** كربلاء الذكرى والخلود **
في
المعتبرة عن عبد الله بن ميمون القداح، عن أبي عبد الله (ع) قال: "مرّ أمير
المؤمنين (ع) بكربلاء في أناس من أصحابه، فلمّا مرّ بها اغرورقت عيناه بالبكاء،
ثمّ قال: هذا مُنَاخُ ركابهم، وهذا مُلقى رحالهم، وهنا تُهرق دماؤهم، طوبى لكِ من
تربة عليك تُهرق دماءُ الأحبّة" [كامل الزيارات: ص 269 ح 11].
كربلاء وواقعتها مصداق جليّ لحقيقة قرآنية {أَلَمْ
تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا
ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي
أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
لست -هنا-
بصدد متابعة جميع تجليات كربلاء، وإنّما أريد أن أشير لبعد من أبعاد تلك الحقيقة،
وهو المدلول عليه بقوله تعالى: {أَصْلُهَا
ثَابِتٌ} بما يمثله من عمق في امتداد الأرض قوة وثباتاً،
بحيث لا يمكن لأية عاصفة أن تقتلعها، مهما كانت قوتها. وليس لعطائها وقت محدود، بل
أودع الله فيها من عناصر النموّ الذاتية، والقدرة على الاستمرار في التفاعل مع
كل العوامل الخارجية المحيطة بها.
ü
فما هي العوامل التي
ساهمت في تخليد كربلاء؟
ü
وكيف نورث حب كربلاء
للأجيال؟
العوامل
التي ساهمت في خلود رسالة كربلاء:
·
هدفية
النهضة (المشروعية)
·
السبب
الاستراتيجي (الواقعية)
·
آلية
تطبيق المنهج (الخطط والمبادئ)
·
جاهزية
الإظهار (الإعلام)
العامل الأول: يكمن في هدفية نهضة كربلاء
(المشروعية):
لا بد أنّ
خلود أي نهضة إنما يأتي من فاعلية المبادئ التي تحملها هذه النهضة، وما عكسته على
أرض الواقع من تطبيق لهذه المبادئ: فما هو الهدف من النهضة الحسينية؟
1- بعضهم ذهب
إلى أنّ الهدف هو إيقاظ الأمة، كما ذهب إليه الشهيد الصدر محمد باقر الصدر (قده).
2- وبعضهم
ذهب إلى أنّ الهدف هو الوصول إلى الحكم.
3- الهدف هو
نزع المشروعية السياسية والدينية عن السلطة الأموية، حيث كانت هذه السلطة تقدم
صورة مشوهة عن الإسلام، كما تسعى لاستغلال الدين من أجل تبرير أفعالها.
نقول: ما نؤمن
بداهة أنّ مسؤولية النبوة والإمامة بل مسؤولية (الرسالي) أيضاً هي الهداية لا
الثورة (العمل المسلح)، فالثورة ليست أصيلة في
حياة الإمام، وإنّما الأصالة للهداية، نعم قد تتحقق الهداية عبر وسيلة الثورة، وقد تتحقق بغيرها، فمن قال
إنّ الظلم لا يرتفع إلاّ عن طريق الثورة والاقتصاص من شخص الظالم; فهذا إن صح في
بعض الأحيان إلاّ انه لا يصح مطلقاً.
يقول
الإمام الخميني في هذا السياق: "إنّ النبي الأكرم (ص) لم يُختر لحمل الرسالة الخاتمة من
أجل إقامة حكومة، ولم يكن ذلك هو الهدف الأساسي والنهائي لرسالته السماوية، وكذلك
الحال بالنسبة لبقية الأنبياء... إنّما كان هدفهم من إقامة العدل وتشكيل الحكومات
مقدمة وتمهيداً لتحقيق الهدف السامي والجوهري من إرسالهم إلى الأمم، ألا وهو تعريف
الناس بالخالق سبحانه وتعالى".
فما تقول
في قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ
وَلَـكِنَّ اللهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ} أي في إلزامهم القسري -وبطريقة غير
عادية- على المنهج الأخلاقي في سلوكهم العملي.. فإنّ دورك الرسالي هو إبلاغ
الرسالة في تفاصيلها بكل جهدك في طرح الفكرة وتنويع الأسلوب، وإيجاد الأجواء
الملائمة التي تنفذ -من خلالها- الفكرة إلى عقولهم لتكوين قناعاتهم على أساس ذلك
كله، فتلك هي قدرتك البشرية التي تتحرك الرسالة في نطاقها الخاص الطبيعي، فلا تملك
أيّ وضع آخر غير عادي، لأنّ المعجزة ليست سبيلك في الهداية، بل هي سبيلك بإذن الله
في ردّ التحدي. {وَلَـكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن
يَشَآءُ} بما أودعه في الإنسان من عناصر الهداية في أسبابها الوجودية.
فالعمل
السياسي، والتكليف الشرعي، إنما كانت (سلوكاً) قبل أن تكون (دعوى)، أن تلتصق هذه
الممارسة بوشيجتين لم يستطع أعداؤه التفريق بينهما أو تفكيكهما، وشيجة مع الناس،
ووشيجة مع الله تعالى، وما عدا ذلك سيكون مثله مثل أولئك الذين {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ
مِّنْ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ}.
تماماً كما
أراد الإمام الحسين (ع) من وراء ثورته وتضحيته حين لخّص هدفه السامي المقدس ذاك
بقوله: "اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا
منافسة في سلطان، ولا التماساً لفضول الحطام، ولكن لنرّد المعالم من دينك، ونظهر
الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويُعمل بفرائضك وسننك وأحكامك".
العامل الثاني: السبب الاستراتيجي لنهضة
الحسين (الواقعية):
وقف الإمام
الحسين (ع) ليعالج مرضاً أصيبت به الأمة وهو (هو حالة انعدام الإرادة وانعدام وضوح
الطريق)؛ ووصل ذلك عبر سلسلة من الإزاحات:
·
فقد استسلمت الأمة بعد
الرسول لعهد (الخلافة الراشدة) وتحقيق نظرية "المفضول على الفاضل". إنّ
وصول رجال للسلطة غير منصوص عليهم، قد عطل فاعلية الروح، وأبعد المجتمع عن المسار
الإلهي لولا وجود علي (ع) وقتها.
·
ثم تتابع الصدام
الدموي ضد أمير المؤمنين (ع)، والذي أوصل الأمة إلى حالة (الشك والإنقلاب) مع
بداية ملك معاوية.. فوصول آل أبي سفيان وآل الحكم، قد مثل انحرافاً كاملاً للمجتمع
عن حقيقة الروح الاجتماعية وفق المنظور الإلهي.
·
الوضوح والتصارح بين
جناحين متصارعين، وما اتضحت معالمه إلا بعد أن فقدت الأمة كامل إرادتها، واستطاع
الذين اغتصبوها وسرقوا شخصيتها وزوّروا إرادتها وأباحوا كرامتها، أن يخدّروها وأن
يجعلوها غير قادرة على مجابهة الموقف.
لا شك أنّ
فترة عشر سنوات في حياة الشعوب والحضارات تعتبر قصيرة جداً خاصة إذا ما أريد لها
تربية الناس على خلاف ما كانوا قد ترعرعوا عليه من سجايا وخصائص، كما هو الحال في
المجتمع الجاهلي الذي كان على النقيض تماماً من مضامين هذه الركائز في كل شؤونه.
لذلك لم يدم الوضع طويلاً على تلك الحالة، فكلما كان الوقت يمضي كان المجتمع
الإسلامي ينحدر تدريجياً نحو الضعف والخواء.
لم يمض
بعدُ نصفُ قرن على رحيل الرسول (ص) حتى كادت تلك الركائز -التي على أساسها أشاد
النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والقضائي...- كادت تنقرض وتنمحي من حياة
الناس. ولم يعد معاوية خليفة لمن قبله، كنسق سائد عند الخلفاء السابقين، وإنّما
أضحى بين ليلة وأخرى خليفة الله، واجتهد حزبه في البرهنة على حقهم الشرعي والحصري
بالخلافة، أي بسياسة الناس في دينهم ودنياهم، مما يستتبع نشوء حاكمية مزدوجة
(دينية/مدنية) والتي هي الوجه الحقيقي لعملهم السياسي. واعتمدوا في تبرير سلطتهم
وامتيازاتهم على موقعهم النسبي!
ولذلك نرى
أنّ السلطة الأموية، أجازت:
1- أن تحافظ على النظام
المناسب لها، وتنتقل وفقاً لإجراءات وراثية على امتداد التسلسل الإداري.
2- أن تساهم في بروز
أحداث غير مألوفة ومقلقة (كقتل الهاشميين)، وانتهاك الحرمات والمقدسات والتي تمثلت
بدك الكعبة وإحراقها.
3- أن تحطم المدرسة
المعرفية والفكرية لأهل البيت (ع)؛ من خلال: اختلاق الأحاديث في ذم علي (ع) والنيل
منه على المنابر، وعدم الرواية عن الحسين (ع).
4- أن تعتمد على ربط
السياسة بالقداسة، وأن ترمي بالكفر جميع الأحزاب الخارجة عليها. وتطبيق قاعدة
(المحلل والمحرم) (المقدس والمدنس). فكل اعتداء على السلطة هو سقوط في دائرة
المحرمات (المدنسات)، وكل تحالف معها هو إحياء في دائرة المحللات (المقدسات).
ولذلك خرج شعار "إذا كان بينكم أمير، وقام أحد وادعى الإمارة، فسارعوا واقتلوه".
وعرف فيما بعد ذلك بـ"حرمة الخروج على الحاكم الظالم".. ولهذا
كانت بعض الأحاديث محل عناية من الجهاز الثقافي للسلطة...
إنّ حشد
هذا المفهوم كانت له تداعيات خطيرة على مستوى تشكيل الوعي الديني / السياسي
للمجتمع الإسلامي، ومن هذه التداعيات:
أ- حرمة
الخروج على الحاكم الظالم.
ب- وجوب
طاعة الحاكم الظالم.
ج- حرمة
نقض البيعة للحاكم الظالم.
د- حرمة
الخروج على الجماعة وشق عصا المسلمين. وهذا ما قاله معاوية صريحاً لعبد الله بن
عمر عندما سأله عن سبب تنصيب يزيد خليفة: "إني أحذرك أن تشق عصا المسلمين
وتسعى في تفريق مَلَئِهم وأن تسفك دماءهم" [ الإمامة والسياسة: ص 210].
5- أجازت أن ترسي دعائم الجبر والإرجاء: من خلال
التلاعب في أسس الدين وعقائده ومفاهيمه الصحيحة، ومن أخطر ما روجوه بين الأمة
وأكدوا على إشاعته هو فكرة الجبر الإلهي بهدف التمكن من السلطة والسيطرة التامة
على مصير الناس(المغني، كتاب المخلوق: ص 4،
واقرأ: العدالة الاجتماعية، لسيد قطب).
يقول
الدكتور أحمد محمود صبحي: "إنّ معاوية لم يكن يدعم ملكه بالقوة فحسب ولكن
بأيديولوجية تمس العقيدة في الصميم، ولقد كان يعلن في الناس أنّ الخلافة بينه وبين
علي قد احتكما فيها إلى الله فقضى الله له على علي... وهكذا كاد يستقر في أذهان
المسلمين أنّ كل ما يأمر به الخليفة حتى لو كانت طاعة الله في خلافه قضاء من الله
قد قدر على العباد" (نظرية الإمامة لدى الشيعة: ص 349).
إنّ
المشكلة الكبيرة التي كانت تواجه معاوية هي قضية تنصيب ولده يزيد خليفة على
المسلمين، لذا كان على معاوية أن يحرف في بعض مفاهيم الدين من أجل أن يبرر تولية
ابنه. فقصد المدينة من أجل تهيئة الظروف المناسبة لولاية يزيد وأخذ البيعة له،
والتقى في سبيل ذلك بالسيدة عائشة فكان مما قاله لها: "إنّ أمر يزيد قضاء من
القضاء، وليس للعباد الخيرة من أمرهم" (الملل والنحل، سبحاني:
ج 1 ص 240).. وقد
استخدم هذا الأسلوب أيضاً مع عبد الله بن عمر (الإمامة والسياسة: ج 1
ص 189).
وفتحت هذه
الفكرة للسلطة الباب على مصراعيه من أجل ارتكاب أفظع وأشنع الجرائم طالما أنّ
الخطاب التبريري حاضر من أجل أن يرفع عن السلطة ورموزها كافة أشكال المسؤولية،
باعتبار أنّ ما حصل إنّما هو من قضاء الله!!
من هنا
نستطيع أن نقف على خطورة موقف الإمام الحسين (ع)، فلقد واجه كل هذا الركام المدسوس
بنهضة رائدة، وبوعي نبوي ثاقب.
العامل الثالث: آلية تطبيق المنهج (الخطط
والمبادئ):
من خلال
المنهج الأخلاقي والتربوي في ثورة الحسين (ع)؛ وهذا العامل يرجع إلى عظمة صاحبها
وامتيازه لكونه إماماً معصوماً وسيد شباب أهل الجنة باتفاق المسلمين. يقول
الاقتصادي العالمي صامويل بريتان: "إنّ أكبر خطأ يرتكبه المكابرون المتشككون
هو التقليل من شأن دور الشرعية الأخلاقية في الأفعال البشرية. فلا يمكن لأية منظمة
بشرية أن تنجح في القيام بعملها بدون نوع من القواعد التي تكبح السعي وراء المصلحة
الخاصة".
البعد الأول: الإيمان أساس الحق:
عن الحسين
بن علي (ع)، في حديثه عن الإيمان في الأفق الواسع يقول في أول خطوة في مسيرة
نهضته: "فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق،
ومن ردّ علي أصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين".
البعد الثاني: الحرية:
حين أحس الإمام الحسين (ع) بمدى
انتهاك حرية الإنسان، الذي باشرت به حكومة يزيد بن معاوية بحق أبناء الأمة لم يكن
ليقف مكتوف الأيدي إزاء ذلك، بعد أن استنفد كل الوسائل الممكنة لثني ذلك الطاغية
عن ممارساته تلك عندها باشر شخصيا بممارسة التغيير الذي عبر عنه بقوله: "إني
لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة
جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر". وبقوله (ع): "لا ينبغي لنفس مؤمنة ترى من
يعصي الله فلا تنكر عليه".
البعد الثالث: الابتعاد عن
الحمية والعصبية (التمييز العنصري):
قال الحسين (ع): "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً
وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن
قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ علي أصبر حتى يحكم الله وهو خير
الحاكمين".
البعد الرابع: المسؤولية
والواقعية:
قال الإمام الحسين (ع): "إنّما
خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر".
وحينما بايعه أهل الكوفة وطلبوا منه القدوم، أرسل إليهم مسلم بن عقيل وقال: "وإنّي باعث إليكم بأخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي
مسلمَ بن عقيل، فإن كتب إليّ أنّه قد اجتمع رأي ملأكم، وذوي الحجى والفضل منكم على
مثل ما قَدِمَت به رُسُلكم وقرأتُ في كتبكم، فإنّي أقدم إليكم وشيكاً إن شاء الله؛
فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق، الحابس
نفسه على ذات الله، والسلام".
البعد
الخامس: المحبة والرحمة:
وهو مشحون
الدلالة في قضية كربلاء.
العامل الرابع: جاهزية الإظهار (الإعلام بين
الثابت والمتغير):
يمكن تحليل
العناصر التي تُكوِّن المدوَّنة الحسينيّة (الملحمة العاشورائيّة)، كما تتجلّى في
الممارسة الإحيائيّة عبر التاريخ، إلى ما يلي:
1- التأسيسُ
للنياحة على المصيبة وإظهار الحزن وعواطف الأسى على ما حدث.
2- التدارسُ
حول موقع الشهادة من الخروج الحسيني، وهل هي محصّلة مطلوبة سلفاً أم أنها إرادة من
السّماء برزت من غير وضوح الاعتبارات الموضوعيّة لها، أم أنها واقع غير مطلوب
انتهت إليه النهضة بفعل اختلال الموازين في اللحظات الحرجة.
3- البحثُ
في مجريات السيرة الحسينيّة وحركة النهوض ومسارها ومحطاتها والخطابات التي قيلت في
كلٍّ منها، والتحقيق فيما هو ثابت أو ضعيف أو موضوع منها.
4- التفكير
والتجريب في أشكال إحياء النهضة الحسينية، تبعاً لاختلاف الزمان والمكان، والتداول
حول معيار كلّ شكل إحيائي ومرجعية قبوله أو رفضه.
هذه
العناصر كانت، ولا زالت محوراً لمختلف النقاشات والتساؤلات والإشكالات التي تُطرح
في هذا الصّدد.
ومن
الملاحظ أنّ كلّ هذه الإثارات تبقى مفتوحة، ولا تنتهي مع أيّ توضيح، أو إجابة
تُقدّم، والسبب في ذلك أنّ المتغيرات الطارئة على محيط الناس يجعل من الحدث
العاشورائي طرياً على الدوام، ويستصحب معه شتى الملفات الصعبة والمحيّرة.. إنّ
جوهر خلود النهضة الحسينية وتعبيراتها؛ هو هذه الحيوية غير النهائية في الاستيعاب
للمصاديق، وهو أمر لا يتوجب الحد منه أو التشنيع فيه لمجرد الاختلاف معه اجتهاداً.
v
كيف نورث حب كربلاء للأجيال؟
من سمات الذين يعيشون خارج العصر أنهم يفقدون
روح المبادرة الشخصية، فهم ما زالوا ينتظرون من غيرهم نوعاً من الرعاية لهم. فالطفل
يُكثر من استخدام ضمير (أنت): أنت لم تأخذني، أنت لا تحبني... والمراهق
يُكثر من استخدام ضمير (أنا): أنا أضرب، أنا أفعل كذا.... أما الناضج فيكثر
من استخدام ضمير (نحن): حيث يغلب عليه شعور الجماعة.
إذا حاولنا أن نعمّق النظر في أحوال عصرنا،
فإننا سنجد أنّ (المبادرة الفردية)، قد أسهمت على نحو فذ في تكوين النهضة الحديثة،
بل يمكن القول: إنّ مجموع المبادرات الفردية في أي مجتمع هو مقياس دقيق لمدى حيوية
ذلك المجتمع، وقابليته للنمو والتقدم.
ومن يقرأ السيرة النبوية يقف على الكثير من
المبادرات الخيرة .. فها هو يدعو الخلق إلى الإسلام وهو محصورٌ في الشَّعب، ويفتح
الفرص لأصحابه للدعوة حتى ولو كان خارج إطارِ مكة.. والهجرتان إلى الحبشة نماذجُ
عالية للمبادرة والدعوة.. أما دعوتُه العربَ في المواسم.. ثم ذهابه إلى الطائف
لدعوة ثقيف فكلُّ ذلك أدلةٌ واضحة على قيمة (المبادرة) في السيرة ثم كانت الهجرة
للمدينة وما استتبعها من جهادٍ ودعوة مرحلةً متميزةً في المبادرات النبوية.
أجل لقد
بادر وحيَّد اليهود بمعاهداتٍ شرقوا بها حتى نقضوها.. وبادر إلى بعث البعوث
التعليمية والدعوية في المدينة وما جاورها، ومهما نزل بالمسلمين من مصائب
وابتلاءات لهذه البعوث والمعارك فقد أدت هذه المبادراتُ دورَها وطار صيتُ الإسلام
في أرض العرب كلَّها.. بل تجاوزت مبادراتُ الرسول (ص) أرض العربِ لتصل إلى أرض
الروم وفارس يوم أن بعث النبي (ص) الرُسل وكتب الكتب.
يقول
الإمام الخميني: "اجتماعاتنا اليوم تخلوا من البحوث البناءة، وحين نشاهد ما يطرح في هذه
الاجتماعات على صعيد الأقطار الإسلامية لا ترى غير الشعر والخطابة والفلسفة
والعرفان وأمثالها، أما المسائل التي ترتبط بسر انتصار المسلمين في صدر الإسلام
فغير مطروحة...".
فالتربية
لدينا ما زالت تركز على تخريج الإنسان التابع، والمعتمد على غيره، على أنّ
الوضعية العامة لـ(التكليف) في الإسلام تؤكد على تنمية روح المبادرة والمسؤولية
الفردية، وسلوك طرق الخير مهما كانت موحشة ومهجورة.
لقد
رسم الإمام الحسين (ع) مبادرة لا مثيل لها في مسيرة التصحيح عندما قال: "شاء
الله أن يراني قتيلاً"؛ لأنه يعلم بأنّ هذه الروح التي يحملها بين جنبيه لا
يمكن أن تستوعب ذلك العصر... "إني لم أخرج
أشراً، ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (ص)،
أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي
طالب".
إنّ عظمة
الثورة الحسينية وامتيازها في التاريخ لها ثلاثة أسرار وراء خلودها الزماني
والمكاني:
الأول: هو عظمة
صاحبها وامتيازه لكونه إماماً معصوماً وسيد شباب أهل الجنة باتفاق المسلمين.
وثانياً:
ظروف
الثورة. لقد ثار الحسين في وقت كانت إرادة الأمة ميتة فأراد الحسين بثورته المباركة
إحياء هذه الأمّة الميتة التي تقبلت الظالمين كقدر مقدور وارتضت الخنوع علاجا لهذا
المرض. فجاءت ثورة الحسين كالزلزال الذي أيقظ الأمة وعلمها أنّ العزة ضرورة كضرورة
الهواء الماء وأنّ الميت العزيز أفضل من الحي الذليل.
وثالثها: هو إحياء الإسلام ذاته. حيث حاول المخطط الأموي القضاء على الإسلام ابتداءً من معاوية وتوجت الجهود بيزيد. وحيث إنّ الأمّة مبتلية بالخنوع والذل وفقدان الإرادة ، لذا لو هدم يزيد الإسلام الأصيل لما تجرأ أحد على فعل أي شيء. لذلك احتاجت الأمة والإسلام لدم بعظمة الحسين للحفاظ على الإسلام الأصيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق