الاثنين، 24 ديسمبر 2018


فقه التعايش في السيرة النبوية /08/



{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}

تعامل الرسول (ص) مع المنافقين:


يعد النفاق والمنافقون خطراً داهماً وشراً مستطيراً على الإنسان والمجتمع، لذا حذَّر الإسلام من النفاق وأهله، وأنزل الله عز وجل سورة باسمهم، تسمى (المنافقون).

وليس يوجد تناغم بين المؤمن والمنافق، بل بينهما حواجز في السمات الشخصية، نفسية كانت أو سلوكية. وهذه الحواجز قد أقرَّها الكتاب الكريم: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ} (الحديد: 13-14).

(النظر) إذا تعدى بـ(إلى) كان بمعنى إلقاء البصر نحو الشيء.

وإذا تعدى بـ (في) كان بمعنى التأمل والتدبر.

وإذا تعدى بنفسه -أي بدون حرف جر- أفاد معنى التأخير والانتظار (مفردات القرآن: ص 518 ـ 519).

والسياق في الآية يفيد أنّ المنافقين أحاطتهم ظلمة في يوم القيامة، وقد طلب منهم ومن المؤمنين التقدم إلى دار قرارهم، ولكن يقع التغاير في النتيجة، فبينما نرى المؤمنين يسيرون بنورهم الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم فيبصرون طريقهم ويهتدون إلى محل إقامتهم، نرى المنافقين يتخبطون في تيه الظلام المغشي حولهم لا يهتدون سبيلهم فيتأخرون عن اللحوق بالمؤمنين، فيسأل المنافقون المؤمنين الانتظار حتى يلحقوا بهم ويأخذوا جذوة من نورهم ليستضيئوا به في طريقهم.

وهذا التعبير من باب إثارة الفكرة التي تضع الأشياء وجهاً لوجه أمام الحقيقة الصارخة ..

فليس هناك نور في القضية التي يواجهونها بل لا بدّ أن يبحثوا وراءهم ليلتمسوا النور هناك في دار الدنيا -وهو تعبير على سبيل الاستهزاء-.

فيأتي الخطاب، {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}: ارجعوا إلى دار الدنيا التي تركتموها وراء ظهوركم وعملتم فيها ما عملتم من النفاق والتمسوا من أعمالكم تلك النور.. ولكن أنّا يفيد صرخاتكم وقد ضرب الله بينكم وبين المؤمنين باباً {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ}، وهو يشبه حال المنافقين في الدنيا فقد كان لهم فيها اتصال بالمؤمنين، وهم مع ذلك محجوبون عنهم بحجاب، فكما كانوا في الدنيا صيرهم الله عزّ وجلّ في الآخرة.

إنّ هذه الآية الكريمة ترسم البون الشاسع بين خط المؤمن وخط المنافق وأنّ الله عزّ وجلّ وضع آيات تصلح أن تكون عناوين بارزة لسلوكنا مع هذه الفئة المنحرفة:

الآية الأولى: قال تعال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ @ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ @ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} (البقرة: 204 -  206).

هذه الآيات تعكس بصراحة صورة المنافق في كل زمان ومكان، الذي يبيع نفسه لخط الشيطان، ونستفيد من أجوائها عدة أمور:

1. الحرص على إعطاء الآخرين الثقة والتأييد والدعم من خلال المواقف لا من خلال الكلمات والمظاهر.
2. أن نلاحق هذين النموذجين في حركة الواقع من أجل أن نتابع خط النفاق بالرفض والمواجهة من أجل إزاحته من واجهة الصورة لتخليص الناس من فساده .. بينما نتابع الخط الأول بالتأييد والدعم.
3. أن نتمثل في وعينا المبادئ السلبية من الإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل.. لنجعل منها أساساً للتعامل السلبي مع كل البرامج.
4. عدم تركيز العاطفة في معنى الحب أو عدم الحب بل هما ركيزتان للخط الإيجابي والسلبي من العمل.

الآية الثانية: قال تعالى: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} (النساء: 91).

هذه الآية الكريمة جاءت عقيب آية تذكر الكفار جاء في مقطع منها: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} (النساء: 90)..

والسؤال: لماذا عبّر القرآن الكريم بقوله {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ} في الكفار، وبقوله: {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ} في المنافقين؟!

والجواب في شقين:

أحدهما: إشارة إلى أنّ المنافقين غير مأمونين في مواعدتهم وموادعتهم بدليل أنه تعالى قال في آية الكفار: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ}، ولم يقل ذلك في آية المنافقين.

وثانيهما: أنّه عبر بالشرط المنفي {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ} الذي يفيد تنبيه المؤمنين على أن يكونوا على حذر منهم.

ونستوحي من هذه الآية عدة دروس:

1. أن يتعمق العاملون في دراسة النماذج البشرية الموجودة في الساحة من الفئات المنافقة، فلا يستسلموا للأجواء الحميمة وتقديم التنازلات لمجرد أنّ هناك هدفاً في هداية الناس ينبغي للمسلم أن يستهدفه.. بل لا بدّ من دراسة تاريخ هؤلاء في سلوكهم العملي والتعرف على حركتهم في الحاضر.
2. أن يخرج العمل الإسلامي من منطق السذاجة المنطلقة من حالة الطهارة الروحية البريئة التي يعيشها العاملون، فيتحركون في الفراغ ويبذلون الجهد الضائع.
3. على المؤمنين أخذ الحذر والحيطة في علاقتهم بالفئات التي تحمل هذا التفكير وتعمل لهذا الهدف، سواء كان ذلك على مستوى الأحزاب، أو على مستوى الأفراد، فلا يتخذوا منهم أولياء.. {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} (النساء: 89).
فعلى العاملين أن يعاملوهم معاملة الأعداء من حيث الحذر في الموقف والعلاقة والمعاملة .. ليأمنوا شرهم ويحفظوا الناس من الوقوع في حبائلهم.
4. أن ندرس حالة الحياديين فنميز بين الذين يحملون الحياد كموقف ينطلق من قناعاتهم النفسية فنحترم حيادهم تبعاً لمصلحة الإسلام والمسلمين وحالة الصراع بيننا وبين الفئات المعادية .. وبين الذين يلعبون بالحياد كورقة يحصلون فيها على امتيازاته من حيث الأمن الذي يمنحهم حرية الحركة في اللعب على أكثر من جهة.

بعد هذه المقدمة ..

علينا أن نفرق بين أمرين:

الأول: بين موقف الشريعة الإسلامية من (الآخر) من ناحية الصواب والخطأ.

والثاني: بين تعامل الشريعة الإسلامية مع الآخر (أعني التعامل الحركي).

- ففي ناحية الحكم بالصواب والخطأ، كانت الشريعة الإسلامية في منتهى الوضوح مع الآخر من أول يوم نزلت. ومما قد تعجب له أنّ الوحي تحدث كثيراً عن عيسى (ع) في مكة، ولم يكن في مكة نصارى إلا غلام واحد لا يحسن العربية، فسورة مريم من أوائل ما نزل، وقرأ منها جعفر بن أبي طالب أمام النجاشي. وتحدث الوحي عن موسى (ع)، وعن يهود في مكة، وعن الوثنية وعبادة النجوم. لقد كانت الشريعة في منتهى الوضوح من الآخر كله. ولهذا مقام يطول ذكره.

- وكانت الشريعة في منتهى الوضوح مع المنافقين، بل كان الوحي لهم بالمرصاد يفضحهم في كل نازلة؛ يحكي مواقفهم، وأحاديثهم الخاصة، بل وما تكّن صدورهم. وهذا كلّه مثبت في كتاب الله، وسنة رسوله (ص)، ومنها نماذج:

{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } (المائدة: 52).

{وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ @ الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران: 168).

المنافقون كطابور خامس:


هناك نماذج أخرى من النّاس يتحدث عنها القرآن، فيقول الله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ}.

وهذا يعبّر -كما في المصطلح المعاصر- عن الطابور الخامس، وهم المنافقون الذين كانوا يحاولون إعاقة المسيرة وتخذيل المسلمين أمام الزلزال الذي حدث بفعل الحصار الذي أسر به المسلمون من قبل الأحزاب {وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا}، أي سيروا معنا ولا تقفوا إلى جانب رسول الله (ص) {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً}. والبأسُ هنا كنايةٌ عن الحرب فهـم ليسوا مستعدِّيـن للمشاركة في الحرب {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ}، بُخلاء لا يعطونكم ما تحتاجونه {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يُغشى عليه من الموت}، أي في ظلّ الحرب النفسيّة التي تزرع الخوف في القلوب والتي عبّر عنها القرآن {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ} (الأحزاب: 10).

{فإنَّ ذهب الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ}، أي أنَّهم شعروا أنَّكم في موقع الهزيمة فأظهروا ما في نفوسهم ضدّ المؤمنين والمسلمين، فتحدّثوا بالكلمات الحادة التي تمثِّل الإهانة للمسلمين {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ}. فهم ليسوا مستعدِّين أن يُعطوا من نفوسهـم الخيـر {أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا}.

وهذا هو محل الشاهد، فهؤلاء الذين يتحرّكون في حال الحرب بطريقة التخذيل والتعويق للمسيرة والتكلّم بشكلٍ سلبي ضدّ المسلمين دون إعطائهم شيئاً مما يحتاجونه، لـم يؤمنوا، فالمؤمن هو الذي يعيش مع المؤمنين بكل معنى المشاركة في الحرب وفي السلم وفي كلّ أوضاعهم وحاجاتـهم التي يحتاجونـها في ساحة التحدّيات {فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} (الأحزاب: 18-19) لأنَّهم لـم ينطلقوا من قاعدة، فإنَّما حبطت أعمالهم لأنَّهم أبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان، ومن الطبيعي أنَّ الكفر يُحبط عمل الإنسان.

وفي حوار رسول الله (ص) مع الإمام علي (ع) قال:

"وَلَقَدْ قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ 2: إِنِّي لَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مُؤْمِناً وَ لَا مُشْرِكاً؛ أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَمْنَعُهُ اللهُ بِإِيمَانِهِ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُ فَيَقْمَعُهُ اللهُ بِشِرْكِهِ، وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ كُلَّ مُنَافِقِ الْجَنَانِ، عَالِمِ اللِّسَانِ، يَقُولُ مَا تَعْرِفُونَ، وَيَفْعَلُ مَا تُنْكِرُونَ". فهو وإن كان عالماً عارفاً بكم، ولكنه عندما يتحرك وينطلق، فإنه يحرق المجتمع الإسلامي بخططه ومؤامراته وحقده وانحرافه.

اَللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاجْبُرْ بِالْقُرْآنِ خَلَّتَنا مِنْ عَدَمِ الإمْلاقِ، وَسُقْ إِلَيْنا بِهِ رَغَدَ الْعَيْشِ وَخِصْبَ سَعَةِ الأرْزاقِ، وَجَنِّبْنا بِهِ الضَّرائِبَ الْمَذْمُومَةَ وَمَدانِيَ الأخْلاقِ، وَاعْصِمْنا بِهِ مِنْ هُوَّةِ الْكُفْرِ وَدَواعِي النِّفاقِ، حَتّى يَكُونَ لَنا فِي الْقِيامَةِ إِلى رِضْوانِكَ وَ جِنانِكَ قائِداً، وَلَنا فِي الدُّنْيا عَنْ سُخْطِكَ وَتَعَدّي حُدُودِكَ ذائِداً، وَلِما عِنْدَكَ بِتَحْليلِ حَلالِهِ وَتَحْريمِ حَرامِهِ شاهِداً.

وللحديث صلة...


الأربعاء، 19 ديسمبر 2018


/ فقه التعايش في السيرة النبوية 07/



{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}

تحدثنا أنّ بداية التطبيق العملي الشامل لمبدأ التسامح والتعايش، فكان ذلك منذ قدومه (ص) مهاجراً إلى المدينة المنورة، حيث قام (ص) بكتابة وثيقة دستورية، احتوت بنوداً أساسية محققةً لعنوان المواطنة وحقوق المواطنين وواجباتهم، من النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية.

فنصّت هذه الوثيقة على أنّ جميع المواطنين (مسلمين وغير مسلمين) يعاملون على أساس واضح من المساواة، وليس هناك مواطنون من الدرجة الأولى، وآخرون من الدرجة الثانية، وأنّ العقيدة لا وجود لها، بل الجميع أمام الشريعة وأحكام الحقوق والواجبات سواسية لا فرق بينهم.

نماذج من تطبيقات قيم المدينة (العدل والمساواة):


يمثل العدل دعامة وطيدة، وصفة أصيلة للشريعة الإسلامية، حيث أمرت بأن يكون الحكم بالعدل، ولو على المخالف، وقد استوعبنا ذلك من خلال تسليط الضوء على قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.

بل يجب تحري العدل ولو كان ضد النفس، حيث يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}، ففي الآية الكريمة جملة من الأمور المهمة:

1.   أنّ العدل لا يُجتزأ، فكما أنه مطلوب في الحكم والسلطة، كذلك هو مطلوب ليكون مناخاً يعاش ويتغلغل في الحياة اليومية لكل الناس، لا ينفصل عنها.
2.   إنها تشدد على هذا المفصل: {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}، مما يعني قبولك بالنقد والانتقاد، وأن لا أحد فوق المساءلة والمحاسبة.
3.   في هذه الآية العظيمة، يحذّر الله من المطبّ الآخر الذي يقع فيه الإنسان، وهو مطبّ الأهل والأقربين، ذلك لأنّ الله تعالى يعلم كم للجانب العاطفي والانفعالي من تأثير، وكيف يطغى ويعمي القلب.

إنّ هذا الطغيان له في مجتمعاتنا الكثير من الأمثلة والوقائع الخطيرة، ولعله سبب رئيس لعدم تحقق العدالة، حيث يدفع من هم في موقع المسؤولية إلى أن ينحدروا ويعتبروا من ظالمين؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}.

فليس لك كمسؤول أن تعتبر أنّ قريبك أحق بالوظيفة من غيره، فقط لأنّه قريبك.

بل ليس من صلاحيتك -كمسؤول- أن تأتي بأقاربك إلى المؤسسات والإدارات العامة، متجاوزاً كل الأنظمة السائدة، من اختبارات عادلة أو من تقييم أو كفاءة...

وليس لك أن تتم تغطية فلان وفلان، لأنّه مقرب من المدير أو المسؤول، حتى إنَّ خطأه يغتفر ويتم تجاوزه...

إنّ الله تعالى يحذركم من قوله في كتابه: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}، يعلم كم تلجأون أيها المسؤولون إلى التمييز والتفضيل، ولَيّ عنق القانون والأنظمة والأحكام.

وفي يومنا هذا، يتقن الكثيرون -للأسف- ليّ القوانين إلى حدّ كسرها وجعلها واجهة من دون مضمون.

لهذا نناشد الجميع، ومن هم في مواقع المسؤولية، أن يضعوا هذه الآية نصب أعينهم، وفي مؤسساتهم، وأمام كل من لديه صلاحيات، كي تذكرهم بالعدل. ونقول للجميع: كونوا تحت القانون لا فوقه، لا تقبلوا أن تمر أي حالة استثنائية.

إنّ من يريد أن ينجح ويفلح ويظل سجلّه نظيفاً عند الله، أكان حاكماً أم إنساناً عادياً، وفي أي موقع من مواقع الحياة، فمعيار النجاح هو القسط، هو العدل، وإلى هذا أشارت الأحاديث عن الإمام علي (ع): "العدل أساس به قوام العالم"، "بالعدل تتضاعف البركات"، "اعدل تحكم"اعدل تملك"، "ما عمرت البلدان بمثل العدل".. فلندخل قيمة العدل إلى كلّ ساحاتنا، من دون تجزّأة: في النظرة، والكلمة، والتشجيع، والمكافئة، وإعطاء الفرص، والتقييم...

وفي ذلك يروي جابر بن عبد الله الأنصاري: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ سَرَقَتْ، فَأُتِيَ بِهَا النَّبِيُّ (ص)، فَعَاذَتْ بِأُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ (ص): "لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ لَقَطَعْتُ يَدَهَا فَقُطِعَتْ يَدُهَا" (سنن النسائي: ج 8 ص 74 ح 4891).. هذا هو حسم العدل..

وقد عبّر حفيده الإمام زين العابدين (ع) عن هذا الاتجاه في النظرة إلى الموضوع نفسه من دون تأثير لأية حالةٍ عاطفيةٍ أو انفعالية في القرار الحاسم قال: "وَارْزُقْنِي التَّحَفُّظَ مِنَ الْخَطايا، وَالاْحْتِراسَ مِنَ الزَّلَلِ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ، في حالِ الرِّضا وَالْغَضَبِ، حَتّى أَكُونَ بِما يَرِدُ عَلَيَّ مِنْهُما بِمَنْزِلَة سَواء، عَامِلاً بِطاعَتِكَ، مُؤْثِراً لِرِضاكَ عَلى ما سِواهُما فِي الأوْلِياءِ وَالأعْداءِ، حَتّى يَأْمَنَ عَدُوِّي مِنْ ظُلْمي وَجَوْري، وَيَيْأسَ وَلِيّي مِنْ مَيْلي وَانْحِطاطِ هَوايَ".

كما أكدَّ الإسلام أنّ المساواة سمةٌ من سماته، وأصلٌ من أصوله، فهو يقرر أنّ الناس سواسية، وفي ظله تتلاشى الفوارق، وتزول كل الاعتبارات عدا التقوى، فلا تفاضل بينهم في إنسانيتهم..

وفي حجة  الوداع، خطب (ص) بِمِنًى فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ عَلَى بَعِيرٍ، فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، أَلا وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلا لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، أَلا لا فَضْلَ لأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلا بِالتَّقْوَى، أَلا قَدْ بَلَّغْتُ؟"


قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: "لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ" (مسند أحمد: ج 5 ص 411).

وفي ظل دولة المدينة التي أسسها رسول الله (ص) أكدَّ على قيمة العدل بين فئات المجتمع على اختلاف أعراقهم وأديانهم، حتى إنّ الرسول (ص) تعامل بالعدل والإحسان مع غير المسلمين في المدينة -وقد كانوا أقليَّة- فلم يؤثر أنّه (ص) أو أحداً من أصحابه تعرض إليهم بسوء أو اضطهاد أو تضييق أو تمييز.

ومن تأكيد الإسلام على قيمة العدل وترسيخ المساواة بين المسلمين وغير المسلمين، أن أنزل الله عز وجل قرآناً في واقعة تبين مدى عدالة الإسلام وحسن معاملته للآخر:

حين حاول بعض الصحابة -في عهد رسول الله (ص)- أن يتستر على سارق مسلم، وأن يفوِّت العقاب عليه، وأن يقدِّم شخصاً آخر يهودياً ليعاقب مكانه، أنزل الله ثماني آيات في سورة النساء تدافع عن حق اليهودي، وتحث على إظهار العدالة، فقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (النساء: 105-113).

ولهذه الآيات قصة ذكرها المفسرون في أسباب النزول، وخلاصتها أنّ أحد المسلمين سرق مالاً من شخص مسلم، وكان للسارق عشيرة تملك مواقع متقدمة في المجتمع، وكانت الدلائل التي اتبعها المسلمون -أو أرادوا أن يتبعوها في التحقيق- تهدي إلى السارق الحقيقي، واجتمعت عشيرته للتشاور، وقرروا أن يبعدوا التهمة عنه، فجاؤوا بالمال المسروق ووضعوه عند يهودي هناك، لتثبت الجريمة عليه ويبرّأ السارق، وحاولوا أن يخلقوا جواً يوحي بالثقة بالنتائج التي أرادوها أمام رسول الله (ص)، ظناً منهم أنّ يهودية هذا الشخص تساهم في استبعاد دفة الاتهام عن السارق الحقيقي في التحقيق في المسألة، وتسهّل -بالتالي- ثبوت التهمة عليه.

وقد خُيِّلَ إليهم أنّ الرسول (ص) ربما يميل إلى ما أرادوه أو ظنوه، إرادةً منه لتبرئة المسلم على كل حال.

ولكنّ الله أراد أن يسدِّد رسوله ويطلعه على جانب الغيب في المسألة، حتى لا يتوقف أمام الإثباتات الظاهرية للقضية، على أساس أنّ القضاء في الإسلام يخضع للبيّنات والأيمان، فهي الوسائل المطروحة لدى القضاة، حتى ولو كان النبي (ص) هو القاضي؛ الثابتة في قوله (ص): "إنَّما أقضي بينكم بالأيمان والبيّنات".

ولكن ذلك جارٍ على الأوضاع العادية في مسائل التحاكم؛ أما في القضايا التي تتعلق بالخط المستقيم للعدالة بشكل عام، فإنها ترتبط بالأجواء الداخلية والسلوكية للتصور الإسلامي للعلاقات التي تعطي المسلمين الجوَّ الرائع في الأخلاق والسلوك، في ما يجب أن يتمثلوه ويعيشوه في حياتهم، كما حدث في هذه القضية التي أراد الله من خلالها تقرير مبادئ عدة في حياة المسلمين العاطفية والاجتماعية، من أجل أن لا تنحرف عن خط العدالة في ذلك كله.. (أنظر: سنن الترمذي: ج 5 ص 244، ومستدرك الصحيحين: ج 5 ص 550 ح 8225، ومجمع البيان: ج 3 ص 160 – 161).

إنّ هذه الواقعة -بثبوتها في القرآن وبيانها في السيرة والسنة النبوية- مثال صريح وتطبيق قاطع لقيمتي العدل والمساواة في الإسلام، وهي مما يساعد في نشر وتعميق روح المواطنة بين أبناء الوطن الواحد؛ إذ الإنسان دائماً يسعى إلى الإنصاف والعدالة والمساواة، ويرغب في أن يحيا في ظل دولة تحقق تلك القيم النبيلة بين فئات المجتمع وطوائفه.

الخميس، 13 ديسمبر 2018


/ فقه التعايش في السيرة النبوية 06/


{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}.

في نموذج الحبشة (السابق) يتجلى قول الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة:8).

ونحتاج أن نقف حول مفهوم هذه الآية الكريمة:

يقول تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ...} -أي الذين لم يشنّوا الحرب عليكم لأنكم مسلمون وهم غير مسلمين، بل تقبّلوا هذا الخلاف الديني بينكم وبينهم بشكل موضوعي سلمي.

{... وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ...} -أيضاً لأنهم لم يخطّطوا من خلال ما يملكون من قوة لأن يخرجوكم من دياركم ويشرّدوكم من أرضكم، بل كانوا مسالمين يتعايشون معكم في وطن واحد أو في وطنين متجاورين، كما يتعايش المسالم مع المسالم..

{... أَنْ تَبَرُّوهُمْ...} -والبر هو الإحسان، وكلمة الإحسان هي من الكلمات الواسعة التي تمتد في كل العلاقات الإنسانية التي ترتكز على التعاون والتواصل والعطاء.

{... وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ...} -القسط هو الحقّ الذي للإنسان، فقيام الناس بالقسط هو أن يُعطى لكلِّ إنسان حقه ونصيبه، لذلك عليكم أن تتعاملوا مع هؤلاء على أساس العدل، فإذا كان لهم حق عليكم فعليكم أن لا تمنعوهم حقهم..

{... إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ}، أي العادلين.

وفي رحاب هذه الآية الكريمة، يؤكد الإمام السيستاني (حفظه الله) على جملة من الفتاوى المهمة:

1-  يحق للمسلم أن يتخذ معارف وأصدقاء من غير المسلمين، يخلص لهم ويخلصون له، ويستعين بهم ويستعينون به على قضاء حوائج هذه الدنيا.
2-  يجوز تهنئة الكتابيين من يهود ومسيحيين وغيرهم، وكذلك غير الكتابيين من الكفار، بالمناسبات التي يحتفلون بها أمثال: عيد رأس السنة الميلادية، وعيد ميلاد السيد المسيح (ع)، وعيد الفصح.
3-  يحرم على المسلم خيانة من يأتمنه على مال أو عمل، حتى لو كان كافراً، ويجب على المسلم المحافظة على الأمانة وأدائها كاملة.
4-  لا تجوز السرقة من أموال غير المسلمين الخاصة والعامة ولا يجوز إتلافها، حتى وإن كانت تلك السرقة وذلك الإتلاف لا يسيء الى سمعة الإسلام والمسلمين فرضاً، ولكنها عدّت غدراً ونقضاً للأمان الضمني المعطى لهم حين طلب رخصة الدخول الى بلادهم، أو طلب رخصة الإقامة فيها، وذلك لحرمة الغدر، ونقض الأمان، بالنسبة الى كل أحد، مهما كان دينه وجنسه ومعتقده.
5-  يجوز التصدق على الكفار الفقراء -كتابيين كانوا أو غير كتابيين- بشرط أن لا ينصبوا العداوة للحق وأهله، ويثاب المتصدِّق على فعله ذلك.

من كل ذلك نفهم أنّ علينا: أن نحترم كلَّ حقوق هؤلاء وأملاكهم، ولا يجوز للإنسان أن يعتدي على مال شخص غير مسلم بحجة أنّ هذا الإنسان كافر وأنّ أموال الكفار مباحة لنا، كما في بعض الفتاوى التي يستخدمها من يذهبون إلى الغرب أو إلى الشرق بحجة أنّ هؤلاء كفار، فما داموا مسالمين لا يجوز لنا أن نعتدي على أموالهم أو نعتدي على أعراضهم.

وانطلاقاً من هذه المفاهيم، ومن هذه القيم وجدنا المسلمين يعيشون الرحمة في نفوسهم تجاه المختلف معهم دينياً وسياسياً، وقد تجلى ذلك في العصر الإسلامي الأول وحتى في الحقبات التي أعقبته، بما فيها تلك التي لم يكن الحكم إسلامياً بشكل صريح وحاسم.

ولذلك رأينا اليهود يتعايشون مع المسلمين في شكل طبيعي من دون أن يعترضهم أحدٌ إلا في الحالات التي كانوا يعتدون فيها على المسلمين، وفي حالات أخرى رأينا نوعاً من التعاون معهم كما في تجربة الأندلس، كما شهد العالم لشفافية المسلمين في التعاطي مع المسيحيين: {ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}.

ويمكن لكل باحث أو مطّلع موضوعي وعلمي أن يجزم بهذه الحقيقة، وبأنّ المنظومة التشريعية والأخلاقية والقيمية الإسلامية لم تنطلق على أساس حماية وتحصين الواقع الإسلامي فحسب، بل لحماية الآخرين أيضاً ولتأمين أفضل العلاقات معهم، ولاحترام خصوصياتهم وأمنهم وواقعهم الخاص.

إنّ الإسلام يتطلّع إلى الأفق العالمي الواسع، وإلى الأمن والسلام العالميين كهدف من أهدافه الكبرى، وإلى الحوار الحضاري والعملي مع الشعوب كافة، ولذلك لم يرفض أي صيغة حضارية من صيغ اندماج المسلمين مع غيرهم، شرط الاحتفاظ بهويتهم وخصوصيتهم، وفي مقابل احترام المسلمين لأمن الآخرين وحركتهم وخصوصيتهم.

وهذا ما تجلى بصورة رائدة في وثيقة المدينة المنورة.

وثيقة المدينة الأسس والمبادئ:
كانت بداية التطبيق العملي لمبدأ التسامح ذلك منذ قدومه (ص) مهاجراً إلى المدينة المنورة، فعمل من أول وهلة على تأسيس الدولة الإسلامية؛ حيث أبرم (ص) في السنة الأولى من الهجرة النبوية وثيقةً أو معاهدةً بين المسلمين وطوائف المدينة، وهي الوثيقة السياسية الأولى، واشتملت على أربعة بنود رئيسة، وثمان وأربعين (48) فقرة في العلاقة والمواطنة والتعايش.

وهذه البنود هي:

البند الأول: الأمن الجماعي والتعايش السلمي بين جميع مواطني دولة المدينة.

البند الثاني: ضمان حرية الاعتقاد والتعبد.

البند الثالث: ضمان المساواة التامة لمواطني دولة المدينة في المشاركة الفاعلة في مجالات الحياة المختلفة، تحقيقاً لمبدأ أصيل تقوم عليه الدول الحديثة في عالم اليوم، وهو مبدأ المواطنة الكاملة. فضمن دستور المدينة هذا الحق لكل ساكنيها، في وقت لم يكن العالم يعي معنى كلمة الوطن بالتزاماته وواجباته.

البند الرابع: ترسخ إقرار مبدأ المسئولية الفردية، وأصل هذه المسئولية الإعلان عن النظام، وأخذ الموافقة عليه.

وعلى أثر هذه الوثيقة زادت رقعة معاملة المسلمين لغير المسلمين على عهد النبي (ص) على أساس مبدأ التسامح الذي فاضت به نصوص القرآن الكريم، وبينته السيرة النبوية قولاً وفعلاً بعد ذلك.

وتعد هذه المعاهدة الوثيقة الأولى التي احتوت على بنود محققة للمواطنة، وحقوق المواطنين وواجباتهم، من النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية.
ونريد أن نقف على أهم الفقرات في هذا العهد النبوي:

1.   "أنهم أمة واحدة من دون الناس" يقر فيه (ص) مبدأ الوحدة الوطنية بين ساكني الدولة الواحدة، فهم رعايا الدولة أو شعب الدولة في ذلك الوقت.
2.   "وأنّ من تبعنا من يهود، فإنّ له النصرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم" ينص فيه (ص) على ضرورة مناصرة المواطنين غير المسلمين، والوقوف إلى جوارهم، تأكيداً لحقهم في ذلك على المسلمين ضد أي اعتداء عليهم.
3.   "وأنّ يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم: مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ (يهلك) إلا نفسه وأهل بيته" إعلان صريح للوحدة الوطنية بين طوائف المجتمع، قانونها العدل، دون الظلم والاعتداء، وعلى الظالم أن يتحمل عاقبة ظلمه.
4.   "وأنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين" يقرر (ص) من خلاله مبدأ المساواة بين المواطنين من مسلمين وغيرهم في مؤازرة الدولة اقتصادياً حال محاربتهم للأعداء، كما يقر فيه ضرورة الموالاة والنصرة بين الطرفين ضد العدو.
5.   "وأنّ على اليهود نفقتهم، وأنّ على المسلمين نفقتهم" يقر فيه مبدأ التكافل الاقتصادي عند توزيع الأعباء الاقتصادية على فئات المجتمع بكل أطيافه.
6.   "وأنّ ليهود بني النجار... وأنّ موالي ثعلبة كأنفسهم" يقر فيه مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين المسلمين ومختلف طوائف الدولة في كنف الدولة الإسلامية.
7.   "وأنّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأنّ بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم" يحدد فيه أولويات المناصرة بين أهل هذه الصحيفة وبين أعدائهم الذين يحاربونهم، وهذا مفهوم عسكري دفاعي، مع توضيح ضرورة التعاون في إبداء الرأي والنصيحة والتشاور، وهذا مفهوم اجتماعي أصيل للمواطنة.
8.   "وأنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن" يمنع أي تعاون بين طوائف المجتمع وأعدائه، سواء في حماية النفوس أم الحفاظ على الأعراض والأموال.
9.   "وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه" يوضح فيه بيان مبدأ المسئولية الشخصية وتقريره للفرد والجماعة على حد سواء، فكل إنسان مسئول عما اقترف، وهذا مبدأ من مبادئ الإسلام السمحة، أنه لا يعاقب الجماعة أو يؤاخذها بسلوك فرد، انطلاقاً من قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، وقوله سبحانه: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}، وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}, وهذا غاية العدل والإنصاف.
10.                  "وأنّ يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة" أبلغ دليل من النبي (ص) على تحديد نطاق مفهوم المواطنة الجغرافي وانتماء المواطن لوطنه.
11.                  "وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها" يقرر فيه قطع أي تعاون عسكري مع أعداء الوطن ومعاونيه في الظلم.
12.                  "وأنّ بينهم النصر على من دهم يثرب، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم" ينص فيه النبي (ص) على مبدأ أصيل من مبادئ المواطنة؛ وهو وجوب الدفاع عن الوطن، كما ينص على أنّ النصر يكون دائماً في حال الحق والعدل، لا في حال الظلم والإثم، فلا يعطي حق المواطنة للمواطن حق البراءة إذا ظلم أو أثم، لأنّ الدين الإسلامي يناصر الحق ويقف بجواره، وينهي عن الباطل ويواجهه.

هذا بعض ما قررته الوثيقة وبنودها من حقوق المواطنة منذ عهد النبي (ص)؛ إذ نصت على أنّ جميع المواطنين (مسلمين وغير مسلمين) يعاملون على أساس واضح من المساواة، فليس هناك مواطنون من الدرجة الأولى، وآخرون من الدرجة الثانية أو الثالثة، فاعتبار العقيدة لا وجود له، والجميع أمام الشريعة وأحكام الحقوق والواجبات سواسية لا فرق بينهم.

ومن ثم كانت هذه الوثيقة مثلاً أعلى للمواطنة أقرت بحقوق المواطنين في الوطن الواحد، وبينت أنه لا فرق بينهم في تحمل المسئوليات، وأنه لا حق لأحد أن يمنح شيئاً من التمييز على حساب الآخر، أو أن يفرق بينه وبين غيره على أساس عقدي أو عنصري؛ فالإسلام يقرر أنّ معيار التمييز والتكريم هو العمل الصالح وخدمة المجتمع والحفاظ على أمنه وسلامته.

الثلاثاء، 11 ديسمبر 2018


فقه التعايش في السيرة النبوية / 05 /


{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}

إنّ هجرة الصحابة الأولى والثانية إلى الحبشة تمثل أصدق تواصل حضاري بين المسلمين، وغير المسلمين، وهي قبل أن تكون مثالاً راقياً في التعاون والتعايش والتسامح، بين الأديان السماوية، ستبقى مدى الدهر مفخرة لأفريقيا عامة، وللحبشة خاصة، لما امتازت به هذه الديار في عهد حاكمها العادل النجاشي (أسحمة) من عدل، وتقدير لحقوق الإنسان؛ فهي أول دولة في التاريخ الإنساني، تمنح حق اللجوء السياسي، لمن هاجر إليها واحتمى بها، من الاضطهاد الديني.

ونحن اليوم في بلادنا العربية والإسلامية، أشد ما نكون حاجة إلى إرساء قيم التسامح الديني، ونبذ العنف، والتعصب القومي، وبسط حرية الاعتقاد، وتقدير مكانة القيادات الدينية، وكرامة الإنسان، أياً كان انتماؤه المذهبي، والقومي، والعرقي.

نعم، كانت هجرة الصحابة إلى الحبشة بتوجيه من النبي (ص) لتكون هذه الهجرة عاملاً مهماً في توثيق عرى الترابط التاريخي بين الحبشة والإسلام، والحبشة والتاريخ العربي، إذ لا يمكن فصل الحبشة حضارياً وعقائدياً عن التاريخ العربي، والإسلامي، وهنا من المستحسن الإشارة إلى ما يراه بعض المؤرخين أهل السودان من أنّ هجرة الصحابة فراراً من أذى قريش واضطهادهم، كانت إلى السودان، وأنّ السودان هو المعني بقوله (ص): "لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لا يُنَالُ عِنْدَهُ أَحَدٌ بِظُلْمٍ، فَالْحَقُوا بِبِلادِهِ، حَتَّى يَجْعَلَ اللهُ لَكُمْ فَرَجًا أَوْ مَخْرَجًا، مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ".

إنّ بلاد الحبشة المنصوص عليها في كتب السيرة النبوية، والتاريخ الإسلامي، كما يرى هؤلاء ما هي إلا بلاد السودان الحالي، الأمر الذي يفهم منه -إن لم ينص على ذلك صراحة- أنّ النجاشي الذي آوى الصحابة في هجرتهم الأولى، والثانية، ونعت النبي (ص) أرضه بالعدل، ما هو إلا ملك سوداني، وأنّ بلال الحبشي (رض)، مؤذن رسول الله (ص)، وأم أيمن بركة الحبشية، حاضنته، بعد وفاة أمه آمنه بنت وهب، ما هما في الحقيقة إلا سودانيان، بالمعنى الجغرافي المعروف.

وحدة أصل الأديان (الحبشة):


لقد كانت الحبشة مجتمعاً تدين بالمسيحية، وكانت مظنة العدل والحماية لكل من يلجأ إليه من المستضعفين وذوي الدعوات النافعة الصالحة، التي تبني ولا تهدم، وتحيي النفوس ولا تفنيها، وهذا ما دعا رسول الله (ص) أن يأذن لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة مخافةَ الفتنة وفراراً إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام، وكان جميع من لحق بأرض الحبشة نيفاً وثمانين رجلاً وإحدى عشرة امرأة.

وحين نزلوا بالحبشة استقبلهم النجاشي خير استقبال وأحسن وفادتهم، فعن أم سلمة (رض) قالت: "لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ, جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النَّجَاشِيَّ, أَمِنَّا عَلَى دِينِنَا, وَعَبَدْنَا اللهَ تَعَالَى, لَا نُؤْذَى, وَلَا نَسْمَعُ مَا نَكْرَهُ" (مسند أحمد: ج 1 ص 202).

وكانت الحبشة متجراً لقريش فدرسوا طريقها وعرفوا ملكها النجاشي، ولذلك سعوا متفائلين في طلب من هاجر من المسلمين، وأرسلوا عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص، فحاولا استمالة النجاشي وتأليبه على تلك الفئة المسلمة توطئة لأخذهم وإعادتهم إلى مكة، إلا أنّ النجاشي رفض وقال لبطارقته:

"لَا هَا اللهِ ايْمُ اللهِ إِذَنْ لَا أُسْلِمُهُمْ إِلَيْهِمَا، وَلَا أُكَادُ قَوْمًا جَاوَرُونِي، وَنَزَلُوا بِلَادِي، وَاخْتَارُونِي عَلَى مَنْ سِوَايَ حَتَّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ مَاذَا يَقُولُ هَذَانِ فِي أَمْرِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولَانِ أَسْلَمْتُهُمْ إِلَيْهِمَا وَرَدَدْتُهُمْ إِلَى قَوْمِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ مِنْهُمَا، وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِي".

وعندما سأل النجاشي المسلمين، بيّن له جعفر بن أبي طالب في خطاب بليغ الحال التي وصل إليها أهل مكة من الانحلال الأخلاقي والديني، وأخبره أنّ الله تعالى بعث رسولاً من بينهم، يتصف بكل خلق حسن وخصلة حميدة، يدعوهم إلى الفضيلة وينقذهم من الرذيلة، ويأمرهم بترك عبادة الأوثان إلى عبادة الله وحده، وزاد جعفر:
"وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا، فَعَذَّبُونَا، وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا، لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ، وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنْ الْخَبَائِثِ، فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَشَقُّوا عَلَيْنَا، وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا، خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ، وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ؛ وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ، وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ".

ثم تلا عليه صدر سورة "مريم"، تقول السيدة أم سلمة: "فَبَكَى -وَاللهِ- النَّجَاشِيُّ حَتَّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ حِينَ سَمِعُوا مَا تَلَا عَلَيْهِمْ".

نعم، فهذا الدين مصداق لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25). يدعو إلى التحلي بمحاسن الأخلاق والتواصل والتعايش مع الآخر في سلام، قال جعفر: "وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ".

بعد أن استمع النجاشي إلى كل ذلك قال: "إِنَّ هَذَا -وَاللهِ- وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ. انْطَلِقَا فَوَاللهِ لَا أُسْلِمُهُمْ إِلَيْكُمْ أَبَدًا، وَلَا أُكَادُ".

ولقد أراد الداهية عمرو بن العاص أن يغدر بالمسلمين عن طريق الحيلة والمكر، فقال للنجاشي: "إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَوْلًا عَظِيمًا! فَأَرْسِلْ إِلَيْهِمْ فَاسْأَلْهُمْ عَمَّا يَقُولُونَ فِيهِ".

ووقف جعفر أمام النجاشي يستعلمه حال عيسى (ع) عندهم؟!!

فقال جعفر بن أبي طالب: "نَقُولُ فِيهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا: هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَرُوحُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ".

تقول السيدة أم سلمة: "فَضَرَبَ النَّجَاشِيُّ يَدَهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا، ثُمَّ قَالَ: مَا عَدَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ،... اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِي (وَالسُّيُومُ الْآمِنُونَ)؛ مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ، ثُمَّ مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبْرًا ذَهَبًا وَأَنِّي آذَيْتُ رَجُلًا مِنْكُمْ". (وَالدَّبْرُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ الْجَبَلُ)

تقول أم سلمة: "فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ مَقْبُوحَيْنِ، مَرْدُودًا عَلَيْهِمَا مَا جَاءَا بِهِ، وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ مَعَ خَيْرِ جَارٍ" (سيرة ابن إسحاق: ج 4 ص 193، وسيرة ابن هشام: ج 1 ص 224، ذخائر العقبى: ص 209 ، والخرائج للراوندي: ج 1 ص 133).

وفي ذلك إشارة للمسلمين في كل زمان ومكان، بأن يخاطبوا غيرهم بما يقربهم ويحببهم فيهم، لا كما يفعل المتشددون من السلفية في هذا العصر، ممن يلجأن إلى دول غير مسلمة ويصرِّون على التأكيد بأنّ أديان تلك الدول باطلة، ويحاولون فرض رؤيتهم للإسلام في تلك الدول غير آبهين لظروف أهلها وبيئتهم وعقائدهم التي نشؤوا عليها، مما يشوه صورة الإسلام في العالم، ويعطي مبرراً لمتعصبي الديانات الأخرى وكارهي الإسلام، أن يروجوا صوراً مغلوطة عن الإسلام والمسلمين.

إنّ نموذج الحبشة الرائع الذي ضربه المسلمون الأوائل في التعايش مع الآخر نبراسٌ للمسلمين في تعاملهم مع الأمم المختلفة التي يعيشون فيها، وهو دافع لهم كذلك إلى أن ينخرطوا في مجتمعاتهم الجديدة ويندمجوا مع تلك الأمم، غير مفرِّطين في ثوابت الدين وأصوله، تلك الثوابت التي تدعو إلى التعامل مع الآخر والتعايش السلمي معه، في إطار من المشاركة والعطاء، والعرفان والوفاء لذلك الآخر الذي استقبلهم في بلاده.

نموذج الاندماج والتواصل في الحبشة:


كانت علاقة الرسول (ص) والمسلمين مع النجاشي وأهل الحبشة علاقة ود واحترام ولين في الكلام، فالمسلمون احترموا أهل الحبشة ولم ينكروا عليهم دينهم، ولم يتدخلوا في شئونهم الداخلية إلا في مساعدتهم في إطار من التعاون والمشاركة والوفاء لجميل إيوائهم وحسن وفادتهم.

وفي ظل هذه العلاقة الطيبة كان النجاشي يبعث للرسول (ص) العديد من الهدايا تعبيراً عن تقديره للرسول:

فعن جابر بن عبد الله: "أَهْدَى النَّجَاشِيُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ (ص) قَارُورَةً مِنْ غَالِيَةٍ".

وعن ابن عباس قال: "أَهْدَى النَّجَاشِيُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ (ص) بَغْلَةً، وَكَانَ يَرْكَبُهَا، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِقَدَحٍ، فَكَانَ يَشْرَبُ مِنْهُ".

وفي مصنف ابن أبي شيبة، عن السيدة عائشة قالت: "أَهْدَى النَّجَاشِيُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ (ص) حِلْيَةً، فِيهَا خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ، فِيهِ فَصٌّ حَبَشِيٌّ, فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ (ص) بِعُودٍ وَإِنَّهُ لَمُعْرِضٌ عَنْهُ, أَوْ بِبَعْضِ أَصَابِعِهِ وَإِنَّهُ لَمُعْرِضٌ عَنْهُ, ثُمَّ دَعَا بِابْنَةِ ابْنَتِهِ أُمَامَةَ بِنْتِ أَبِي الْعَاصِ، فَقَالَ: تَحَلِّي بِهَذَا يَا بُنَيَّةُ".

ولا شك أنّ الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة كانوا تحت رعاية النجاشي بنفسه وتحت نظره ليرى ما يفعلونه في حياتهم من عبادات ومعاملات، ولعل هذا ما أكد صدق كلامهم عنده في أول لقاء وقربه أكثر لمعرفة هذا الدين، ثم تبادل مع الرسول (ص) الرسائل والمكاتبات، وقد حمل بعضها دعوة رسول الله النجاشي إلى الإسلام، وردَّ عليه النجاشي بحب وتوقير وإقرار بأنه رسول الله حقاً، وأنه صادق مصدَّق، وختم ذلك بمبايعته له.

وهذا ما أكدَّه حرص الرسول (ص) على الصلاة عليه حين مات، حيث قال (ص): "مَاتَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ، فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخِيكُمْ أَصْحَمَةَ".

وروى الصدوق بإسناده إلى أبي محمد العسكري، عن آبائه، عن علي (ع) قال: "إنّ رسول الله (ص) لما أتاه جبرائيل بنعي النجاشي بكى بكاءَ حزين عليه، وقال: إنّ أخاكم أصحمة -وهو اسم النجاشي- مات، ثم خرج إلى الجبانة، وكبّر سبعاً، فخفض الله له كل مرتفع حتى رأى جنازته وهو بالحبشة".

كذلك نرى من خلال نموذج تعايش المسلمين في الحبشة كيف فرح المسلمون بنصر النجاشي على عدوه الذي نازعه في ملكه، وفي هذا تقول السيدة أم سلمة: "فَدَعَوْنَا اللهَ تَعَالَى للنَّجَاشِيِّ بالظُّهُورِ عَلَى عَدُوِّهِ، وَالتَّمْكِينِ لَهُ فِي بِلَادِهِ.. فَوَاَللهِ إنَّا لَعَلَى ذَلِكَ مُتَوَقِّعُونَ لِمَا هُوَ كَائِنٌ، إذْ طَلَعَ الزُّبَيْرُ وَهُوَ يَسْعَى، فَلَمَعَ بِثَوْبِهِ وَهُوَ يَقُولُ: أَلَا أَبْشِرُوا، فَقَدْ ظَفِرَ النَّجَاشِيُّ، وَأَهْلَكَ اللهُ عَدُوَّهُ، وَمَكَّنَّ لَهُ فِي بِلَادِهِ.. فَوَاَللهِ مَا عَلِمْتنَا فَرِحْنَا فَرْحَةً قَطُّ مِثْلَهَا" (السيرة النبوية لابن هشام: ج 1 ص 334).

وردَّاً للمعروف لما قدم وفد النجاشي على رسول الله (ص)، كان (ص) يخدمهم بنفسه فقال له أصحابه: نحن نكفيك. فقال (ص): "إنهم كانوا يكرمون أصحابي وأحب أن أكافئهم".

كما فرح النجاشي بنصر النبي (ص) على مشركي مكة في غزوة بدر، فأرسل إلى المسلمين، فلما دخلوا عليه إذا هو قد لبس مسحاً وقعد على التراب والرماد، فقالوا له: ما هذا أيها الملك؟! فقال: "إنا نجد في الإنجيل أنّ الله سبحانه إذا أحدث بعبده نعمة وجب على العبد أن يحدث لله تواضعاً، وإن الله قد أحدث إلينا وإليكم نعمة عظيمة، وهي أنّ النبي محمداً (ص) بلغني أنه التقى هو وأعداؤه بوادٍ يقال له بدر، كثير الأراك، وأنّ الله تعالى قد هزم أعداءه فيه، ونصر دينه" (الروض الأنف: ج 2 ص 116، والبحار: ج 18 ص 421).

وفي إطار هذا التعايش السلمي بين المسلمين وأهل الحبشة يذكر: أنّ جعفراً (ع) ولد له بأرض الحبشة ثلاثة أولاد: محمد، وعون، وعبد الله. وكان النجاشي قد ولد له مولود يوم ولد عبد الله، فأرسل إلى جعفر يسأله كيف أسميت ابنك؟ فقال: عبد الله. فسمى النجاشي ابنه عبد الله، وأرضعته أسماء بنت عميس امرأة جعفر مع ابنها عبد الله، فكانا يتواصلان بتلك الأخوة. (الروض الأنف: ج 4 ص 103).

وكما نجد أنّ المهاجرين اليوم إلى دول أخرى يفضلون الإقامة الدائمة في تلك البلدان، ما داموا آمنين مطمئنين على أنفسهم ودينهم، كذلك نجد أنّ فئة من الصحابة حبذت الإقامة في الحبشة حتى بعد هجرة الرسول (ص) إلى المدينة، حيث بقي منهم في الحبشة نحو خمسين أو ستين تحت حماية النجاشي.

قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8)..

هذا النموذج الذي وضعه الإسلام للتعايش السلمي مع الآخر، قد طبقه المسلمون الأوائل حين هاجروا إلى الحبشة هرباً من اضطهاد مشركي مكة، فاندمجوا في المجتمع وتعاملوا مع الأحباش، وتاجروا معهم، وأخذوا وأعطوا، بل لقد دعوا الله تعالى للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده، وفرحوا بنصرته، وتذكر بعض الروايات أن المسلمين قد تعاونوا مع النجاشي في حربه مع عدوه، ولعلهم رأوا في ذلك نصرة للحق وردا للمعروف.

فأن يكون المسلمون أقليَّة تعيش في مناخ من الأمن والعدل والحرية في ظل دولة غير إسلامية، فهذا النموذج أو هذه الحالة قد تبدو في القرن الثاني أو الثالث الهجري مجرد فرض مستبعد قيامه، وعليه فإنّ الفقهاء لم يستجيزوا التعامل معه أو تصوره؛ كي لا يكون تأصيل أحكام لمثل هذا النموذج فيه ذريعة للضعف، ولكنّ الزمان قد استدار والواقع قد تغير وربما تحتاج الأمة إلى أن تعود لهذا النموذج مرة أخرى، فيتمسكوا بالسيرة العطرة لرسول الله (ص) ويطبقوها في واقعهم الذي يعيشونه، ليهتدوا به في تعاملهم مع الأمم التي يعيشون فيها، غير مفرطين في ثوابت الدين وأصوله.

محرم 1447 في الصحافة الكويتية