الاثنين، 18 فبراير 2019

العمل التطوعي في بلاد غير المسلمين


وردني سؤال من الأستاذة الفاضلة نقاء جمعة اللواتي (مسقط / سلطنة عمان) حول طبيعة العمل التطوعي وهل يجوز للمسلم أن يتبرع من وقته للعمل الخيري في بلاد ومجتمعات غير المسلمين، أو في بلاد ومجتمعات على غير المذهب.

الجواب:

علينا أن نعي أولاً أنَّ المساواة سمة من سمات الإسلام، وأصل من أصوله، فالإسلام يقرِّر أنَّ الناس سواسية، وفي ظله تذوب فوارق الجنس واللون، وتتحطم صفة الحسب والجاه والسلطان، فلا تفاضل بينهم في إنسانيتهم، وإنما التفاضل يرجع إلى أسس أخرى.

فالله تعالى خلق الناس بحسب فطرتهم متماثلين، وكذلك ولدتهم أمهاتهم أحراراً متكافئين، ولكن دخولهم في ملاحم الحياة الاجتماعية ينزع عنهم لباس التماثل والتساوي، ويرفع بعضهم فوق بعض درجات.

والأدلة في الشريعة الإسلامية تترى في تقرير هذا المبدأ:

ويكفينا الرجوع إلى القرآن الكريم:

1 . قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنَ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُم} (الحجرات: 13). وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} (النساء: 1).

ففي هاتين الآيتين ينادي الله تعالى الناس قاطبة، ويردّهم إلى الأصل الذي انبثقوا منه، ليقرِّر أنَّ هذه البشرية جنسها واحد، ونَسَبها يتصل في رحم واحد، ومن اجتمعت فيهم هذه الأصول، فلا مجال لأن يدَّعي أحدهم العلو بالفروق الطارئة على الإنسانية، فربهم واحد، وأبوهم واحد، وهم متساوون في جميع الحقوق.

2 . قال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} (سبأ: 28).

إنَّ الله تعالى أرسل نبيه (ص) للناس جميعاً، ولم يختص به فئة دون فئة، أو أمة دون أخرى، وكذلك أرسله رحمة للعالمين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلعَالَمِينَ}.

وهذا ما أكَّده الرسول محمد (ص) في حجة الوداع ، وكان خطابه لكل الناس ، حيث قال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ: أَلا إِنَّ رَبَّكُم وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُم وَاحِدٌ، أَلا لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍ عَلَى أَعْجَمِي، وَلا لعْجَمِي عَلَى عَرَبِي، وَلا لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلا لأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلا بِالتَّقْوَى" (مجمع الزوائد: ج 3 ص 266 و272؛ البيان والتبيين: ج 2 ص 33؛ العقد الفريد: ج 3 ص 408؛ الغدير: ج 6 ص 187-188).

وقد كان لهذا المفهوم أثره في فتاوى الفقهاء، ومنها :

الأولى: يحق للمسلم أن يتخذ معارف وأصدقاء من غير المسلمين، يخلص لهم ويخلصون له، ويستعين بهم ويستعينون به على قضاء حوائج هذه الدنيا.

الثانية: يجوز تهنئة الكتابيين من يهود ومسيحيين وغيرهم، وكذلك غير الكتابيين من الكفار، بالمناسبات التي يحتفلون بها أمثال: عيد رأس السنة الميلادية، وعيد ميلاد السيد المسيح (ع)، وعيد الفصح.

الثالثة: يحرم على المسلم خيانة من يأتمنه على مال أو عمل، حتى لو كان كافراً، ويجب على المسلم المحافظة على الأمانة وأدائها كاملة.

الرابعة: لا تجوز السرقة من أموال غير المسلمين الخاصة والعامة ولا يجوز إتلافها، حتى وإن كانت تلك السرقة وذلك الإتلاف لا يسيء الى سمعة الإسلام والمسلمين فرضاً، ولكنها عدّت غدراً ونقضاً للأمان الضمني المعطى لهم حين طلب رخصة الدخول الى بلادهم، أو طلب رخصة الإقامة فيها، وذلك لحرمة الغدر، ونقض الأمان، بالنسبة الى كل أحد، مهما كان دينه وجنسه ومعتقده.

الخامسة: يجوز التصدق على الكفار الفقراء -كتابيين كانوا أو غير كتابيين- بشرط أن لا ينصبوا العداوة للحق وأهله، ويثاب المتصدِّق على فعله ذلك.

من خلال ذلك نفهم أنَّ علينا أن نحترم كلَّ حقوق هؤلاء وأملاكهم، ولا يجوز للإنسان أن يعتدي على مال شخص غير مسلم بحجة أنَّ هذا الإنسان كافر وأنّ أموال الكفار مباحة لنا، كما في بعض الفتاوى التي يستخدمها من يذهبون إلى الغرب أو إلى الشرق بحجة أنَّ هؤلاء كفار، فما داموا مسالمين لا يجوز لنا أن نعتدي على أموالهم أو نعتدي على أعراضهم.

وقد أكدت على ذلك التوصيات الإسلامية، حيث جاء الخطاب فيها عاماً شاملاً لكل إنسان، ولم تخصص ذلك لفئة على حساب فئة أخرى:

1.   يقول الرسول الأكرم (ص) في خطبة آخر جمعة من شعبان: "وتحنّنوا على أيتام الناس يُتحنّن على أيتامكم".
2.   ويقول (ص): "من مشى بصدقة إلى محتاج كان له كأجر صاحبها من غير أن ينقص من أجره شيئاً"..

وهذه كلها تقوم على مفهوم العطاء في الإسلام والذي تجلى في أروع صورة في قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} .. فمع أنَّ الأسير كان محارباً للمسلمين وأسر في أرض المعركة، ولم يكن مسلماً، فإننا نلاحظ أن أهل البيت (ع) قدموا له طعامهم وهم في حالة جوع وحاجة .

وعن الّذين يقومون بفعل الخيرات، وفي سياقٍ متَّصل، يقول المرجع السيّد محمد حسين فضل الله: "{أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ في الْخَيْرَاتِ}، لأنهم ارتكزوا في حياتهم على القاعدة الصَّلبة الّتي ينطلق منها كلّ خير، وهي الإيمان بالله وبتوحيده، والخوف منه، والمحبّة له، والوجل من المصير يوم الحساب، ولذلك فإنهم ينتهزون كلّ فرصةٍ لعمل الخير، لئلا تفوتهم، فتفوتهم سعادة الطّاعة ونتائجها السَّعيدة، فيسارعون فيها {.. وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}، لأنَّ من يسارع إلى الهدف الّذي يحبّه، لا بدَّ من أن يسبق النّاس إليه.. وتلك هي الجنّة التي يتنافس فيها المتنافسون، وينطلق إليها المتسابقون، {وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}، فلكلٍّ طاقته على عمل الخير، وعليه القيام بما يستطيعه منه، فلن يطلب الله منه أكثر من ذلك، لأنَّ الله لا يكلّف عباده بما لا يطيقون، لأنّه ظلم لا يصدر عنه -سبحانه- وسيجزيه الله جزاء ذلك، {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ} يسجّل لعامل الخير كلّ دقائقه وخفاياه، {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} شيئاً من ذلك، بل يأخذونه وافياً كاملاً غير منقوص ". تفسير من وحي القرآن، ج 16، ص 167.

وفي السّياق نفسه، يقول سماحته: "لا  بدَّ من أن نربّي أنفسنا على أن نكون كالشَّمس، كما يقول السيّد المسيح (ع)، تطلع على البرّ والفاجر، وكالينبوع، يتدفّق لأنّه لا يعرف إلا أن يعطي الماء لمن يريد أن يشرب، من دون النّظر في هويّة الشّارب".

وهذا عيناً هي عطاء رسول الله (ص)، فقد يتخيل البعض أنّ عطاء النبي كان فقط لذوي القربي والمحبين والمناصرين، لكن عطاء النبي ونبله امتد ليشمل حتى أعداءه ؛ فقد وصفته أم المؤمنين خديجة: "إنك لتصل الرحم وتحمل الكل، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

محرم 1447 في الصحافة الكويتية