من:
أ - "التَّوْحِيدَ"
فهؤلاء الرسل -عليهم السلام- كلّهم كانت رسالتهم {اعْبُدُوا
اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 65].
ب - "وَالْإِخْلَاصَ"؛
لأنّ الله سبحانه أراد للجميع أن يخلصوا له في حركتهم؛ فمعنى أن توحّد الله هو أن
تعتقد بأنّه سبحانه هو وحده خالق كلّ شيء. منه الوجود ومنه النعمة، فلا بدّ لكلّ
من يعيش التوحيد أن يعيش الإخلاص لله سبحانه.
ج - "وَخَلْعَ
الْأَنْدَادِ"، وهو إنكار كلّ مماثل وشريك له.
د - "وَالْفِطْرَةَ
الْحَنِيفِيَّةَ السَّمْحَةَ"، فالفطرة
هي التي تتمثّل فيها كلّ حالات الصفاء الإنساني الذي يلتقي بالحقيقة، ومن هنا كان
الإسلام دين الفطرة.. و "كل مولود يولد على الفطرة،
إلا أن أبويه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه". والحنيفية
هي التي تتحرّك في خط الاستقامة فلا التواء ولا انحراف، والسمحة
التي تعيش في أجواء لا تعقيد فيها ولا تكلّف ولا حرج.
الثانية:
العيش في قلب الواقـع:
يقول -عليه
السلام-: "وَلَا رَهْبَانِيَّةَ، وَلَا سِيَاحَةَ"،
فالرهبانية تمثّل الخطّ الذي يتحرّك فيه الناس من أجل أن يعتزلوا الدنيا وأهلها،
وأن ينطلقوا بعيداً عن المجتمعات وعن الواقع ليتعبّدوا في الكهوف والمغاور وقمم
الجبال.
وأما
السياحة -فهي بحسب المصطلح- الابتعاد عن المدن والحواضر والسكن في البوادي والقفار
والجبال والأودية، فالإسلام لا يريد للإنسان أن يعيش الانعزال عن المجتمع، ولا
يريد الابتعاد عن المدن والحواضر.
إنّ
الإسلام يريد للإنسان أن يعبد الله في قلب المجتمع والمدينة والحضارة، وأن يعبد
الله عبادة المعرفة المنفتحة عليه، بحيث يستطيع أن يواجه الشبهات والإشكالات
والتعقيدات كلّها، لينطلق من خلال صفاء المعرفة بالله وهو في قلب الحدث.
فالذين
يبتعدون عن الحدث والتجربة وعن ساحات الصراع من أجل أن يحصلوا على النجاة بأنفسهم
كما يقولون، هم أناس يمكن أن يسقطوا أمام أية تجربة مفاجئة، وأمام أية حالة صراع؛
لأنّ الصراع يعطي الإنسان مناعة من كلّ ما يواجهه من تحديات، ولأنّ التجربة تعطي
الإنسان الفكرة كيف يتفادى المزالق وكيف يبتعد عن الانهيارات، ولذلك فلا رهبانية
ولا سياحة في الإسلام، فالإنسان المسلم هو الإنسان الاجتماعي الذي يدخل المجتمع
وينطلق من خلال خطّ الجهاد.
الثالثة:
الطيّبات والخبائث:
"أَحَلَّ
فِيهَا الطَّيِّبَاتِ، وَحَرَّمَ فِيهَا الْخَبَائِثَ".
فالله لم يحرم الإنسان من طيّبات الحياة الدنيا، بل خلقها للإنسان وخلق طيباتها
كلّها له، وعندما حرّم عليه ما حرّم فإنه حرّم الخبائث.
ولهذا
فمن الممكن للإنسان إذا ابتعد عن الخبائث التي تضرّ عقله أو جسده أو حياته، فكلّ
الطيبات له {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ
لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32].
{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:5].
فللإنسان الحق في أن يعيش في الدنيا منعّماً ومرفّهاً، ولكن من حلال.
فليست
المسألة أن يزهد الإنسان في الدنيا بمعنى أن يتركها، ولكن أن يزهد في الدنيا، أن
لا تمتلكه الدنيا وأن لا تستعبده وأن لا يسقط أمامها، بل أن يكون سيّدها لا
عبدها.. يتناول منها ما يحتاجه، ولكن إذا تحرّكت حاجاته في الاتجاه الخطأ أسقط
حاجاته وأحضر مبادئه تماماً كما عبّر علي -عليه السلام- عن ذلك في قوله وهو يتحدث
عن ساحة الصراع التي كانت تريد أن تجتذبه ليغدر وليفجر وليأخذ بالحيلة وليتحرّك
بعيداً عن الاستقامة: "قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ
الْقُلَّبُ وَجْهَ الْحِيلَةِ وَدُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ،
فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْنٍ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَيَنْتَهِزُ
فُرْصَتَهَا مَنْ لَا حَرِيجَةَ لَهُ فِي الدِّينِ".
ثم يقول
الصادق -عليه السلام- -فيما يتعلق بالطيبات والخبائث-: "وَوَضَعَ
عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ".
والإصر في اللغة هو الثقل، ففي الإسلام ليس هناك ثقل يبتعد عن الطبيعة الإنسانية
في حركتها في النظام العام {وما جعل عليكم في الدين من حرج}
[الحج:78]. {يريد
الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة:185].
والرسول -صلى الله عليه وآله- يقول: "أتيتكم
بالشريعة السهلة السمحة".
الرابعة:
الفرائض والعبادات:
"ثُمَّ
افْتَرَضَ عَلَيْهِ فِيهَا: الصَّلَاةَ، وَالزَّكَاةَ، وَالصِّيَامَ، وَالْحَجَّ،
وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ".
وهاتان الفريضتان تمثلان رقابة المجتمع على بعضه البعض، فالمجتمع يتحرّك على أساس
أن يكون بعضه مسؤولاً عن بعض من أجل أن يواجه الانحرافات التي تتحرّك لإسقاط
المعروف وإقامة المنكر، من أجل أن يصلح ذلك كلّه.
"وَالْحَلَالَ
وَالْحَرَامَ، وَالْمَوَارِيثَ، وَالْحُدُودَ، وَالْفَرَائِضَ، وَالْجِهَادَ فِي
سَبِيلِ اللهِ، وَزَادَهُ الْوُضُوءَ" باعتبار
ما يمثل الوضوء من رمز للطهارة والنظافة.
"وَفَضَّلَهُ
بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" التي تمثل خلاصة العقيدة
الإسلامية في كلّ ما تتحدث عنه من صفات الله ومن موقف الإنسان أمامه وفي دراسته
للخطوط التي يتحرّك فيها الناس من المغضوب عليهم ومن الضالين ومن السائرين في خط
الاستقامة.
"وَبِخَوَاتِيمِ
سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالْمُفَصَّلِ" وخواتيم
سورة البقرة هي السور الطوال: (البقرة: وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام،
والأعراف، والقريبتان الأنفال والتوبة). وأما المفصّل فقد اختلف فيه، فبعض يقول من
سورة محمد إلى آخر القرآن وقيل من سورة ق.
"وَأَحَلَّ
لَهُ الْمَغْنَمَ، وَالْفَيْءَ، وَنَصَرَهُ بِالرُّعْبِ"
عندما يخوض الحرب.
"وَجَعَلَ
لَهُ الْأَرْضَ مَسْجِداً وَطَهُوراً" يسجد
ويتيمّم عليها.
"وَأَرْسَلَهُ
كَافَّةً إِلَى الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ، وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَأَعْطَاهُ
الْجِزْيَةَ" عندما يريد أن يعقد معاهدة مع
أهل الكتاب.
"وَأَسْرَ
الْمُشْرِكِينَ، وَفِدَاهُمْ، ثُمَّ كُلِّفَ مَا لَمْ يُكَلَّفْ أَحَدٌ مِنَ
الْأَنْبِيَاءِ، وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ سَيْفٌ مِنَ السَّمَاءِ فِي غَيْرِ غِمْدٍ"
وهو الجهاد لأنّ الله لم يكلّف أي نبيّ قبل النبي محمد -صلى الله عليه وآله-
بالجهاد، وَقِيلَ لَهُ: {فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا
تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:84].
هذا هو
الحديث الذي لخّص فيه الإمام الصادق -صلى الله عليه وآله- الشريعة الإسلامية التي
أخذت من كلّ شريعة من شرائع الرسل السابقين ما يبقى للحياة من ذلك. ومن خلال هذا
التلخيص الصادقي للشريعة الإسلامية، نعرف أنّها لا تنحصر في العبادات ولا تنعزل عن
الحياة، بل تنفتح عليها كلّها، وتضع لكلّ واقعة من الوقائع حكمها الشرعي.
ثانياً: رؤيته -عليه السلام- للشريعة
والمنهاج:
في حديث
سماعة بن مهران -وهو يعالج مصطلح (أولي العزم) من أين نشأ- قال: قُلْتُ لِأَبِي
عَبْدِ اللهِ -عليه السلام- قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ:
{فَاصْبِر كَما صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}
[الأحقاف:35]. فَقَالَ
-عليه السلام-: "نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى
وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وآله-". قُلْتُ: كَيْفَ
صَارُوا أُولِي الْعَزْمِ؟ قَالَ: لِأَنَّ
نُوحاً بُعِثَ بِكِتَابٍ وَشَرِيعَةٍ، وَكُلُّ مَنْ جَاءَ بَعْدَ نُوحٍ أَخَذَ
بِكِتَابِ نُوحٍ وَشَرِيعَتِهِ وَمِنْهَاجِهِ، حَتَّى جَاءَ إِبْرَاهِيمُ -عليه
السلام- بِالصُّحُفِ وَبِعَزِيمَةِ تَرْكِ كِتَابِ نُوحٍ، لَا كُفْراً بِهِ؛
فَكُلُّ نَبِيٍّ جَاءَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ -عليه السلام- أَخَذَ بِشَرِيعَةِ
إِبْرَاهِيمَ وَمِنْهَاجِهِ وَبِالصُّحُفِ".
إذن كلّ
من جاء بعد نوح أخذ بكتاب نوح وشريعته ومنهاجه فلم تكن محدودة بزمنه في المدة بينه
وبين إبراهيم -عليه السلام-، بل كانت رسالته تمثل خط العزم الممتد في حياة الناس
من بعده إلى أن جاء إبراهيم الخليل -عليه
السلام-.
وهنا
نتوقّف أمام كلمة "تَرْكِ كِتَابِ نُوحٍ"
لنعرف من خلال ذلك أنّ قضية إنزال الكتب على الأنبياء -عليهم السلام- كانت تخضع
لحكمة الله سبحانه وتعالى في الحاجات التي تحتاجها البشرية في تلك المرحلة، سواء
في الجوانب العقدية الفكرية أو في الجوانب العملية، بحيث أنّها تمتد ما امتدّت
مرحلة النبي، فإذا جاء النبي الآخر وأرسله بصحيفة أخرى، وبكتاب آخر قد يبقى فيه ما
جاء في الكتاب الأول، لكنّه يزيد فيه بما تحتاجه المرحلة الجديدة مما استهلكته
المرحلة السابقة، أو مما لم تكن المرحلة السابقة بحاجة إليه؛ لأنّ الله ينزِّل
شرائعه على حساب الحاجات الطبيعية للناس وهو العالم بما يصلحهم وما يفسدهم، والحكم
الشرعي يصلح الناس إذا كان في خط الحلال في مرحلة معينة، حتى إذا انتهت تلك
المرحلة، فربّما يكون ما يصلح مفسداً في المرحلة الجديدة، وربّما يكون ما يفسد في
الماضي غير مفسد فيها. ولذلك نجد أنّ عيسى -عليه السلام- عندما جاء في خطابه
الرسالي لبني إسرائيل قال: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ
عَلَيْكُمْ} [آل
عمران:50].
فقد كانت
هناك أشياء محرّمة عليكم لأنها كانت تمثل الإفساد لواقعكم، ولكن عندما تنتهي تلك
المرحلة وتأتي المرحلة الجديدة، فقد ينقلب الحرام إلى حلال كما ينقلب الحلال إلى
حرام، وهذا ما نلاحظه في نسخ بعض الأحكام بين شريعة وشريعة. أو في الشريعة
الواحدة.
ثم قال
الإمام -عليه السلام- بعد ذلك: "حَتَّى جَاءَ مُوسَى
بِالتَّوْرَاةِ وَشَرِيعَتِهِ وَمِنْهَاجِهِ، وَبِعَزِيمَةِ تَرْكِ الصُّحُفِ،
وَكُلُّ نَبِيٍّ جَاءَ بَعْدَ مُوسَى -عليه السلام- أَخَذَ بِالتَّوْرَاةِ
وَشَرِيعَتِهِ وَمِنْهَاجِهِ، حَتَّى جَاءَ الْمَسِيحُ -عليه السلام-
بِالْإِنْجِيلِ وَبِعَزِيمَةِ تَرْكِ شَرِيعَةِ مُوسَى وَمِنْهَاجِهِ، فَكُلُّ
نَبِيٍّ جَاءَ بَعْدَ الْمَسِيحِ أَخَذَ بِشَرِيعَتِهِ وَمِنْهَاجِهِ، حَتَّى
جَاءَ مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وآله- فَجَاءَ بِالْقُرْآنِ وَبِشَرِيعَتِهِ
وَمِنْهَاجِهِ؛ فَحَلَالُهُ حَلَالٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَحَرَامُهُ
حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَهَؤُلَاءِ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ -عليهم
السلام-".
وبهذا
تعرف أنّ لوطاً -عليه السلام- كان نبياً لا في عرض إبراهيم، أي كان نبياً تابعاً {فَآمَنَ
لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}
[العنكبوت: 26]. فلوط
هو الذي انفتح على رسالة إبراهيم -عليه السلام- وأرسله الله بإشارة إبراهيم كما لو
كان نبيّ قرية أو جماعة.
فجاء موسى
-عليه السلام- فألغى أيضاً صحف إبراهيم -عليه السلام- لا كفراً بها، ولكن لأنّ
الكتاب الجديد يشتمل على ما في تلك الصحف مما سبق، ويأتي بأشياء جديدة، ومن ثم جاء
عيسى -عليه السلام- ومن ثم جاء محمد -صلى الله عليه وآله-.
رسالة الإسلام للحياة كلّـها:
وبذلك
كانت رسالة الإسلام هي رسالة الحياة كلها بعد النبي -صلى الله عليه وآله- حملها
أئمة أهل البيت -عليهم السلام- بكل أمانة وموضوعية؛ لأنّهم اختزنوا العناصر التي
تتحرّك مع تطوّر الحياة، من خلال العقل لذي يطوّر الواقع و أسرار الحياة والكون
ويطوّر للإنسان أساليبه ووسائله وحركته في الحياة، ومن خلال قيمة العلم الذي
يتحرّك ويتطوّر وينفتح على الآفاق ويعطي الإنسان الكثير من التقدّم.
ويختم
الإمام الصادق -عليه السلام- حديثه بـ(أولي العزم) بالقول: "فَهَؤُلَاءِ
أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ -عليهم السلام-"..
فنحن نؤمن بكلّ رسل الله كلاً في مرحلته، وبكلّ كتاب الله كلاً في مرحلته، ونؤمن
بالكتاب كلّه، وهذه هي ميزة الإسلام المنفتح كلاً على تاريخ الرسالات كلّها
والمنفتح كلاً على مسيرة الإنسان في الحياة كلها.
فعلينا -أيها
الأخوة- مع كتاب الله ومع سنّة رسوله ومع هذا التراث الطاهر الغني من تراث أهل
البيت -عليهم السلام- فيما استوحوه من كتاب الله وسنّة رسوله.
علينا أن
نتحرك دائماً، لأنّ ذلك هو سبيل النجاة "مثل
أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها"، في
مفاهيمها وإيحاءاتها وحركيّتها "نجا ومن تخلّف عنها"،
واتبع الباطل "غرق وهوى".
فتعالوا
إلى الإسلام في خط أهل البيت الذي هو الخط الذي تركه رسول الله -صلى الله عليه
وآله- في الثقلين "كتاب الله حبل ممدود من السماء
إلى الأرض وعترتي أهل بيتي فإنهما" في عمق
الحقيقة "لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض".
من خلال الدور الذي لعبه
الإمام الصادق -عليه السلام-إننا بحاجة في هذه المرحلة إلى تعزيز حضور الله في
داخل نفوسنا.. هذا الحضور الذي يجعلنا لا نيأس رغم كل الضغوط التي نواجهها في
الحياة.. ولا نطلق العنان لانفعالاتنا وتوتراتنا.. ولا نتحرك إلا حيث يريدنا الله
أن نتحرك..
فالسلام عليك يا إمام
العلماء، السلام عليك يا إمام الحوار... السّلام عليك يوم ولدت، ويوم انتقلت إلى
رحاب ربّك، ويوم تُبعث حيّاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق