ليلة القدر وقانونها الإلهي
{شَهْرُ رَمَضَانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ}.
أمام كلِّ
هذه الاستثناءات الإلهية لهذا الشهر الفضيل علينا أن نشكره {وَلِتُكَبِّرُوا
اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
ومعنى شكرت
الله أي اعترفت بنعمته وفعلت ما يجب عليّ من فعل الطاعة وترك المعصية، ولهذا يكون الشكر
بالقول والعمل؛ فإظهار التقدير أعم من أن يكون باللسان أو بالعمل. ولذا يقول الإمام
السجاد في دعائه: "اَللّهُمَّ
صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَارْزُقْنِي الْحَقَّ عِنْدَ تَقْصيري فِي الشُّكْرِ
لَكَ، بِما أَنْعَمْتَ عَلَىَّ في الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ، وَالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ،
حَتّى أَتَعَرَّفَ مِنْ نَفْسي رَوْحَ الرِّضا، وَطُمَأْنينَةَ النَّفْسِ مِنّي بِما
يَجِبُ لَكَ، فيما يَحْدُثُ في حالِ الْخَوْفِ وَالأمْنِ، وَالرِّضا وَالسُّخْطِ، وَالضُّرِّ
وَالنَّفْعِ".
ومن أبرز
مصاديق الشكر لله عز وجل في هذا الشهر الفضيل هو الالتزام بقيم الصوم وآثاره التربوية
التي تنعكس على سلوكنا العملي، وعلى أخلاقياتنا في التعامل مع الآخرين، واحترامهم كباراً
وصغاراً، وكما قال رسول الله (ص): >وَوَقِّرُوا
كِبَارَكُمْ، وَارْحَمُوا صِغَارَكُمْ، وَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ<
والشعور بآلام الاخرين وحاجاتهم ومعاناتهم وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم.
وفي رمضان
بحاجة إلى ثلاثة أمور:
الأول: إطلاق ثورة
التواصل بين أبناء المجتمع الواحد وتقوية أواصر العلاقات على كل صعيد، "وَتَحَنَّنُوا عَلَى أَيْتَامِ النَّاسِ
يُتَحَنَّنْ عَلَى أَيْتَامِكُمْ"،
إنّ تقوية العلاقات الاجتماعية تساهم في بناء مجتمع متماسك كالبنيان المرصوص، يمتلك
القوة في مواجهة التحديات والصعوبات، ويكون قادراً على تحقيق تطلعاته وطموحاته.
والثاني: التزود برسائل
القرآن وقيمه وتعاليمه، فهذا الشهر هو ربيع القرآن الكريم وعلينا أن نجعله روحاً لحياتنا
على كل صعيد وما ضاعت هذه الأمة وانهارت وتخلّفت إلا لأنها لم تعمل بالقرآن، ولم تتخذه
قائداً وعَلَماً لها فبقيت بلا هوية ولا عنوان، تعاني من التخلف والفساد والاستبداد
والطائفية التي يجب علينا أن نخلص مجتمعاتنا منها.
الثالث: إطلاق ثورة
الدعاء في هذا الشهر، "وَتُوبُوا
إِلَى اللهِ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، وَارْفَعُوا إِلَيْهِ أَيْدِيَكُمْ بِالدُّعَاءِ فِي
أَوْقَاتِ صَلاتِكُمْ، فَإِنَّهَا أَفْضَلُ السَّاعَاتِ، يَنْظُرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ
فِيهَا بِالرَّحْمَةِ إِلَى عِبَادِهِ، يُجِيبُهُمْ إِذَا نَاجَوْهُ، وَيُلَبِّيهِمْ
إِذَا نَادَوْهُ، وَيُعْطِيهِمْ إِذَا سَأَلُوهُ، وَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ إِذَا دَعَوْهُ".
وهل هناك ليلة يستحب فيها التهجد من ليلة قال فيها
ربنا سبحانه: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا
كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾.
يبدو أنّ أهم ما في هذه الليلة المباركة تقدير شؤون الخلائق، فهي ليلة الأقدار المقدرة،
كما قال ربنا: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾.
بل من شدة مكانة هذه الليلة وعجز الإنسان عن إدراك فضائلها ومغانمها قال سبحانه: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾.
ولذا يسأل سليمان المروزي الإمام الرضا (ع) وقال:
ألا تخبرني عن ﴿إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ في أي شيء
نزلت؟ قال: "يا
سُلَيمانُ، لَيلَةُ القَدرِ يُقَدِّرُ اللهُ عزَّ وجلَّ فيها مَا يَكونُ مِنَ
السَّنَةِ إلَى السَّنَةِ مِن حَياةٍ أو مَوتٍ، أو خَيرٍ أو شَرٍّ، أو رِزقٍ، فَما
قَدَّرَهُ مِن تِلكَ اللَّيلَةِ فَهُوَ مِنَ المَحتومِ".
فليلة القدر قائمة على أساس قانون إلهي معيّن، ولفهم هذا نأخذ
المثال التالي: الأبجدية العربية تتكون من 29 حرف ومن هذه الأبجدية يمكننا استخراج
آلاف بل تصل إلى الملايين من المفردات (13 مليون مفردة) فمثلاً نقول: إنَّ المقالة
هي نص مكون من 29 حرف وحركات وعلامات. فبإمكاننا أن نعيد الجملة بالصيغة التالية:
المقالة خير من 29 حرف وحركات وعلامات. أو نقول ليلة المطر خير توزع من أربع ساعات
أو بطريقة أخرى نقول ليلة المطر خير من أربع ساعات.
فـ{لَيْلَةُ
الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} معروفة ومشهورة ومشخصة
للملائكة أُمِرُوا أن يأخذوا منها مكوناتها ويجمعونها بقدر وحساب ليخرج منها كمٌ
هائلٌ من المكونات والتي عبَّر عنها الله بالخير المنبثقة من ألف شهر (الانتشار
والتوسع). وهذا ما بينه الله سبحانه وتعالى في سورة الدخان: {حم
(1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ
إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)}.
فليلة القدر هي وضع المعايير المخصصة وضمن الخطة الإلهية وإنزالها
من عالم التصور إلى عالم التكوين.. فلا مكان
للعصاة في هذه الليلة إلا بالتوبة والإنابة والعمل بالخير (يفتتح ليلته بالصدقة)..
يقول الصادق (ع): "إِذَا دَخَلَ الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ كَانَتِ الصَّلاةُ
عَنْ يَمِينِهِ وَالزَّكَاةُ عَنْ يَسَارِهِ وَالْبِرُّ مُطِلٌّ عَلَيْهِ وَيَتَنَحَّى
الصَّبْرُ نَاحِيَةً، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ الْمَلَكَانِ اللَّذَانِ يَلِيَانِ مُسَاءَلَتَهُ
قَالَ الصَّبْرُ لِلصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْبِرِّ: دُونَكُمْ صَاحِبَكُمْ، فَإِنْ
عَجَزْتُمْ عَنْهُ فَأَنَا دُونَهُ".
ولذا فليلة
القدر في مجملها سلام ﴿سَلَامٌ
هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ والسلام
يتحقق بتوافر الكثير الكثير من نعم الله التي لو افتقرنا إلى واحدة منها فقدنا السلام.
عليك أن تتذكر
كم مليون نعمة تتزاحم على بدنك حتى يكون في عافية، وكم مليون نعمة تحيط بمجمل حياتك
وتشكلان معاً سلامتها.
وكيف لا تكون
سلاماً وهي جزء من شهر صفته: "إِنَّ
أَبْوَابَ الْجِنَانِ فِي هَذَا الشَّهْرِ مُفَتَّحَةٌ، فَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ أَنْ
لا يُغَلِّقَهَا عَنْكُمْ، وَأَبْوَابَ النِّيرَانِ مُغَلَّقَةٌ فَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ
أَنْ لا يُفَتِّحَهَا عَلَيْكُمْ، وَالشَّيَاطِينَ مَغْلُولَةٌ، فَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ
أَنْ لا يُسَلِّطَهَا عَلَيْكُمْ".
ولكن هذا
يحتاج إلى عمل دؤوب: "وهذا
شَهْرُ الصِّيامِ، وَهذا شَهْرُ الْقِيامِ، وَهذا شَهْرُ الإِنابَةِ، وَهذا شَهْرُ
التَّوْبَةِ، وَهذا شَهْرُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَهذا شَهْرُ الْعِتْقِ
مِنَ النّارِ وَالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ، وَهذا شَهْرٌ فيهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ
الَّتي هِيَ خَيْرٌ مِنْ اَلْفِ شَهْر،.. وَاَعِّني عَلى صِيامِهِ وَقِيامِهِ،
وَسلِّمْهُ لي وَسَلِّمْني فيهِ، وَاَعِنّي عَلَيْهِ بِأَفْضَلِ عَوْنِكَ،
وَوَفِّقْني فيهِ لِطاعَتِكَ وَطاعَةِ رَسُولِكَ وأَوْليائِكَ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِمْ، وَفَرِّغْني فيهِ لِعِبادَتِكَ وَدُعائِكَ وَتِلاوَةِ كِتابِكَ، وَأَعْظِمْ
لي فيهِ الْبَرَكَةَ، وَأَحْسِنْ لي فيهِ الْعافِيَةَ، وَاَصِحَّ فيهِ بَدَني، وَأَوْسِعْ
لي فيهِ رِزْقي، وَاكْفِني فيهِ ما أهَمَّي وَاسْتَجِبْ فيهِ دُعائي، وَبَلِّغْني
رَجائي، اَللّـهُمَّ صَلّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، واَذْهِبْ عَنّي فيهِ
النُّعاسَ وَالْكَسَلَ".
وقال الباقر (ع): "الكَسَلُ
يُضِرُّ بالدِّينِ والدُّنيا".
وعنه (ع): "إِنِّي
أُبْغِضُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ كَسْلَاناً عَنْ أَمْرِ دُنْيَاه؛ ومَنْ كَسِلَ
عَنْ أَمْرِ دُنْيَاه، فَهُوَ عَنْ أَمْرِ آخِرَتِه أَكْسَلُ".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق