/ فقه التعايش في السيرة النبوية 07/
{وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}
تحدثنا أنّ بداية
التطبيق العملي الشامل لمبدأ التسامح والتعايش، فكان ذلك منذ قدومه (ص) مهاجراً
إلى المدينة المنورة، حيث قام (ص) بكتابة وثيقة دستورية، احتوت بنوداً أساسية
محققةً لعنوان المواطنة وحقوق المواطنين وواجباتهم، من النواحي السياسية والعسكرية
والاقتصادية والاجتماعية.
فنصّت هذه الوثيقة على
أنّ جميع المواطنين (مسلمين وغير مسلمين) يعاملون على أساس واضح من المساواة، وليس
هناك مواطنون من الدرجة الأولى، وآخرون من الدرجة الثانية، وأنّ العقيدة لا وجود
لها، بل الجميع أمام الشريعة وأحكام الحقوق والواجبات سواسية لا فرق بينهم.
نماذج من تطبيقات قيم المدينة (العدل والمساواة):
يمثل العدل دعامة وطيدة،
وصفة أصيلة للشريعة الإسلامية، حيث أمرت بأن يكون الحكم بالعدل، ولو على المخالف،
وقد استوعبنا ذلك من خلال تسليط الضوء على قوله تعالى: {وَلَا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى}.
بل يجب تحري العدل ولو
كان ضد النفس، حيث يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى
أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}، ففي الآية الكريمة جملة
من الأمور المهمة:
1.
أنّ العدل لا يُجتزأ،
فكما أنه مطلوب في الحكم والسلطة، كذلك هو مطلوب ليكون مناخاً يعاش ويتغلغل في
الحياة اليومية لكل الناس، لا ينفصل عنها.
2.
إنها تشدد على هذا
المفصل: {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}، مما
يعني قبولك بالنقد والانتقاد، وأن لا أحد فوق المساءلة والمحاسبة.
3.
في هذه الآية العظيمة،
يحذّر الله من المطبّ الآخر الذي يقع فيه الإنسان، وهو مطبّ الأهل والأقربين، ذلك
لأنّ الله تعالى يعلم كم للجانب العاطفي والانفعالي من تأثير، وكيف يطغى ويعمي
القلب.
إنّ هذا الطغيان له في
مجتمعاتنا الكثير من الأمثلة والوقائع الخطيرة، ولعله سبب رئيس لعدم تحقق العدالة،
حيث يدفع من هم في موقع المسؤولية إلى أن ينحدروا ويعتبروا من ظالمين؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ
وَالأَقْرَبِينَ}.
فليس لك كمسؤول أن تعتبر
أنّ قريبك أحق بالوظيفة من غيره، فقط لأنّه قريبك.
بل ليس من صلاحيتك
-كمسؤول- أن تأتي بأقاربك إلى المؤسسات والإدارات العامة، متجاوزاً كل الأنظمة
السائدة، من اختبارات عادلة أو من تقييم أو كفاءة...
وليس لك أن تتم تغطية
فلان وفلان، لأنّه مقرب من المدير أو المسؤول، حتى إنَّ خطأه يغتفر ويتم تجاوزه...
إنّ الله تعالى يحذركم
من قوله في كتابه: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}، يعلم كم تلجأون أيها
المسؤولون إلى التمييز والتفضيل، ولَيّ عنق القانون والأنظمة والأحكام.
وفي يومنا هذا، يتقن
الكثيرون -للأسف- ليّ القوانين إلى حدّ كسرها وجعلها واجهة من دون مضمون.
لهذا نناشد الجميع، ومن
هم في مواقع المسؤولية، أن يضعوا هذه الآية نصب أعينهم، وفي مؤسساتهم، وأمام كل من
لديه صلاحيات، كي تذكرهم بالعدل. ونقول للجميع: كونوا تحت القانون لا فوقه، لا
تقبلوا أن تمر أي حالة استثنائية.
إنّ من يريد أن ينجح
ويفلح ويظل سجلّه نظيفاً عند الله، أكان حاكماً أم إنساناً عادياً، وفي أي موقع من
مواقع الحياة، فمعيار النجاح هو القسط، هو العدل، وإلى هذا أشارت الأحاديث عن
الإمام علي (ع): "العدل أساس به قوام العالم"،
"بالعدل تتضاعف البركات"، "اعدل تحكم"، "اعدل
تملك"، "ما عمرت البلدان بمثل العدل"..
فلندخل قيمة العدل إلى كلّ ساحاتنا، من دون تجزّأة: في النظرة، والكلمة، والتشجيع،
والمكافئة، وإعطاء الفرص، والتقييم...
وفي ذلك يروي جابر بن
عبد الله الأنصاري: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ سَرَقَتْ، فَأُتِيَ
بِهَا النَّبِيُّ (ص)، فَعَاذَتْ بِأُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ (ص): "لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ لَقَطَعْتُ
يَدَهَا فَقُطِعَتْ يَدُهَا" (سنن النسائي: ج 8 ص 74
ح 4891)..
هذا هو حسم العدل..
وقد
عبّر حفيده الإمام زين العابدين (ع) عن هذا
الاتجاه في النظرة إلى الموضوع نفسه من دون تأثير لأية حالةٍ
عاطفيةٍ أو انفعالية في القرار الحاسم قال: "وَارْزُقْنِي التَّحَفُّظَ مِنَ الْخَطايا،
وَالاْحْتِراسَ مِنَ الزَّلَلِ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ، في حالِ الرِّضا
وَالْغَضَبِ، حَتّى أَكُونَ بِما يَرِدُ عَلَيَّ مِنْهُما بِمَنْزِلَة سَواء،
عَامِلاً بِطاعَتِكَ، مُؤْثِراً لِرِضاكَ عَلى ما سِواهُما فِي الأوْلِياءِ
وَالأعْداءِ، حَتّى يَأْمَنَ عَدُوِّي مِنْ ظُلْمي وَجَوْري، وَيَيْأسَ وَلِيّي
مِنْ مَيْلي وَانْحِطاطِ هَوايَ".
كما أكدَّ الإسلام أنّ
المساواة سمةٌ من سماته، وأصلٌ من أصوله، فهو يقرر أنّ الناس سواسية، وفي ظله
تتلاشى الفوارق، وتزول كل الاعتبارات عدا التقوى، فلا تفاضل بينهم في إنسانيتهم..
وفي حجة الوداع، خطب (ص) بِمِنًى فِي وَسَطِ أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ، وَهُوَ عَلَى بَعِيرٍ، فَقَالَ: "يَا
أَيُّهَا النَّاسُ، أَلا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، أَلا وَإِنَّ أَبَاكُمْ
وَاحِدٌ، أَلا لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، أَلا لا فَضْلَ لأَسْوَدَ
عَلَى أَحْمَرَ إِلا بِالتَّقْوَى، أَلا قَدْ بَلَّغْتُ؟"
قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: "لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ" (مسند أحمد:
ج 5 ص 411).
وفي ظل دولة المدينة
التي أسسها رسول الله (ص) أكدَّ على قيمة العدل بين فئات المجتمع على اختلاف
أعراقهم وأديانهم، حتى إنّ الرسول (ص) تعامل بالعدل والإحسان مع غير المسلمين في
المدينة -وقد كانوا أقليَّة- فلم يؤثر أنّه (ص) أو أحداً من أصحابه تعرض إليهم
بسوء أو اضطهاد أو تضييق أو تمييز.
ومن تأكيد الإسلام على
قيمة العدل وترسيخ المساواة بين المسلمين وغير المسلمين، أن أنزل الله عز وجل
قرآناً في واقعة تبين مدى عدالة الإسلام وحسن معاملته للآخر:
حين حاول بعض الصحابة
-في عهد رسول الله (ص)- أن يتستر على سارق مسلم، وأن يفوِّت العقاب عليه، وأن
يقدِّم شخصاً آخر يهودياً ليعاقب مكانه، أنزل الله ثماني آيات في سورة النساء
تدافع عن حق اليهودي، وتحث على إظهار العدالة، فقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ
لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ
خَصِيمًا} إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ
خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا
وَإِثْمًا مُبِينًا} (النساء: 105-113).
ولهذه الآيات قصة ذكرها
المفسرون في أسباب النزول، وخلاصتها أنّ أحد المسلمين سرق مالاً من شخص مسلم، وكان
للسارق عشيرة تملك مواقع متقدمة في المجتمع، وكانت الدلائل التي اتبعها المسلمون
-أو أرادوا أن يتبعوها في التحقيق- تهدي إلى السارق الحقيقي، واجتمعت عشيرته
للتشاور، وقرروا أن يبعدوا التهمة عنه، فجاؤوا بالمال المسروق ووضعوه عند يهودي
هناك، لتثبت الجريمة عليه ويبرّأ السارق، وحاولوا أن يخلقوا جواً يوحي بالثقة
بالنتائج التي أرادوها أمام رسول الله (ص)، ظناً منهم أنّ يهودية هذا الشخص تساهم
في استبعاد دفة الاتهام عن السارق الحقيقي في التحقيق في المسألة، وتسهّل
-بالتالي- ثبوت التهمة عليه.
وقد خُيِّلَ إليهم أنّ
الرسول (ص) ربما يميل إلى ما أرادوه أو ظنوه، إرادةً منه لتبرئة المسلم على كل
حال.
ولكنّ الله أراد أن
يسدِّد رسوله ويطلعه على جانب الغيب في المسألة، حتى لا يتوقف أمام الإثباتات
الظاهرية للقضية، على أساس أنّ القضاء في الإسلام يخضع للبيّنات والأيمان، فهي
الوسائل المطروحة لدى القضاة، حتى ولو كان النبي (ص) هو القاضي؛ الثابتة في قوله (ص):
"إنَّما أقضي بينكم بالأيمان والبيّنات".
ولكن ذلك جارٍ على
الأوضاع العادية في مسائل التحاكم؛ أما في القضايا التي تتعلق بالخط المستقيم
للعدالة بشكل عام، فإنها ترتبط بالأجواء الداخلية والسلوكية للتصور الإسلامي
للعلاقات التي تعطي المسلمين الجوَّ الرائع في الأخلاق والسلوك، في ما يجب أن
يتمثلوه ويعيشوه في حياتهم، كما حدث في هذه القضية التي أراد الله من خلالها تقرير
مبادئ عدة في حياة المسلمين العاطفية والاجتماعية، من أجل أن لا تنحرف عن خط العدالة
في ذلك كله.. (أنظر: سنن الترمذي: ج 5 ص 244، ومستدرك الصحيحين: ج 5 ص 550
ح 8225، ومجمع البيان: ج 3 ص 160 – 161).
إنّ هذه الواقعة
-بثبوتها في القرآن وبيانها في السيرة والسنة النبوية- مثال صريح وتطبيق قاطع
لقيمتي العدل والمساواة في الإسلام، وهي مما يساعد في نشر وتعميق روح المواطنة بين
أبناء الوطن الواحد؛ إذ الإنسان دائماً يسعى إلى الإنصاف والعدالة والمساواة،
ويرغب في أن يحيا في ظل دولة تحقق تلك القيم النبيلة بين فئات المجتمع وطوائفه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق