فقه التعايش في السيرة النبوية / 04 /
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:
107].
تعايش النبي (ص) في مكة المكرمة بعد البعثة:
بعد
نزول الوحي لم يترك الرسول (ص) ولا أصحابه الأوائل ممن آمن بدعوته أشغالهم، كما لم
يحبسوا أنفسهم عن الناس وعن التجارة والسفر رغم ما عانوه من اضطهاد قريش، ولم يرفض
المسلمون التعايش مع الآخر.
وكلّما وفد عليه (ص) أحدُ أبناء القبائل العربية، وأسلم
على يده، يأمره بالعودة إلى قومه المشركين ليعيش معهم، هكذا فعل مع ضَماد الأزْدي،
وعمرو بن عبْسة السُّلمي، والطفيل بن عمرو الدوسي، وأبو ذر الغفاري، كما ذكرت جميع
كتب السيرة، فالرسول (ص) هو أول من دعا إلى العيش المشترك مع الآخرين.
ولقد
استوعب المسلمون الأوائل -من خلال تعايش الرسول الكريم (ص) لأهل مكة والقبائل التي
حولها- أهمية إجادة فن التعايش في حياتهم أيضاً، لأنها الأسلوب الأمثل للدعوة
لمكارم الدين والخلق، وهذا يقتضي منهم تطبيق جملة من من القواعد:
القاعدة الأولى: اجتهد حتى تجد المنطقة
المشتركة مع الآخر.
القاعدة الثانية: ابحث عن كل علم
وعمل يساعدك أن تجد المنطقة المشتركة مع الآخر.
القاعدة الثالثة: اندمج في
المجتمع ولا تنعزل عنه. لا تختلف عن المجتمع
في طريقة الكلام أو في طريقة الحديث، تكلم بلغة مجتمعك، ولكن مع عدم فقد هويتك.
القاعدة الرابعة: لا ترفض أي
فكرة بشكل مطلق حتى تجد إمكانية الاستفادة
منها في منطقة مشتركة. لا ترفض الفكرة لمجرد اعتراض ولكن حاول التفكير فيها
أو التعديل فيها. هناك من لا يقتنع بفكرةٍ فيرفضها. اعط لنفسك مساحة للتفكير.
القاعدة الخامسة: لا تظلم المخالف
لك في الرأي فتحوله إلى عدو.
القاعدة السادسة: كن صادق النية
في تجميع الناس وإرادة الحق؛ فهناك من يريد
الحق وفقًا لهواه، قبل دخول النقاش يضع الحق في كفة وهواه في كفة، ويرجح هواه مسبقًا.
القاعدة السابعة: احترم الناس لتكسب
قلوبهم.
القاعدة الثامنة: كن مرنًا.
القاعدة التاسعة: كن إنسانًا؛ حب الإنسان حتى لو حدث
خلاف بينكم.
القاعدة العاشرة: التعايش لا
يعني الذوبان.
من
خلال تطبيق المسلمين لهذه القواعد نرى أنّ مشركي قريش هم من قاموا بنبذ المسلمين
ورفض التعامل معهم، وفرضوا حصاراً على المسلمين في شِعب أبي طالب ثلاث سنوات، حتى
اشتد بهم البلاء، ولجأ الصغار إلى أكل ورق الشجر، ووصل الظلم مداه إلى أن كره عامة
قريش ما أصاب المسلمين، وأظهروا كراهيتهم لصحيفتهم الظالمة، فنقضوها. (السيرة
النبوية لابن كثير: ج 2 ص47).
كما
لم يهجر الرسول (ص) الكعبة، ولم يمنعه
وجود الشرك وكثرة الأصنام فيها عن ارتيادها..
ولقد
وجد المسلمون من صنوف العذاب ألواناً على يد مشركي قريش، إذ وثبت كل قبيلة على مَن
فيها من المسلمين فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة إذا
اشتد الحر، ليفتنوهم عن دينهم. وكان رسول الله (ص) يحثهم على الصبر وقوة التحمل
إلى أن يجعل الله لهم مخرجاً.
يقول
خباب بن الأرت: أَتَيْتُ النَّبِيَّ (ص) وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً، وَهُوَ فِي
ظِلِّ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ لَقِينَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَدْعُو اللهَ؟
فَقَعَدَ
وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ فَقَالَ: "لَقَدْ
كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ لَيُمْشَطُ بِمِشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عِظَامِهِ مِنْ
لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ
عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ
دِينِهِ، وَلَيُتِمَّنَّ اللهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ
صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ مَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ" (رواه
البخاري: ج 3 ص 1322).
ولما
سمع المسلمون ذلك تقووا وازدادوا في الثبات على العقيدة والصبر على البلاء.. فهذا
بلال بن رباح، يوضع الحجر العظيم على صدره، ويقال له: لا تزال هكذا حتى تموت أو
تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك البلاء: "أحد أحد".
فمر به أبو بكر يوماً فاشتراه وأعتقه. (السيرة
النبوية لابن هشام: ج 1 ص 317).
وفي
ظل هذه الظروف القاسية قد يضعف بعضهم ويتراجع عن عقيدته جراء التعذيب الشديد،
وهناك صنف آخر أضمر الإيمان وأظهر الكفر هرباً من التعذيب والتنكيل مثل عمار بن
ياسر؛ إذ أخذه المشركون فلم يتركوه حتى سبَّ النبي (ص) وذكر آلهتهم بخير، ثم
تركوه، فلما أتى رسول الله (ص) قال: "ما وراءك؟"
قال: شر يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير. قال: "كيف تجد قلبك؟" قال: مطمئناً بالإيمان.
قال: "إن عادوا فعد" (المستدرك
على الصحيحين: ج 2 ص 389)، وفي شأنه نزل قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ
وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرًا} (النحل:106).
ولم
يقف التعذيب عند الرجال، بل تعدَّى ذلك إلى النساء، فعذَّب المشركون أم عمار
السيدة سمية (رض) حتى استشهدت، فكانت أول شهيدة في الإسلام، واستشهد كذلك زوجها
ياسر (رض)، وكان رسول الله (ص) يمر عليهم فيأمرهم بالصبر ويبشرهم بالجنة، قائلا: "صبراً آل ياسر فإنّ موعدكم الجنة".
كذلك
أعطى الرسول (ص) نموذجاً إنسانياً سامياً للتعايش مع الآخر في ظل الاضطهاد
والتعذيب، إذ لم يعاملهم بالمثل، بل قابل السيئة بالحسنة، مصداقاً لقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4)،
فكان أهل مكة -رغم تكذيبهم واضطهادهم له- يأتمنونه على أشيائهم الثمينة والنفيسة،
وقد تجلَّى صدق المعاملة والأمانة حين أمر (ص) بالهجرة من مكة إلى المدينة فترك
وراءه الإمام علي بن أبي طالب (ع) ليرد الأمانات إلى أهلها، ليكون مثالاً فريداً
في حفظ الأمانات والحرص على تأديتها لأهلها رغم عداوتهم واضطهادهم له، مصداقاً
لقوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ
عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة:8).
إنّ
المعاملة الحسنى في مواجهة الإساءة، تجعل العدو صديقاً، وتكون باباً من أبواب
الدعوة إلى الإسلام بين غير المسلمين، كما قال الله عز وجل: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ
وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصِّلت:34).
إن
نموذج (الصبر على البلاء في التعايش مع الآخر) يعد مثالاً يحتذى في كل زمان ومكان،
خاصة عندما يكون المسلمون أقلية في بلاد يعمل المتشددون فيها على تشويه صورة
الإسلام والمسلمين، ويحاولون اضطهادهم وإقصاءهم، ساعتها يتذكر المسلمون أسلافهم
فيقتدون بهم في التمسك بثوابت الدين الحنيف مع بسط ثقافة التعايش السلمي ومكارم
الأخلاق في العالمين.
الحاجة إلى مشروع وطني واحد:
حين يتعايش الناس مع اختلافاتهم في وطن واحد، فلا بدّ
لهم من مشروع وطني يجمعهم، وينظّم الحياة المشتركة بينهم، ويمنع تحوّل الخلافات
إلى صراع.
إنّ السعودية وطن يتألّف من مجموعة من المذاهب. هذا
هو واقعه. لكلّ من الطوائف مساحتها الخاصة، تمارس فيها خصوصيتها الدينية ضمن ساحة
المجتمع العامة. بينما على الدولة أن تمارس سلطتها في المساحة المشتركة التي تجمع
جميع المذاهب، وهذا ما لم تحققه الدولة حتى الآن.
فالعلاقة بين الوطن والطوائف تتصور في شكلين:
الشكل الأول: أن تكون العلاقة علاقة صراع، ويحصل ذلك حين تريد
السلطة توسيع المساحة الوطنية المشتركة على حساب خصوصيات كل طائفة، أو حين تريد
الطوائف توسيع مساحتها الخاصة على حساب المساحة المشتركة.
والشكل الثاني: أن تكون العلاقة علاقة توافق وتكامل، وذلك حين تكون
الحدود واضحة بين المساحة المشتركة والمساحات الدينية الخاصة، ويرضى كل من الطرفين
بمساحته المحددة.
والشكل الثاني يحتاج إلى دستور واضح يحدد مساحة
الطوائف الخاصة بأمور العبادة والأحوال الشخصية. وهذا يعني أنّ كل ساحات المجتمع
الأخرى هي ساحات وطنية مشتركة.
ولكن للأسف إنّ الأعراف القبلية قضت بتوزيع أهم
المناصب السياسية والادارية توزيعاً طائفياً، فوسّعت مساحة الطوائف خارج نطاق
العبادة والأحوال الشخصية، بحيث تداخلت مع المساحة الوطنية المشتركة، بل وتغلّبت
عليها.
فهل يتاح لنا من خلال كلمة خادم الحرمين الأخيرة أن تبنى
دولة معاصرة تحفظ حقوق الإنسان وتحمي حرياته، وتطلق نشاطه؟ أم تظل الأمور خاضعة
للصراعات والتجاذبات الإقليمية والعالمية؟ كلنا أمل أنّ المستقبل للإنسان وللقيم
الإنسانية الخالدة، قيم الحق والعدالة والأخلاق، مهما طال الزمن وكثرت التضحيات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق