الاثنين، 24 ديسمبر 2018


فقه التعايش في السيرة النبوية /08/



{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}

تعامل الرسول (ص) مع المنافقين:


يعد النفاق والمنافقون خطراً داهماً وشراً مستطيراً على الإنسان والمجتمع، لذا حذَّر الإسلام من النفاق وأهله، وأنزل الله عز وجل سورة باسمهم، تسمى (المنافقون).

وليس يوجد تناغم بين المؤمن والمنافق، بل بينهما حواجز في السمات الشخصية، نفسية كانت أو سلوكية. وهذه الحواجز قد أقرَّها الكتاب الكريم: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ} (الحديد: 13-14).

(النظر) إذا تعدى بـ(إلى) كان بمعنى إلقاء البصر نحو الشيء.

وإذا تعدى بـ (في) كان بمعنى التأمل والتدبر.

وإذا تعدى بنفسه -أي بدون حرف جر- أفاد معنى التأخير والانتظار (مفردات القرآن: ص 518 ـ 519).

والسياق في الآية يفيد أنّ المنافقين أحاطتهم ظلمة في يوم القيامة، وقد طلب منهم ومن المؤمنين التقدم إلى دار قرارهم، ولكن يقع التغاير في النتيجة، فبينما نرى المؤمنين يسيرون بنورهم الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم فيبصرون طريقهم ويهتدون إلى محل إقامتهم، نرى المنافقين يتخبطون في تيه الظلام المغشي حولهم لا يهتدون سبيلهم فيتأخرون عن اللحوق بالمؤمنين، فيسأل المنافقون المؤمنين الانتظار حتى يلحقوا بهم ويأخذوا جذوة من نورهم ليستضيئوا به في طريقهم.

وهذا التعبير من باب إثارة الفكرة التي تضع الأشياء وجهاً لوجه أمام الحقيقة الصارخة ..

فليس هناك نور في القضية التي يواجهونها بل لا بدّ أن يبحثوا وراءهم ليلتمسوا النور هناك في دار الدنيا -وهو تعبير على سبيل الاستهزاء-.

فيأتي الخطاب، {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}: ارجعوا إلى دار الدنيا التي تركتموها وراء ظهوركم وعملتم فيها ما عملتم من النفاق والتمسوا من أعمالكم تلك النور.. ولكن أنّا يفيد صرخاتكم وقد ضرب الله بينكم وبين المؤمنين باباً {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ}، وهو يشبه حال المنافقين في الدنيا فقد كان لهم فيها اتصال بالمؤمنين، وهم مع ذلك محجوبون عنهم بحجاب، فكما كانوا في الدنيا صيرهم الله عزّ وجلّ في الآخرة.

إنّ هذه الآية الكريمة ترسم البون الشاسع بين خط المؤمن وخط المنافق وأنّ الله عزّ وجلّ وضع آيات تصلح أن تكون عناوين بارزة لسلوكنا مع هذه الفئة المنحرفة:

الآية الأولى: قال تعال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ @ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ @ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} (البقرة: 204 -  206).

هذه الآيات تعكس بصراحة صورة المنافق في كل زمان ومكان، الذي يبيع نفسه لخط الشيطان، ونستفيد من أجوائها عدة أمور:

1. الحرص على إعطاء الآخرين الثقة والتأييد والدعم من خلال المواقف لا من خلال الكلمات والمظاهر.
2. أن نلاحق هذين النموذجين في حركة الواقع من أجل أن نتابع خط النفاق بالرفض والمواجهة من أجل إزاحته من واجهة الصورة لتخليص الناس من فساده .. بينما نتابع الخط الأول بالتأييد والدعم.
3. أن نتمثل في وعينا المبادئ السلبية من الإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل.. لنجعل منها أساساً للتعامل السلبي مع كل البرامج.
4. عدم تركيز العاطفة في معنى الحب أو عدم الحب بل هما ركيزتان للخط الإيجابي والسلبي من العمل.

الآية الثانية: قال تعالى: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} (النساء: 91).

هذه الآية الكريمة جاءت عقيب آية تذكر الكفار جاء في مقطع منها: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} (النساء: 90)..

والسؤال: لماذا عبّر القرآن الكريم بقوله {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ} في الكفار، وبقوله: {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ} في المنافقين؟!

والجواب في شقين:

أحدهما: إشارة إلى أنّ المنافقين غير مأمونين في مواعدتهم وموادعتهم بدليل أنه تعالى قال في آية الكفار: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ}، ولم يقل ذلك في آية المنافقين.

وثانيهما: أنّه عبر بالشرط المنفي {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ} الذي يفيد تنبيه المؤمنين على أن يكونوا على حذر منهم.

ونستوحي من هذه الآية عدة دروس:

1. أن يتعمق العاملون في دراسة النماذج البشرية الموجودة في الساحة من الفئات المنافقة، فلا يستسلموا للأجواء الحميمة وتقديم التنازلات لمجرد أنّ هناك هدفاً في هداية الناس ينبغي للمسلم أن يستهدفه.. بل لا بدّ من دراسة تاريخ هؤلاء في سلوكهم العملي والتعرف على حركتهم في الحاضر.
2. أن يخرج العمل الإسلامي من منطق السذاجة المنطلقة من حالة الطهارة الروحية البريئة التي يعيشها العاملون، فيتحركون في الفراغ ويبذلون الجهد الضائع.
3. على المؤمنين أخذ الحذر والحيطة في علاقتهم بالفئات التي تحمل هذا التفكير وتعمل لهذا الهدف، سواء كان ذلك على مستوى الأحزاب، أو على مستوى الأفراد، فلا يتخذوا منهم أولياء.. {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} (النساء: 89).
فعلى العاملين أن يعاملوهم معاملة الأعداء من حيث الحذر في الموقف والعلاقة والمعاملة .. ليأمنوا شرهم ويحفظوا الناس من الوقوع في حبائلهم.
4. أن ندرس حالة الحياديين فنميز بين الذين يحملون الحياد كموقف ينطلق من قناعاتهم النفسية فنحترم حيادهم تبعاً لمصلحة الإسلام والمسلمين وحالة الصراع بيننا وبين الفئات المعادية .. وبين الذين يلعبون بالحياد كورقة يحصلون فيها على امتيازاته من حيث الأمن الذي يمنحهم حرية الحركة في اللعب على أكثر من جهة.

بعد هذه المقدمة ..

علينا أن نفرق بين أمرين:

الأول: بين موقف الشريعة الإسلامية من (الآخر) من ناحية الصواب والخطأ.

والثاني: بين تعامل الشريعة الإسلامية مع الآخر (أعني التعامل الحركي).

- ففي ناحية الحكم بالصواب والخطأ، كانت الشريعة الإسلامية في منتهى الوضوح مع الآخر من أول يوم نزلت. ومما قد تعجب له أنّ الوحي تحدث كثيراً عن عيسى (ع) في مكة، ولم يكن في مكة نصارى إلا غلام واحد لا يحسن العربية، فسورة مريم من أوائل ما نزل، وقرأ منها جعفر بن أبي طالب أمام النجاشي. وتحدث الوحي عن موسى (ع)، وعن يهود في مكة، وعن الوثنية وعبادة النجوم. لقد كانت الشريعة في منتهى الوضوح من الآخر كله. ولهذا مقام يطول ذكره.

- وكانت الشريعة في منتهى الوضوح مع المنافقين، بل كان الوحي لهم بالمرصاد يفضحهم في كل نازلة؛ يحكي مواقفهم، وأحاديثهم الخاصة، بل وما تكّن صدورهم. وهذا كلّه مثبت في كتاب الله، وسنة رسوله (ص)، ومنها نماذج:

{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } (المائدة: 52).

{وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ @ الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران: 168).

المنافقون كطابور خامس:


هناك نماذج أخرى من النّاس يتحدث عنها القرآن، فيقول الله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ}.

وهذا يعبّر -كما في المصطلح المعاصر- عن الطابور الخامس، وهم المنافقون الذين كانوا يحاولون إعاقة المسيرة وتخذيل المسلمين أمام الزلزال الذي حدث بفعل الحصار الذي أسر به المسلمون من قبل الأحزاب {وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا}، أي سيروا معنا ولا تقفوا إلى جانب رسول الله (ص) {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً}. والبأسُ هنا كنايةٌ عن الحرب فهـم ليسوا مستعدِّيـن للمشاركة في الحرب {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ}، بُخلاء لا يعطونكم ما تحتاجونه {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يُغشى عليه من الموت}، أي في ظلّ الحرب النفسيّة التي تزرع الخوف في القلوب والتي عبّر عنها القرآن {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ} (الأحزاب: 10).

{فإنَّ ذهب الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ}، أي أنَّهم شعروا أنَّكم في موقع الهزيمة فأظهروا ما في نفوسهم ضدّ المؤمنين والمسلمين، فتحدّثوا بالكلمات الحادة التي تمثِّل الإهانة للمسلمين {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ}. فهم ليسوا مستعدِّين أن يُعطوا من نفوسهـم الخيـر {أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا}.

وهذا هو محل الشاهد، فهؤلاء الذين يتحرّكون في حال الحرب بطريقة التخذيل والتعويق للمسيرة والتكلّم بشكلٍ سلبي ضدّ المسلمين دون إعطائهم شيئاً مما يحتاجونه، لـم يؤمنوا، فالمؤمن هو الذي يعيش مع المؤمنين بكل معنى المشاركة في الحرب وفي السلم وفي كلّ أوضاعهم وحاجاتـهم التي يحتاجونـها في ساحة التحدّيات {فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} (الأحزاب: 18-19) لأنَّهم لـم ينطلقوا من قاعدة، فإنَّما حبطت أعمالهم لأنَّهم أبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان، ومن الطبيعي أنَّ الكفر يُحبط عمل الإنسان.

وفي حوار رسول الله (ص) مع الإمام علي (ع) قال:

"وَلَقَدْ قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ 2: إِنِّي لَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مُؤْمِناً وَ لَا مُشْرِكاً؛ أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَمْنَعُهُ اللهُ بِإِيمَانِهِ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُ فَيَقْمَعُهُ اللهُ بِشِرْكِهِ، وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ كُلَّ مُنَافِقِ الْجَنَانِ، عَالِمِ اللِّسَانِ، يَقُولُ مَا تَعْرِفُونَ، وَيَفْعَلُ مَا تُنْكِرُونَ". فهو وإن كان عالماً عارفاً بكم، ولكنه عندما يتحرك وينطلق، فإنه يحرق المجتمع الإسلامي بخططه ومؤامراته وحقده وانحرافه.

اَللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاجْبُرْ بِالْقُرْآنِ خَلَّتَنا مِنْ عَدَمِ الإمْلاقِ، وَسُقْ إِلَيْنا بِهِ رَغَدَ الْعَيْشِ وَخِصْبَ سَعَةِ الأرْزاقِ، وَجَنِّبْنا بِهِ الضَّرائِبَ الْمَذْمُومَةَ وَمَدانِيَ الأخْلاقِ، وَاعْصِمْنا بِهِ مِنْ هُوَّةِ الْكُفْرِ وَدَواعِي النِّفاقِ، حَتّى يَكُونَ لَنا فِي الْقِيامَةِ إِلى رِضْوانِكَ وَ جِنانِكَ قائِداً، وَلَنا فِي الدُّنْيا عَنْ سُخْطِكَ وَتَعَدّي حُدُودِكَ ذائِداً، وَلِما عِنْدَكَ بِتَحْليلِ حَلالِهِ وَتَحْريمِ حَرامِهِ شاهِداً.

وللحديث صلة...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

محرم 1447 في الصحافة الكويتية