الأحد، 22 أكتوبر 2023


..ما افتقر بيت فيه خل ؟!..

سماحة الشيخ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ما علاقة الخل وعدم الفقر فقد قرأت رواية في كتاب مكارم الأخلاق عن النبي (ص) تقول: (نعم الادام الخل ما افتقر بيت فيه خل) في حين اننا نلاحظ أن أكثر من يستخدم الخل هم الفقراء، ولا يخلو بيت فقير من الخل كما هو معلوم في بلادنا؟

الجواب:

هذا الحديث جاء في مكارم الأخلاق للطبرسي (توفي 548هـ): قالَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وآله-: >نِعمَ الإدامُ الخَلُّ؛ ما افتَقَرَ بَيتٌ فيهِ الخَلُّ< (مكارم الأخلاق: ص 142).

وبمراجعة الحديث في المصادر الأولية لا نجد (ما افتَقَرَ) بل (ما أَقفَرَ)، وربما كانت الجملة الأولى تصحيفاً عن الثانية، حيث وردت في أمهات الكتب الحديثية الأولى، وهي كالتالي:

جاء في الكافي للكليني (توفي 329هـ): الحُسَينُ بنُ مُحَمَّدٍ، عَن مُعَلّى بنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الحَسَنِ بنِ عَليٍّ الوَشّاءِ، عَن عَبدِ اللهِ بنِ سِنانٍ، عَن أَبي عَبدِ اللهِ -عليه السلام- قالَ: دَخَلَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وآله- إِلى أُمِّ سَلَمَةَ -رَضيَ اللهُ عَنها-، فَقَرَّبَت إِلَيهِ كِسَراً، فَقالَ: هَل عِندَكِ إِدامٌ؟ فَقالَت: لا يا رَسولَ اللهِ، ما عِندي إِلّا خَلٌّ، فَقالَ -عليه السلام-: >نِعمَ الإِدامُ الخَلُّ، ما أَقفَرَ بَيتٌ فيهِ الخَلُّ< (الكافي: ج 6 ص 329 ح 1، المحاسن: ج 2 ص 486 ح 541).

وفي كتاب المحاسن للبرقي (توفي 274هـ): عَنهُ، عَن أَبيهِ عَن ابنِ أَبي عُمَيرٍ، عَن هِشامِ بنِ سالِمٍ، عَن أَبي عَبدِ اللهِ -عليه السلام- قالَ: "ما أَقفَرَ بَيتٌ فيهِ الخَلُّ وَالزَّيتُ" (المحاسن: ج 2 ص 483 ح 524، وسائل الشيعة: ج 25 ص 88 ح 31270).

وجاء في المحاسن أَيضاً: عَنهُ، عَن أَبيهِ، عَن مُحَمَّدِ بنِ أَبي عُمَيرٍ، عَن هِشامِ بنِ سالِمٍ، عَن أَبي عَبدِ اللهِ -عليه السلام- قالَ: "ما أَقفَرَ بَيتٌ فيهِ خَلٌّ".. وَبِإِسنادِهِ قالَ: "ما أَقفَرَ مِن إِدامٍ بَيتٌ فيهِ الخَلُّ" (المحاسن: ج 2 ص 486 ح 546).

وجاء في كتاب من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (توفي 381هـ): وقال رسول الله -صلى الله عليه وآله-: "نِعمَ الإِدامُ الخَلُّ، ما أَقفَرَ بَيتٌ فيهِ خَلٌّ" (من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص 358 حديث 4267).

ويؤيد ذلك -أيضاً- ما روي عن أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنها- قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلهِ- فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ فَقُلْتُ: لَا، إِلَّا كِسَرٌ يَابِسَةٌ وَخَلٌّ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلهِ-: "قَرِّبِيهِ، فَمَا أَقْفَرَ بَيْتٌ مِنْ أُدْمٍ فِيهِ خَلٌّ" (سنن الترمذي: حديث 1841). وقال: (هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه... وسألت محمداً -يعني الإمام البخاري- عن هذا الحديث قال: لا أعرف للشعبي سماعاً من أم هانئ). وحسنَّه الألباني في (صحيح الترمذي)، وفي (سلسلة الأحاديث الصحيحة: رقم 2220).

ومعنى (الإقفار) هو الخلوّ كما ذكر اللغويون..

قال ابن فارس: "القاف والفاء والراء أصل يدلّ على خلوّ من خير، من ذلك القفر: الأرض الخالية، ومنه القفار: الطعام ولا أدم معه. وفي الحديث: "ما أقفر بيت فيه خلّ"... (مقاييس اللغة: مادة: قفر).

قال أبو عبيد : "هو مأخوذ من القفار، وهو كل طعام يؤكل بلا أدم يقال: أكلت اليوم طعاماً قفاراً إذا أكله غير مأدوم، ولا أرى أصله مأخوذاً إلا من القفر من البلاد، وهي التي لا شيء فيها" (غريب الحديث، أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي: ج 2 ص 154).

وقال الخليل: "القفار: الطعام الذي لا أدم فيه ولا دسم. وفي الحديث: >ما أقفر قوم عندهم خلّ< أيلا يعدمون" (ترتيب كتاب العين: ص 679 >قفر<).

وفي لسان العرب: "أَقفَر الرجل: أكل طعامه بلا أُدم. وأقفَر الرجل إِذا لم يبقَ عنده أُدمٌ" (لسان العرب: ج 5 ص 110 >قفر<).

فالمراد من قوله: "ما أَقفَرَ بَيتٌ فيهِ الخَلُّ" هو أنّ الخلّ إدام جيّد، فالبيت الذي فيه خلّ لا يعدّ خالياً من الإدام، وإنّما هو ذا إدام؛ قال أبو عبيد: "إنما سماه إداماً لأنه يصطبغ به وكل شيء يصطبغ به لزمه اسم الإدام يعني مثل الخل والزيت والمزي واللبن وما أشبهه، قال: فإن حلف حالف أن لا يأكل إداما فأكل بعض ما يصطبغ به فهو حانث" (غريب الحديث، أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي: ج 2 ص 154).

وقد بحثنا في كتب الحديث والروايات، فلم نقف على حديث يبين لنا نوع الخل الذي أكله النبي -صلى الله عليه وآله-، إلا أنَّ أغلب الظن أنَّ الخل المشتهر في ذلك الزمن هو خل العنب أو التمر، وذلك للأدلة الآتية:

1 أنَّ العنب والتمر هو الثمر الأشهر في ذلك العهد، بل كان يعد هو القوت من الثمار لكثرته وكثرة استعماله شراباً وزبيباً وخلاً وفاكهة..

2 - أنَّ التفاح لم يكن متواجداً بكثرة، ولم يكن في الغالب يزرع في المدينة النبوية وما حولها.

3 - ما ذكره العلماء السابقون في طريقة صنع الخل، وفي تعريفه في اللغة وعند العرب، وما ذكره الفقهاء أيضاً في كتبهم، كله يدل على شهرة: خل العنب والتمر (أنظر: التمهيد لابن عبد البر: ج 1 ص 262؛ كتاب الجراثيم لابن قتيبة الدينوري (ت 276هـ): ج 2 ص 114؛ تهذيب اللغة للأزهري: ج 6 ص 301؛ المبسوط للسرخسي: ج 12 ص 180؛ المغرب في ترتيب المعرب: ص 153؛ القاموس المحيط: ص 994).

4- أنَّ كثيراً من الخل كان يُصنع من تحويل الخمر واستحالتها، والخمر أكثرها من العنب والتمر. فقد ذهب الفقهاء إلى حليّة الخلّ المستحيل عن الخمر، إذا انقلبت الخمر بنفسها، كما يكون الخلّ طاهراً بذلك (المقنعة للمفيد: ص 581؛ النهاية للطوسي: ص 592؛ الدروس الشرعية للشهيد الأول: ج 3 ص 18؛ جواهر الكلام للجواهري: ج 6 ص 284).. كما ذهب فقهاء الإمامية إلى عدم الفرق بين تخلُّل الخمر وتخليلها بالعلاج في حكم طهارة الخلّ وحليته (الانتصار للشريف المرتضى: ص 422؛ المختصر النافع للعلامة الحلي: ص 256؛ الدروس الشرعية: ج 3 ص 18). والحديث موكول إلى كتب الفقه. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

محرم 1447 في الصحافة الكويتية