
مدونة الشيخ حسين علي المصطفى
مدونة تعنى بمقالات الشيخ حسين المصطفى
السبت، 5 يوليو 2025
الأربعاء، 4 يونيو 2025
فلسفة أعمال مِنى وفلسفة الرمي
لما سميت مِنى بذلك ؟
قال الإمام
الرضا (ع): « والعلة التي من أجلها سميت مِنى مِنى،
أنّ جبرئيل (ع) قال هناك لإبراهيم (ع): تَمنَّ على ربك ما شئت. فتمنى إبراهيم في
نفسه أن يجعل الله مكان ابنه إسماعيل كبشاً يأمره بذبحه فداءً له، فأُعطي مناه »
(عيون أخبار الرضا: ج 2
ص 91).
ولذلك يقول
الإمام الصادق (ع): « إذا أخذ الناس منازلهم بمنى
نادى منادٍ: لو تعلمون بفناء من حللتم لأيقنتم بالخلف بعد المغفرة » (الكافي: ج 4 ص 256 ح 22).
ويتذكر الحاج في مِنى موقفين لخليل الله إبراهيم
(ع):
أحدهما: موقفه مع ولده
العزيز إسماعيل حيث أراد أن يقيم فيه حكم السماء كما شاهده في رؤياه الصادقة بشأن
ذبح ابنه، وكان موقفاً عصيباً وامتحاناً كبيراً لهما. وقد نجحا (عليهما السلام) في
هذا الامتحان الإلهي، فافتدى الله عز وجل إسماعيل بفداء عظيم.
وثانيهما: موقفه مع
الشيطان الذي أراد أن يقتحم عالمه من جهة زوجته هاجر وابنه إسماعيل، فدحره إبراهيم
(ع) بالحصيات السبع التي أصبحت رمزاً عبادياً في الحج الإبراهيمي لرفض الباطل
والشيطان.
يقول الإمام
الصادق (ع): « الحج الأكبر الوقوف بعرفة ورمي الجمار
» (وسائل
الشيعة: ج 14 ص 263 أبواب العود إلى مِنى ب 4 ح 1).
كان امتحانه
(ع) من أكبر الامتحانات على طول التاريخ، إذ كان الهدف منه إخلاء قلبه عن أيّ حبّ
عدا حبّ الله عزّ وجلّ، وتكون جائزة هذا النجاح ذلك اللطف الإلهي ﴿ وَعَهِدْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وإسْمَاعِيلَ أنْ طَهِّرَا
بَيْتِيَ لِلطائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكعِ السُّجُودِ ﴾ (البقرة: 125).
ولقد أعاد
حفيده محمّد (ص) ذكرى نداء التوحيد، وعبّر ومن معه عن إبراهيميّتهم الحنيفية بشكل
ملموس ومحسوس.
يقول الإمام
الحسين (ع): «إنـّه ليس أحد على ملة إبراهيم في هذه
الأمة غيرنا وغير شيعتنا، ومَن سواهم منها براء» (البحار: ج 44 ص 186).
ويقول الإمام الصادق (ع): «إذا أخذ الناس مواطنهم بمنى نادى منادٍ من قبل الله عز وجل: إن أردتم أن أرضى فقد رضيت» (الكافي: ج 4 ص 262 ح 43).
فلسفة رمي الجمار
1
ـ إنّ
زوّار بيت التوحيد يرجمون تلك الأعمدة المنصوبة بالأحجار وبهذا يبدون موقفهم من كل
شرّير وكرههم له، وكره الشر أمر معنوي وقلبي، فمن هنا يرجمون الشيطان الباطني
المتمثّل في النفوس الثلاثة: النفس الأمّارة، والنفس المسوِّلة، والنفس اللوامة،
وهو انعكاس للشيطان الظاهري العامل الأساس في ارتكاب المعاصي والرذائل.
ولهذا يستحب
للرامي عند كل رمية أن يقول: « الله أكبر، اللهم ادحر عنِّي الشيطان... ».
2
ـ إنّ
رمي الجمار هو تجسيد معنى الاستعداد والتأهب نحو مواجهة العدو الحقيقي للإنسان،
مما يصعّد روح المقاومة والجهاد في نفوس المسلمين لمواجهة أرباب الفساد في العالم
الذين هم رموز الشيطان.
3
ـ إنّ
الحاج في مِنى يكرّر الرمي ثلاث مرات، وهذا تمثيل صادق لجهاد الخليل إبراهيم (ع)
ضدّ وساوس الشيطان الذي ظهر له ثلاث مرات في طريقه إلى الله، وهو مصمّم على أن
يثني إبراهيم عن عزمه في ساحة الجهاد الأكبر، وكلّما ظهر له رماه بالحجر، مما يجعل
محتوى هذه الشعيرة يتوضح ويتجلى.
فإنّكم معشر
المؤمنين طوال فترة عمركم تعيشون في ساحة الجهاد ضدّ وساوس الشيطان، وإن لم ترموا
هذا الشيطان وتبعدوه عنكم المرة تلو الأخرى فلن تنتصروا أبداً، ولا يزال الشيطان
يتربص بكم ما لم تكرّروا رجمه باطناً وظاهراً.
يقول الإمام
الباقر (ع): «إنّ رجلاً أتى رسول الله (ص) فقال: يا
رسول الله إنني نافقت.
فقال:
والله ما نافقت، ولو نافقت ما أتيتني تعلمني ما الذي رابك؟ أظن العدو الحاضر أتاك
فقال لك: من خلقك؟ فقلت: الله خلقني، فقال لك: من خلق الله.
قال:
إي والذي بعثك بالحق لكان كذا.
فقال:
إنّ الشيطان أتاكم من قبل الأعمال فلم يقوَ عليكم، فأتاكم من هذا الوجه لكي
يستزلكم، فإذا كان كذلك فليذكر أحدكم الله وحده» (الكافي: ج 2 ص 419 ب 187 ح 5).
4
ـ إنّ
الرمي في مِنى وما يحتويه من رفع شعار الرفض والصمود أمام مزالق ودروب الشياطين
يجعل لمنى مكاناً خاصاً للبراءة من الطاغوت.
ولقد جمع
الإمام الحسين (ع) بني هاشم ورجالهم ونساءهم ومواليهم وشيعتهم مَن حجّ منهم ومن لم
يحج، ولم يدع أحداً من أصحاب رسول الله (ص) ومن أبنائهم والتابعين، ومن الأنصار
المعروفين بالصلاح والنسك إلا جمعهم.
فاجتمع عليه
بمنى أكثر من ألف رجل، فقام الحسين C فيهم
خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
«
أمّا بعد: فإنّ الطاغية قد صنع بنا وبشيعتنا ما قد علمتم ورأيتم وشهدتم وبلغكم،
وإنّي أريد أن أسألكم عن أشياء فإن صدقت فصدقوني، وإن كذبت فكذبوني، اسمعوا مقالتي
واكتموا قولي، ثم أرجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم ومَن أمنتموه ووثقتم به فادعوهم إلى
ما تعلمون، فإنّي أخاف أن يندرس هذا الحق ويذهب، والله متمّ نوره ولو كره
الكافرون...» (الاحتجاج: ج 2 ص 19).
الثلاثاء، 3 يونيو 2025
التراث القرآني
عند الإمام محمد الباقر عليه السلام
فضل قراءة القرآن
حث
الإمام الباقر (عليه السلام) المؤمنين على تلاوة كتاب الله العزيز؛ لأنه المنبع
الأصيل والدستور الدائم لهداية الناس واستقامتهم في حياتهم الفردية والاجتماعية.
فالقرآن
يحيي القلوب بنوره، ويمد قارئه بطاقات من الوعي ونشاط البصيرة إلى حد بعيد. وقد
وردت أحاديث كثيرة في فضل قراءة القرآن. كتاب الله الذي وصفه رسول الله (صلّى الله
عليه وآله) فقال: >فإن هذا القرآن حبل الله المتين،
فيه إقامة العدل، وينابيع العلم، وربيع القلوب< (المجازات
النبوية للسيد الشريف الرضي: ص 222 ح 180).
وهذا
الحبل المتين له طرفان: الله وآل البيت، كما يقول (صلّى الله عليه وآله): >طَرَفٌ مِنْهُ بِيَدِ اللهِ، وَطَرَفٌ مِنْهُ بِأيْدِيكُمْ؛
إنّ اللّطِيفَ الْخَبِيرَ قَدْ نَبّأنِي أنّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتّى يَرِدَا عَلَيّ
الْحَوْضَ، كَإصْبَعَيّ هَاتَيْنِ -وَجَمَعَ بَيْنَ سَبّابَتَيْهِ- وَلَا أقُولُ كَهَاتَيْنِ
-وَجَمَعَ بَيْنَ سَبّابَتِهِ وَالْوُسْطَى- فَتَفْضُلَ هَذِهِ عَلَى هَذِهِ<
(تفسير القمّي: ص 4-5؛ بحار الأنوار:، ج 92 ص 102-103).
وبذلك يصبح القرآن عصمة للمعتصمين، ونوراً للمستضيئين.
والقرآن
ينابيع العلم: لأنه يبين للناس أبواب العلم وطرقه، ويفتقه من أكمته (الأكمة غطاء النور
الذي يخرجه النبات) وقد شبهه بينابيع الماء المتفجرة،
وعيونه المستنبطة ولأنَّ العلم يحيي الغليل بعد الشك المحير، كما يبرد الماء الغلة
بعد العطش المبرِّح.
والقرآن
ربيع القلوب: فالقلوب الواعية هي بمنزلة الربيع للإبل الراعية لأن القلوب تنتفع
بتدبر القرآن وتأمله، كما تنتفع الإبل بتحمض الربيع وتنقله (الحمض: ما ملح ومر من
النبات وهو كفاكهة للإبل).
فهذا
غذاء للأرواح وذلك غذاء للأجسام. لذلك كله دعا الإمام (عليه السلام) إلى تلاوة
القرآن فروى (عليه السلام) ما قاله جده رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في فضل
تلاوته.
عَنْ
سَعْدِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): مَنْ
قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ فِي لَيْلَةٍ، لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ؛ وَمَنْ قَرَأَ
خَمْسِينَ آيَةً، كُتِبَ مِنَ الذَّاكِرِينَ؛ وَمَنْ قَرَأَ مِائَةَ آيَةٍ، كُتِبَ
مِنَ الْقَانِتِينَ؛ وَمَنْ قَرَأَ مِائَتَيْ آيَةٍ، كُتِبَ مِنَ الْخَاشِعِينَ؛ وَمَنْ
قَرَأَ ثَلَاثَمِائَةِ آيَةٍ، كُتِبَ مِنَ الْفَائِزِينَ؛ وَمَنْ قَرَأَ خَمْسَمِائَةِ
آيَةٍ، كُتِبَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ؛ وَمَنْ قَرَأَ أَلْفَ آيَةٍ، كُتِبَ لَهُ قِنْطَارٌ
مِنْ بِرٍّ< (الكافي: ج 4 ص 623 ح 3516؛ ثواب الأعمال: ص 129 ح 1؛
معاني الأخبار: ص 147 ح 2؛ أمالي الصدوق: ص 59 المجلس 14 ح 7).
كما
وردت أحاديث مماثلة لهذا الحديث عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وكلها تحث
المسلمين على تلاوة كتاب الله وتحفزهم على الإمعان في آياته والتأمل في أسراره،
ولا ريب أنها كلها تصب في تنمية العقول وتهذيب النفوس وإبعادها عن الانحراف عن
الخط الإسلامي، وهدايتها إلى سواء السبيل.
ترتيل القرآن الكريم
إن
تلاوة القرآن وترتيله بصوت حسن يتفاعل مع عواطف الإنسان وينفذ إلى أعماق القلوب،
وذلك لما اشتمل عليه من الحكم الخالدة والمعارف العامة التي يحتاجها كل إنسان في
حياته الفردية والاجتماعية على حد سواء.
وقد
اعتنى أهل البيت بتلاوة القرآن الكريم وشجعوا على ذلك فكان الإمام الباقر من أحسن
الناس صوتاً بقراءته للقرآن. روى أبو بصير قال:
قُلْتُ
لِأَبِي جَعْفَرٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: إِذَا قَرَأْتُ الْقُرْآنَ فَرَفَعْتُ بِهِ
صَوْتِي، جَاءَنِي الشَّيْطَانُ، فَقَالَ: >إِنَّمَا
تُرَائِي بِهذَا أَهْلَكَ وَالنَّاسَ؟ قَالَ: >يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، اقْرَأْ قِرَاءَةً
مَا بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ: تُسْمِعُ أَهْلَكَ، وَرَجِّعْ بِالْقُرْآنِ
صَوْتَكَ؛ فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُحِبُّ الصَّوْتَ الْحَسَنَ يُرَجَّعُ فِيهِ
تَرْجِيعاً< (الكافي: ج 4 ص 634 ح 3536).
أقول:
إنَّ هذه الرواية ومماثلها لا يدل على جواز الغناء بالقرآن الكريم. لوضوح أنَّ الصوت
الحسن أعم من الغناء، ولا يراد به ذلك. وحتى الترجيع المصرح به في الرواية لا يراد
به حد الغناء، وإنما يراد به المد المناسب لقراءة القرآن، فقد تقتضي المد الطويل كما
في: آلاء وأولئك ونحوها. فيجوز أن يكون ذلك بتقطيع النفس، الذي هو معنى الترجيع كما
يجوز أن يكون باستمراره. ولا إشكال فيه.
المحرفون للقرآن الكريم
لقد
ذم الإمام الباقر المحرفين لكتاب الله، وهم الذين يؤولون آياته حسب أهوائهم. فقد
كتب (عليه السلام) في رسالته إلى سعد الخير: >وَكَانَ
مِنْ نَبْذِهِمُ الْكِتَابَ أَنْ أَقَامُوا حُرُوفَهُ وَحَرَّفُوا حُدُودَهُ، فَهُمْ
يَرْوُونَهُ وَلَا يَرْعَوْنَهُ، وَالْجُهَّالُ يُعْجِبُهُمْ حِفْظُهُمْ لِلرِّوَايَةِ،
وَالْعُلَمَاءُ يَحْزُنُهُمْ تَرْكُهُمْ لِلرِّعَايَةِ< (الكافي: ج 15 ص 141 ح
14831).. وهذه الرواية تدل على أن التحريف في القرآن معنوي
لا لفظي (آراء حول القرآن، السيد علي الفاني: ص 105).
بمعنى: إنَّ الكتاب العزيز لم ينله تحريف فينصّه >أقاموا حروفه< وإن كانوا قد
غيّروا من أحكامه >حرّفوا حدوده<. والمراد من >تحريف الحدود< هو تضييعها،
كما ورد في الحديث: >وَرَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ، فَحَفِظَ
حُرُوفَهُ، وَضَيَّعَ حُدُودَهُ...< (الكافي: ج 4 ص 658 ح
3569؛ أمالي الصدوق: ص 202 المجلس 36 ح 15؛ الخصال: ص 142 باب الثلاثة ح 164).
ومن
ذلك التحريف استعمالهم المجاز في غير ما هو له:
لقد
شاع المجاز في لغة العرب كالاستعارات والكنايات والمجازات وكلها تعتبر من لطائف
هذه اللغة ومحاسنها. وفي القرآن الكريم طائفة كبيرة من الآيات الكريمة كان
الاستعمال فيها مجازياً.
منها
قوله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ
لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} (ص: 75).
فالمنصرف
من اليد هو العضو المخصوص ويستحيل ذلك عليه سبحانه وتعالى. فسأل محمد بن مسلم
الإمام الباقر (عليه السلام) عن ذلك فأجابه: >الْيَدُ
فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْقُوَّةُ وَالنِّعْمَةُ؛ قَالَ: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ}، وَقَالَ: {وَالسَّماءَ
بَنَيْناها بِأَيْدٍ} أَيْ بِقُوَّةٍ، وَقَالَ:
{وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} أَيْ: قَوَّاهُمْ، وَيُقَالُ لِفُلَانٍ: عِنْدِي أَيَادٍ كَثِيرَةٌ،
أَيْ فَوَاضِلُ وَإِحْسَانٌ، وَلَهُ عِنْدِي يَدٌ بَيْضَاءُ أَيْ نِعْمَةٌ<
(التوحيد للصدوق: ص 153؛ معاني الأخبار: ص 16).
فاليد
-هنا- كما نرى استعملت في غير معناها المنصرف فجاء مجازاً، وقد تأتي حقيقة على
أنها مشتركة اشتراكاً لفظياً في هذه المعاني الذي ذكرها الإمام (المجادلة: 22).
البسملة هي جزء من سور القرآن الكريم
ذهب
أهل البيت ومعهم الإمام الباقر (عليه السلام) إلى أنَّ البسملة جزء من سور القرآن
الكريم، وتبعهم جمهور غفير من علماء المسلمين وقراؤهم (أنظر:
تفسير الألوسي: ج 1 ص 39؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1 ص 7).
كتب
يحيى بن أبي عمران رسالة إلى الإمام الباقر (عليه السلام) يقول فيها: كَتَبْتُ إِلى
أَبِي جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ ابْتَدَأَ
بِـ>بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ< فِي صَلَاتِهِ وَحْدَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ،
فَلَمَّا صَارَ إِلى غَيْرِ أُمِّ الْكِتَابِ مِنَ السُّورَةِ، تَرَكَهَا..؟
فَكَتَبَ
بِخَطِّهِ: >يُعِيدُهَا< مَرَّتَيْنِ (الكافي: ج 6 ص 147 ح
4980؛ التهذيب: ج 2 ص 69 ح 252؛ الاستبصار: ج 1 ص 311 ح 1156).
تفسير
القرآن الكريم:
سلك
المفسرون للقرآن الكريم عدة اتجاهات وطرقاً مختلفة منها: التفسير بالمأثور،
والتفسير بالرأي.
أ - التفسير بالمأثور:
وعني
هذه الطريقة بما أثر عن النبي (صلّى الله عليه وآله) وأئمة الهدى، وهذا ما سلكه
أغلب مفسري الشيعة كتفسير: القمي والعسكري، والبرهان وغيرها. وحجتهم في ذلك أن أهل
البيت (عليهم السلام) هم المختصون بعلم القرآن على حقيقته وواقعه، وليس لغيرهم في
ذلك نصيب كبير أو صغير.
فالأوصياء
بلا شك هم الذين عندهم علم الكتاب، ظاهره وباطنه. وقد تضافرت الأدلة بوجوب الرجوع
إليهم في تفسير القرآن.
يقول
الشيخ الطوسي: >واعلم أنَّ الرواية ظاهرة في أخبار أصحابنا بأنَّ تفسير القرآن لا
يجوز إلا بالأثر الصحيح عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وعن الأئمة (عليهم السلام)،
الذين قولهم حجة كقول النبي (صلى الله عليه وآله)، وإنَّ القول فيه بالرأي لا يجوز<
(التبيان في تفسير القرآن: ج 1 ص 4).
ب - التفسير بالرأي:
وهو
التفسير بحسب الهوى الشخصي.. ولذا جاءت الروايات لتقول إنَّ القول بالرأي -خصوصاً
في تفسير القرآن الحكيم- مستنكر أشد ما يكون الاستنكار؛ ففي صحيحة الريان بن الصلت،
عن الرضا، عن آبائه G، عن أمير المؤمنين C، قال: >قَالَ رَسُولُ اللهِ 2:
قَالَ اللهُ جَلَّ جَلَالَهُ: مَا آمَنَ بِي مَنْ فَسَّرَ بِرَأَيِهِ كَلَامِي، وَمَا
عَرِفَنِي مَنْ شَبَّهَنِي بِخَلْقِي، وَمَا عَلَى دِيِني مَنْ اسْتَعْمَلَ الْقِيَاسَ
فِي دِيِني< (أمالي الصدوق: ص 6
المجلس الثاني).
وأكثر
ما يقوّم هذا النوع من التفسير بالاعتبارات العقلية الظنية الراجعة إلى الاستحسان.. ولم يعنوا بما أثر عن النبي
(صلّى الله عليه وآله) ولا عن أوصياء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وإنما
استندوا إلى ما رأوه من الاستحسانات العقلية.
وقد
نهى عن ذلك الإمام الباقر (عليه السلام)، وقد دخل عليه الفقيه المعروف قتادة.
فقال
له الإمام (عليه السلام): >أَنْتَ فَقِيهُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ؟<.
قَالَ:
هكَذَا يَزْعُمُونَ.
فَقَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: >بَلَغَنِي أَنَّكَ
تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ؟<.
فَقَالَ
لَهُ قَتَادَةُ: نَعَمْ.
فَقَالَ
لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: >بِعِلْمٍ
تُفَسِّرُهُ أَمْ بِجَهْلٍ؟<.
قَالَ:
لَا، بِعِلْمٍ.
فَقَالَ
لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: >فَإِنْ
كُنْتَ تُفَسِّرُهُ بِعِلْمٍ، فَأَنْتَ أَنْتَ وَأَنَا أَسْأَلُكَ<.
قَالَ
قَتَادَةُ: سَلْ.
قَالَ:
>أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي
سَبَإٍ: {وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا
فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ}<.
فَقَالَ
قَتَادَةُ: ذلِكَ مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ بِزَادٍ حَلَالٍ، وَرَاحِلَةٍ وَكِرَاءٍ
حَلَالٍ يُرِيدُ هذَا الْبَيْتَ، كَانَ آمِناً حَتّى يَرْجِعَ إِلى أَهْلِهِ.
فَقَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: >نَشَدْتُكَ اللهَ
يَا قَتَادَةُ، هَلْ تَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ بِزَادٍ
حَلَالٍ وَرَاحِلَةٍ وَكِرَاءٍ حَلَالٍ يُرِيدُ هذَا الْبَيْتَ، فَيُقْطَعُ عَلَيْهِ
الطَّرِيقُ، فَتُذْهَبُ نَفَقَتُهُ، وَيُضْرَبُ مَعَ ذلِكَ ضَرْبَةً فِيهَا اجْتِيَاحُهُ<.
قَالَ
قَتَادَةُ: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
فَقَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: >وَيْحَكَ يَا
قَتَادَةُ، إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا فَسَّرْتَ الْقُرْآنَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكَ، فَقَدْ
هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ، وَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَهُ مِنَ الرِّجَالِ، فَقَدْ هَلَكْتَ
وَأَهْلَكْتَ.
وَيْحَكَ يَا قَتَادَةُ، ذلِكَ مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ بِزَادٍ وَرَاحِلَةٍ
وَكِرَاءٍ حَلَالٍ يَرُومُ هذَا الْبَيْتَ عَارِفاً بِحَقِّنَا، يَهْوَانَا قَلْبُهُ،
كَمَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}
وَلَمْ يَعْنِ الْبَيْتَ فَيَقُولَ: إِلَيْهِ، فَنَحْنُ وَاللهِ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّتِي مَنْ هَوَانَا قَلْبُهُ قُبِلَتْ حَجَّتُهُ، وَإِلَّا
فَلَا.
يَا قَتَادَةُ، فَإِذَا كَانَ كَذلِكَ، كَانَ آمِناً مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ<.
قَالَ
قَتَادَةُ: لَا جَرَمَ وَاللهِ لَا فَسَّرْتُهَا إِلَّا هكَذَا.
فَقَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: >وَيْحَكَ يَا
قَتَادَةُ، إِنَّمَا يَعْرِفُ الْقُرْآنَ مَنْ خُوطِبَ بِهِ< (الكافي: ج 15 ص 699
ح 15300).
فالإمام
الباقر قصر معرفة الكتاب العزيز على أهل البيت (عليهم السلام) فهم المؤهلون لمعرفة
المحكم من المتشابه، والناسخ من المنسوخ وليس عند غيرهم هذا العلم.
وقد
أثر عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: >لَيسَ شَيءٌ
أبعَدَ مِن عُقولِ الرِّجالِ مِن تَفسيرِ القُرآنِ؛ إنَّ الآيَةَ يَكونُ أوَّلُها في
شَيءٍ وآخِرُها في شَيءٍ ، وهُوَ كَلامٌ مُتَّصِلٌ مُتَصَرِّفٌ عَلى وُجوهٍ<
(المحاسن: ج 2 ص 7 ح 1076؛ تفسير العيّاشي: ج 1 ص 12 ح 8).
ج - تفسير الإمام الباقر عليه
السلام:
وهذا
التفسير نص عليه ابن النديم في (الفهرست) عند عرضه للكتب المؤلفة في تفسير القرآن
الكريم. فقال: >كتاب الباقر محمد بن علي بن الحسين رواه عنه أبو الجارود زياد
بن المنذر رئيس الجارودية< (الفهرست لابن النديم: ص 36).
وقال
السيد حسن الصدر: >رواه عنه جماعة من ثقات الشيعة منهم أبو بصير يحيى بن القاسم
الأسدي، وأخرجه علي بن إبراهيم القمي في تفسيره< (تأسيس الشيعة: ص 327).
هذا
هو الإمام الباقر عليه السلام الذي كان أسلوبه هو أسلوب القرآن وأسلوب النبي (ص)
وأسلوب الأئمة (ع)، الذي يهدف إلى تركيز المجتمع وبنائه على القاعدة الفكرية
الإسلامية بحيث لا ينحرف المجتمع عن الخط الإسلامي الأصيل في غلّو هنا أو عداوة
هناك، حتى في المسألة التي تتصل بأهل البيت (ع).
حيث رأى
أنّ فرصة تسلّمه للحكم لم تكن واقعية آنذاك، ولكنه كان يرى أنَّ مسؤوليته تقع في
خارج الحكم وتجلى بناء المجتمع على قاعدة ثابتة منفتحة واسعة توازي مسؤوليته عندما
يحكم.
وهكذا
كان الإمام علي (ع) فلم يتوقف عطاؤه عندما كان خارج الخلافة لأنه كان يشعر أنه
مسؤول عن الإسلام خارج الحكم كما هو مسؤول عنه في داخل الحكم لأنّ عليه أن يحفظ
الإسلام .. "فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله أن
أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم هذه التي إنما
هي متاع أيام قلائل يزول منها ما زال كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب فنهضت
حتى زاح الباطل وزهق واطمأن الدين وتنهنه".
الاثنين، 2 يونيو 2025
المنهج التفسيري عند العلامة الشيخ محمد جواد مغنية
الرياض -
ايكنا: أكد العلامة الشيخ حسين علي المصطفي، الأستاذ في الحوزة العلمية بالقطيف
وباحث قرآني سعودي أنّ المنهج التفسيري لدى العلامة الشيخ محمد جواد مغنيه يتسم
بالشفافية والوضوح بحيث ترتكز هذه الشفافية على عنصرين: التيسير، والتبسيط في
اللغة ..
وكان حوارنا
معه في يوم الجمعة 11 مارس 2011 .
السؤال (1):
سماحة الشيخ
أرجو أن تبين لنا أهم السمات التي تجلت في كتابات العلامة الشيخ محمد جواد مغنية ؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم ..
لقد كنت وأقراني -قبل أكثر من ثلاثين عاماً تقريباً- نلتهم بشوق
كل ما يصل إلينا من كتابات هذا العالم الجليل في شتى العلوم والثقافات، والتي
تعتبر لنا -في تلك الفترة- الهواء النقي التي نتنفسه. ويمكننا أن نسلط الضوء على
أبرز هذه السمات:
أولاً: السمة الغالبة في كتابات
العلامة الشيخ محمد جواد مغنية أنها تهدف مخاطبة الجيل الصاعد من شباب المسلمين، لا
مخاطبة المفكرين والباحثين إلا من جهات قليلة. ومن هنا نلاحظ أنّ لغته ابتعدت عن
مخاطبة طبقة النخبة من العلماء والمفكرين إلى حد معين.
ثانياً: يتسم دوره الإحيائي
والتنويري في عداد الرواد لحركة الإصلاح الديني في العالم الإسلامي في النصف
الثاني من القرن العشرين.
ثالثاً: تطرق الشيخ محمد جواد
مغنية في مؤلفاته إلى مختلف إشكاليات النهضة والإحياء والإصلاح بصورة عقلانية
جادّة.
وكان القرآن من أهم مشاغله في القسم الأخير من حياته، حيث قدّم
إسهامين جديدين:
أحدهما: تفسير الكاشف في مجلدات
سبعة.
وثانيهما: التفسير المبين في مجلد
واحد، هدف منه التبسيط والوصول إلى اكبر قدر من القرّاء.
السؤال (2):
ذكرتم في
حديثكم اهتمام الشيخ مغنية بالقرآن الكريم وتفسيره فما هي عناصر المنهج التفسيري
عند العلامة مغنية؟
الجواب:
لكل مفسر للقرآن أدوات تأسيسية نكتشف منها عناصر منهجه التفسيري،
وأما ما يميز العلامة الشيخ محمد جواد مغنية (رحمه الله) في هذا الصدد فيمكن أن
نجليه في ثلاثة عناصر:
الأول: (الواقع) في المنظومة
الفكرية العامة للشيخ مغنية كان حضوراً بارزاً، ولذا كثيراً ما برزت جدليته
الرائعة بين النص (كفقيه) والواقع. وهذا مفاد قول الإمام الصادق (ع): "الْعَالِمُ
بِزَمَانِهِ، لَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ اللَّوَابِسُ".
وهذه الواقعية نحو النص، كانت تغاير المسار العلمي العام في الحوزة
الدينية، والتي تجعل الفقيه على تماس مع النص فقط، وإذا ما أراد أن ينطلق نحو
الواقع فهو يُدخل نفسه فيما يسمّيه الموضوعات المستنبطة، وهي موضوعات وإن قرّبته
نسبياً من الواقع بيد أنّ المسحة المفهومية التي تحكم البحث فيها تخلق عازلاً بين
الفقيه والواقع.
ولكن إقحام الواقع في تجربة التفسير أمرٌ تشوبه من الجهة الأخرى
مخاطر، قد يفضي بالمفسّر لتطويع النص والتلاعب به كما حصل كثيراً، ومن هنا كان
الواقع في علاقته مع النص مساهماً لتثويره ومعيناً لاستنطاقه، أكثر من سلطة تلعب
به وتؤوّل مفاداته.
الثاني: (الشفافية والوضوح)، حيث
يرتكز خطابه على عنصر التيسير واللغة المبسّطة. وقد بلغ اليسر في اللغة التي
استخدمها مغنية حدّاً قلّ نظيره في أوساط الكتّاب الشيعة، حتى في كتبه العلمية
التخصصية. وهي ظاهرة لم تتكرر حتى وقتنا هذا.
ولكن رغم أنّ يسر اللغة أمرٌ مطلوب لتوجيه خطاب ديناميكي
للشباب، إلا أنّ تقديم لغة شديدة التبسيط على أنها لغة نهائية للعلوم، أمرٌ قد
يربك بعض العلوم ويفقدها قوّة المصطلح.
الثالث: (النقد وجرأة اللغة) وهذا
ما امتاز به أسلوب الشيخ محمد جواد مغنية؛ فلم يقتصر على نقد المدارس السائدة في
زمانه (الماركسية، والرأسمالية، ... وغيرها)، بل مارس نقداً لاذعاً للموروث الديني
التقليدي، ولمؤسسة علماء الدين أيضاً.
ويعتبر باكورة مؤلفاته كتاب >الوضع الحاضر في جبل عامل< -نشر
عام 1947م- نقداً واسعاً للوضع السياسي والاجتماعي لجبل عامل في ذلك الحين.
وفي تفسيره >الكاشف< مارس الشيخ -كعادته- نقداً صريحاً للأوضاع
القائمة في العالم الإسلامي، فكرياً، واجتماعياً، وسياسياً...
السؤال (3):
ألا ترون
أنّ الشفافية والوضوح -في بعض الأحيان- قد تهدم الكثير من المنتج الثقافي الرصين
للمفسر؟
الجواب:
لقد امتاز أسلوب الشيخ مغنية (رحمه الله) بشفافية غير معتادة،
فقد بلغ به ذلك حدّ الحديث بصراحة وصدق مع قارئه حتى عن خصوصياته النفسية وتجاربه
الشخصية كما هو الحال في كتابه >تجارب محمد جواد مغنية<.
وهي -كما قلتي- قد تعاب على المؤلف في بعض المؤلفات الأكاديمية
والتخصصية، وقد لاحظنا ذلك في تجربته في التفسير؛ ففي بعض الحالات جرى تبسيط بعض الأفكار
إلى حدّ مبالغ فيه، وتمّ استبعاد بعض الموضوعات الهامة كاللغة والنحو والصرف
والبلاغة تحت ستار أنها تعيق تكوين الخطاب العصري، وهذا ما جعل من >تفسير
الكاشف< أن يكون تفسيراً هادفاً دينياً بالنسبة للشباب، ولكننا لا نستطيع أن نقدمه
على أنه خطوة مكتملة للجهد التفسيري.
ولكنها في الوقت نفسه تساعد على هدم التباعد ما بين الأفكار
المنتجة وما بين إنتاجها عند الباحث نفسه، وهذا ما نجده عند الشيخ مغنية بارزاً في
تفسيره >الكاشف<؛ إذ يسير بقارئه رويداً رويداً، ويشرح له كيف تنامت عنده
فكرةٌ ما أو تفاعلت الأفكار مع بعضها، ويصارح قارئه بأفكار اختلجته أو مواقف
وأحداث أحاطت به.
السؤال (4):
ما هي الملاحظات
الجوهرية على منهج الشيخ محمد جواد مغنية التفسيري.
الجواب:
1 - تغلّب الطابع النقدي على
نتاجات مغنية، بما فيها تفسيره الكاشف، أكثر من الطابع التأسيسي، رغم اشتمال
أفكاره على الكثير من الإسهامات الفكرية والبنيوية الهامّة. ومع كون التفسير
مظهراً جيداً لمشروع إعادة الإنتاج الفكري، بيد أنّ الشيخ مغنية غلّب عليه الطابع
النقدي.
2 - جرى تبسيط بعض الأفكار إلى
حدّ مبالغ فيه، وتمّ استبعاد بعض الموضوعات الهامة كاللغة والنحو والصرف والبلاغة
تحت ستار أنها تعيق تكوين الخطاب العصري، وهذا ما جعل من >تفسير الكاشف< أن
يكون تفسيراً هادفاً دينياً بالنسبة للشباب، ولكننا لا نستطيع أن نقدمه على أنه خطوة
مكتملة للجهد التفسيري.
* الشيخ حسين المصطفی ولد سنة 1962 ميلادي في مدينة القطيف شرق العربية
السعودية ، وفي سنة 1982 ميلادي ذهب إلى
قم المقدسة لدراسة العلوم الحوزوية، وفي سنة 1987 ميلادي ذهب إلى النجف الأشرف ، وفي
سنة 1996 ميلادي ذهب لإكمال التحصيل العلمي في حوزة قم المقدسة ، درس فيها على
أيدي فقهاء الحوزة منهم: آية الله العظمى السيد كاظم الحائري ، وآية الله السيد
أحمد المددي، وآية الله العظمى الشيخ محمد رحمتي السيرجاني ، وآية الله العظمى السيد
محمود الهاشمي، وآية الله الشيخ هادي آل راضي النجفي، وآية الله الشيخ حسين نجاتي
. وبالنسبة إلى نشاطاته أسس في قم المقدسة مركز (دار المصطفى) للتراث وهي تعنى
بتحقيق التراث الشيعي في منطقة القطيف وخرج منها عديد من البحوث في هذا الجانب،
وشارك أيضاً في تحرير موسوعة كمبيوترية إسلاميه في مدينة قم المقدسة.
حالياً
هو مدرس السطوح العالية في الحوزة العلمية في القطيف ، وباحث على مستوى التأليف
والمحاضرات ، شارك في عديد من المنتديات والمؤتمرات داخل وخارج البلاد . له من
الكتب: كتاب "معجم معالم فقه المناسك" في 5 مجلدات، "الإعلام وبناء
الأسرة، رؤية
قرآنية" ، "أضواء على معالم المدينة المنورة وتاريخها" ، "فلسفة
العبادات"، "مناسك الحج"، "حاشية على أصول الفقه"، "أعلام
الشيعة في منطقة الحرمين" في 3 مجلدات، "ملامح المنهج التربوي في النهضة
الحسينية" ، و "أدبيات التعايش
بين المذاهب" .. وغيرها من الكتب المهمة. وما زال يواصل التدريس والتأليف في
بلدته القطيف.
فلسفة الوقوفين (عرفات ومزدلفة)
% فلسفة الوقوف بعرفة:
1 ـ بعد
أن وصل الحاج إلى البيت العتيق، ونال من العلم ما نال عن طريق المبايعة لله عزّ
وجلّ، حيث يجعله أهلاً لأن يسلك الطريق من العلم إلى المعرفة، فجمع في عرفة ـ
حينئذ ـ بين معرفته بالله من حيث هو محرم له عزّ وجلّ، ومعرفته بالله من حيث كونه
في الحِل (عرفة).
ومن هذا الموقع
يحرّكنا الإمام الحسين (ع) بوعي وتسامي في يوم عرفة قائلاً في مناجاته: « اللهم اجعلني أخشاك كأنّي أراك »، ولا يخاف أو
يخشى إلاّ من عرفه.
ثم يقول (ع): « كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك
من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك، متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك،
ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك عليها رقيباً... »
(دعاء عرفة للإمام
الحسين (ع)).
ووقوف الإنسان
في الحِل هو فرصة ثمينة للاعتراف لكي ينكشف له الحجاب فيلج إلى حرم الله الأمنع
فيكون طريقاً إلى بيته الأقدس.
يقول معاوية بن
عمّار: سألت أبا عبد الله (ع) عن عرفات لمَ سميت عرفات؟
فقال: « إنّ جبرائيل (ع) خرج بإبراهيم صلوات الله عليه يوم عرفة
فلمّا زالت الشمس قال له جبرائيل: يا إبراهيم اعترف بذنبك واعرف مناسكك، فسمّيت
عرفات لقول جبرائيل (ع): اعترف، فاعترف » (علل الشرائع: ص 436).
2
ـ في
عرفات يتفاعل وجدان الحجيج في نشيج ملائكي حيث ازدحام الناس وارتفاع الأصوات
بمختلف اللغات كصورة النشر والحشر، فترى المؤمنين في صور شتى ما بين متضرع وباك
وداع.
كل ذلك يذكرك
بموقف الوقوف بين يدي الله عز اسمه في عرصات القيامة. يقول الإمام السجاد (ع): « أما علمت أنـّه إذا كان عشية عرفة برز الله في ملائكته
إلى سماء الدنيا، ثم يقول: انظروا إلى عبادي، أتوني شعثاً غبراً، أرسلت إليهم
رسولاً من وراء وراء، فسألوني ودعوني، أشهدكم أنـّه حقّ عليّ أن أجيبهم اليوم، قد
شفّعت محسنهم في مسيئهم، وقد تقبلت من محسنهم، فأفيضوا مغفوراً لكم، ثم يأمر ملكين
فيقومان بالمأزمين هذا من هذا الجانب وهذا من هذا الجانب، فيقولان: اللهم سلّم
سلّم، فما تكاد ترى من صريع ولا كسير » (المحاسن: ص 65).
3 ـ
للوصول إلى حقائق المعرفة على الحاج أن يكون ظنّه بالله قوياً، وأنـّه سيبلغ
مراده، فهو يوم شريف وموقف عظيم، فهو « يوم شرّفته
وكرّمته وعظّمته، نشرت فيه رحمتك ومننت فيه بعفوك، وأجزلت فيه عطيتك، وتفضّلت به
على عبادك ».
ومن شرف هذا
اليوم ما روي عنهم (عليهم السلام): « إنّ من أعظم
الناس ذنباً مَن وقف بعرفات ثم ظن أنّ الله لم يغفر له » (وسائل الشيعة: ج 13 ص 547 أبواب
إحرام الحج والوقوف بعرفة ب 18 ح 2).
ويقول الإمام
الباقر (ع): « ما من برّ ولا فاجر يقف بجبال عرفات
فيدعو الله إلاّ استجاب الله له، أمّا البر ففي حوائج الدنيا والآخرة، وأمّا
الفاجر ففي أمر الدنيا » (قرب الإسناد: ص 166).
ولهذا ينبغي
للإنسان أن يتحرر من سجن النفس الجاهلة وأن يحذر من الشيطان ويتعوذ منه « فإنّ الشيطان لن يذهلك في موطن قط أحبّ إليه من أن يذهلك
في ذلك الموطن، وإياك أن تشتغل بالنظر إلى الناس وأقبل قبل نفسك، وليكن في ما
تقوله: اللهم إنّي عبدك فلا تجعلني من أخيب وفدك، وارحم مسيري إليك من الفج العميق
» (وسائل
الشيعة: ج 13 ص 538 أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة ب 14 ح 1).
فلا تذهل عن
طلب حقائق المعرفة الإلهية، واطلبها في هذا الموقف بالنظر إلى ذلك بين يَدَيْ ربك « إلهي هذا ذلي ظاهر بين يديك، وهذا حالي لا يخفى عليك، منك
أطلب الوصول إليك، وبك أستدل عليك، فاهدني بنورك إليك ...، واسلك بي مسلك أهل
الجذب ».
4
ـ يستحب
في هذا الموقف الدعاء للمؤمنين عملاً بمواقف أهل البيت (عليهم السلام):
يقول إبراهيم
بن هاشم: رأيت عبد الله بن جندب في الموقف فلم أرَ موقفاً كان أحسن من موقفه ما
زال ماداً يديه إلى السماء ودموعه تسيل على خديه حتى تبلغ الأرض فلّما صدر الناس
قلت له: يا أبا محمّد ما رأيت موقفاً قطّ أحسن من موقفك.
قال: والله ما
دعوت إلاّ لإخواني، وذلك أنّ أبا الحسن موسى (ع) أخبرني أنّ من دعا لأخيه بظهر
الغيب نودي من العرش: ولك مائة ألف ضعف مثله، فكرهت أن أدع مائة ألف مضمونةٍ لواحد
لا أدري يستجاب أم لا (الكافي: ج 4 ص 457 ب 165 ح 7).
ويقول محمّد بن
أبي عمير: كان عيسى بن أعين إذا حج فصار إلى الموقف أقبل على الدعاء لإخوانه حتى
يفيض الناس، فقلت له: تنفق مالك وتتعب بدنك حتى إذا صرت إلى الموضع الذي تبثّ فيه
الحوائج إلى الله عز وجل أقبلت على الدعاء لإخوانك وتركت نفسك؟
فقال: إنّي على
ثقة من دعوة الملك لي، وفي شك من الدعاء لنفسي (م.ن: ح 8).
فعلى الإنسان
الذي يقف في هذا اليوم أن يتأمل في ماضيه وحاضره ومستقبله من حيث علاقة هذه
المواقع الزمنية بحركة المسؤولية في علاقته بالله من حيث الهمّ الكبير للإنسان،
لأنّه هو الذي يمثل حقيقة المصير الحاسم في الدار الآخرة ﴿
يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ، ﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا ﴾
، مما يفرض على الإنسان أن يدخل في حساب مع النفس في أجواء الروح المنفتحة على
الله.
يقول زين
العابدين (ع) في دعاء عرفة: « اَللّهُمَّ هذا يَوْمُ
عَرَفَةَ، يَوْمٌ شَرَّفْتَهُ وَكَرَّمْتَهُ وَعَظَّمْتَهُ، نَشَرْتَ فيهِ
رَحْمَتَكَ، وَمَنَنْتَ فيهِ بِعَفْوِكَ، وَأَجْزَلْتَ فيهِ عَطِيَّتَكَ،
وَتَفَضَّلْتَ بِهِ عَلى عِبادِكَ.
اَللّهُمَّ
وَأَنَا عَبْدُكَ الَّذي أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ قَبْلَ خَلْقِكَ لَهُ، وَبَعْدَ
خَلْقِكَ إِيّاهُ، فَجَعَلْتَهُ مِمَّنْ هَدَيْتَهُ لِدينِكَ، وَوَفَّقْتَهُ
لِحَقِّكَ، وَعَصَمْتَهُ بِحَبْلِكَ، وَأَدْخَلْتَهُ في حِزْبِكَ، وَأَرْشَدْتَهُ
لِمُوالاةِ أَوْلِيائِكَ، وَمُعاداةِ أَعْدائِكَ. ثُمَّ أَمَرْتَهُ فَلَمْ
يَأْتَمِرْ، وَزَجَرْتَهُ فَلَمْ يَنْزَجِرْ، وَنَهَيْتَهُ عَنْ مَعْصِيَتِكَ
فَخالَفَ أَمْرَكَ إِلى نَهْيِكَ، لا مُعانَدَةً لَكَ، وَلاَ اسْتِكْباراً
عَلَيْكَ، بَلْ دَعاهُ هَواهُ إِلى ما زَيَّلْتَهُ وَإِلى ما حَذَّرْتَهُ،
وَأَعانَهُ عَلى ذلِكَ عَدُوُّكَ وَعَدُوُّهُ، فَأَقْدَمَ عَلَيْهِ عارِفاً
بِوَعيدِكَ، راجِياً لِعَفْوِكَ، واثِقاً بِتَجاوُزِكَ، وَكانَ أَحَقَّ عِبادِكَ
مَعَ ما مَنَنْتَ عَلَيْهِ أَلاّ يَفْعَلَ.
وَها
أَنَا ذا بَيْنَ يَدَيْكَ صاغِراً ذَليلاً، خاضِعاً خاشِعاً، خائِفاً مُعْتَرِفاً
بِعَظيم مِنَ الذُنُوبِ تَحَمَّلْتُهُ، وَجَليل مِنَ الْخَطايَا اجْتَرَمْتُهُ،
مُسْتَجيراً بِصَفْحِكَ، لائِذاً بِرَحْمَتِكَ، مُوقِناً أَنَّهُ لا يُجيرُني
مِنْكَ مُجيرٌ، وَلا يَمْنَعُني مِنْكَ مانِعٌ.
فَعُدْ
عَلَىَّ بِما تَعُودُ بِهِ عَلى مَنِ اقْتَرَفَ مِنْ تَغَمُّدِكَ، وَجُدْ عَلَىَّ
بِما تَجُودُ بِهِ عَلى مَنْ أَلْقى بِيَدِهِ إِلَيْكَ مِنْ عَفْوِكَ، وَامْنُنْ
عَلَىَّ بِما لا يَتَعاظَمُكَ أَنْ تَمُنَّ بِهِ عَلى مَنْ أَمَّلَكَ مِنْ
غُفْرانِكَ، وَاجْعَلْ لي في هذَا الْيَوْمِ نَصيباً أَنالُ بِهِ حَظّاً مِنْ
رِضْوانِكَ».
%
الوقوف بمزدلفة:
بعد أن وقف
الحاج في الحِل ( عرفة )، واستوفى الأدب مع خالقه عزّ وجلّ، وأفاض منها، أذن له في
الدخول مرة أخرى إلى حرمه ليتفيأ من ظلال المعرفة للوصول إلى الخطاب مع الله عند
بيته العتيق.
سئل الإمام الصادق
(ع): لم صُيّر الموقف بالمشعر ولم يصيّر بالحرم ؟
فقال (ع): « لأنّ الكعبة بيت الله والحرم حجابه، فلمّا أن قصده
الزائرون وقفهم بالباب حتى أذن لهم بالدخول، ثم وقفهم بالحجاب الثاني وهو مزدلفة،
فلما نظر إلى طول تضرعهم أمرهم بتقريب قربانهم، فلّما قربوا قربانهم وقضوا تفثهم
وتطهروا من الذنوب التي كانت لهم حجاباً دونه أمرهم بالزيارة على الطهارة …» (بحار الأنوار: ج 96 ص 34).
وعن أبي حمزة
الثمالي قال: قال رجل لعلي بن الحسين (ع): تركت الجهاد وخشونته ولزمت الحج ولينه!
وكان (ع)
متكئاً فجلس وقال: ويحك! أما بلغك ما قال رسول الله
(ع) في حجة الوداع؟! إنه لما وقف بعرفة، وهمّت الشمس أن تغيب قال رسول الله (ص):
يا بلال، قل للناس فلينصتوا. فلمّا نصتوا قال رسول الله (ص): إنّ ربكم تطوّل عليكم
في هذا اليوم فغفر لمحسنكم وشفّع محسنكم في مسيئكم، فأفيضوا مغفوراً لكم.
وزاد غير
الثمالي أنه قال: إلا أهل التبعات ـ فإنّ الله عدل
يأخذ للضعيف من القوي ـ فلمّا كانت ليلة جمع لم يزل يناجي ربه ويسأله لأهل
التبعات، فلمّا وقف بجمع قال لبلال: قل للناس فلينصتوا. فلمّا نصتوا قال: إنّ ربكم
تطوّل عليكم في هذا اليوم، فغفر لمحسنكم وشفّع محسنكم في مسيئكم، فأفيضوا مغفوراً
لكم. وضمن لأهل التبعات من عنده الرضا (الكافي: ج 4 ص 257 ح 24).
الأحد، 1 يونيو 2025
فلسفة السعي بين الصفا والمروة
1
ـ إنّ
السعي وما يحتويه من طول المسافة يذكّر الإنسان بفقره إلى الله عز وجل وأنّه سائر
في طريق الاستشعار بحاجته وفقره للمولى عزّ وجلّ.
فالفقر يستنزل
رحمة الله عز وجل حتى من غير أن يعي صاحب الفقر فقره إلى الله؛ لأنّ بين الفقر إلى
الله وبين رحمة الله علاقة حميمة، كل منهما يطلب الآخر .. وورد في دعاء رجب عن
الإمام الصادق (ع) قال: « يا من يعطي من سأله، يا من
يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة » (البحار: ج 95 ص 390).
وحيث يكون
الفقر وتكون الحاجة، تجد رحمة الله تعالى راصدة، وقد جسّد هذه العلاقة بصورة مؤثرة
زين العابدين في مناجاته البليغة، حيث قال: «مولاي
مولاي أنت المولى، وأنا العبد، وهل يرحم العبدَ إلا المولى. مولاي مولاي أنت
المالك، وأنا المملوك، وهل يرحم المملوكَ إلا المالكُ. مولاي مولاي أنت العزيز،
وأنا الذليل، وهل يرحم الذليلَ إلا العزيزُ. مولاي مولاي أنت الخالق، وأنا
المخلوق، وهل يرحم المخلوقَ إلا الخالقُ. مولاي مولاي أنت القوي، وأنا الضعيف، وهل
يرحم الضعيفَ إلا القوي. مولاي مولاي أنت الغني، وأنا الفقير، وهل يرحم الفقيرَ
إلا الغني. مولاي مولاي أنت المعطي، وأنا السائل، وهل يرحم السائلَ إلا المعطي.
مولاي مولاي أنت الحي، وأنا الميت، وهل يرحم الميتَ إلا الحي… ».
يقول الإمام
الصادق (ع): « ما من بقعة أحبّ إلى الله من المسعى؛ لأنـّه
يذل فيها كل جبار » (وسائل الشيعة: ج 13 ص
467 أبواب السعي ب 1 ح 1).
فهذه فرصة ثمينة للارتباط بمسبب الأسباب واقتلاع كل ما في وجوده حجاب عنه جلّ
اسمه.
وقال سيد
العابدين في دعائه: « وأنـّك لا تحتجب عن خلقك إلاّ
أن تحجبهم الأعمال السيئة دونك » (إقبال الأعمال: ج 1 ص 158).
2
ـ السعي
هو تردّد في معالم الرحمة الإلهية، والتماس المغفرة والرضا الإلهي، وهذا ما نلاحظه
في كثرة الأدعية وطولها في هذه العبادة المباركة، والذي يحب فيه المولى تبارك
وتعالى أن يسمع فيه ضجيج الدعاء من عباده.
3
ـ السعي
والحركة مفتاحان لرزق الإنسان ﴿ وَأنْ لَيْسَ
لِلإنْسَانِ إلا مَا سَعَى ﴾ (النجم: 39)، فإنّ عامل السعي يكسبه
عزماً وقوة وإرادة، وقد جعلهما الله عز وجل مفتاحاً لرزقه ورحمته.
فالسعي يعلمنا
أن نعيش دائماً أمل النجاح والانتصار حتى لو كنّا في أشدّ لحظات الكرب والشدة،
وهذا ما علمته أم إسماعيل هاجر للإنسان عندما نفذ الماء، وغلب الظمأ على وليدها
إسماعيل (ع).
ففي الصحيح عن
معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله (ع) قال: «إنّ
إبراهيم (ع) لمّا خلّف إسماعيل بمكة عطش الصبي فكان في ما بين الصفا والمروة شجر
فخرجت أمّه حتى قامت على الصفا فقالت: هل بالبوادي من أنيس فلم يجبها أحد، فمضت
حتى انتهت إلى المروة فقالت: هل بالبوادي من أنيس فلم تجب.
ثم
رجعت إلى الصفا وقالت ذلك حتى وضعت ذلك سبعاً، فأجرى الله ذلك سنة وأتاها جبرئيل
فقال لها: مَن أنت ؟
فقالت:
أنا أم ولد إبراهيم.
قال
لها: إلى من ترككم ؟
فقالت:
أما لئن قلت ذاك، لقد قلت له حيث أراد الذهاب: يا إبراهيم إلى من تركتنا؟ فقال:
إلى الله عزّ وجلّ.
فقال
جبرئيل (ع): لقد وكلكم إلى كافٍ.
قال:
وكان الناس يجتنبون الممر إلى مكة لمكان الماء ففحص الصبي برجله فنبعت زمزم.
قال:
فرجعت من المروة إلى الصبي وقد نبع الماء فأقبلت تجمع التراب حوله مخافة أن يسيح
الماء ولو تركته لكان سيحاً.
قال:
فلمّا رأت الطير الماء حلّقت عليه فمرّ ركب من اليمن يريد السفر فلمّا رأوا الطير
قالوا: ما حلّقت الطير إلا على ماء، فأتوهم فسقوهم من الماء فأطعموهم الركب من
الطعام، وأجرى الله عز وجل لهم بذلك رزقاً، وكان الناس يمرون بمكة فيطعمونهم من
الطعام ويسقونهم من الماء » (الكافي: ج 4 ص 201 كتاب الحج ب 7 ح 2).
نعم، لقد تحركت
-رضوان الله عليها- من أجل البحث عن الماء، تصعد جبل الصفا مرة وتصعد جبل المروة
مرة أخرى، فسعت بينهما سبع مرات وما يئست من تحصيله، بل كان الأمل والرجاء يعمران
قلبها بين سعي وآخر، وشفتاها تلهجان بذكر الله وهي في هذه اللحظات العصيبة، والذي
اشتمل على كل عناصر الفقر والسعي والدعاء، فجاءها رزق الله من حيث لا تحتسب، وكان
رزقاً مباركاً متصلاً يسقي الظمآن من رحيق التقوى ما يروي صبابته.
وهنا نتساءل:
لقد فجّر الله لهما زمزم في واد غير ذي زرع، وجعلها مصدراً ومبدأ لكثير من البركات
على هذه الأرض المباركة.
وكذلك جعل هذا
المشهد جزءاً من أعمال الحج، وثبّته في واحد من أشرف فرائضه. فما هو السر الكامن
في هذا المشهد ؟
ولماذا هذا
الاهتمام به في أصل الدين، وتثبيته في الحج ؟
وما هو السبب
المؤثر والقوي الذي استنزل رحمة الله بقوة في هذا المشهد، وجعلها مبدأ لبركات
كثيرة في تاريخ الموحدين ؟!!
ونقول: لعل
الإجابة تنحصر في كون هذا المشهد الفريد يجمع منازل رحمة الله عز وجل، بحيث يعد كل
موقف من مواقفه منزل رحمة الله:
أولاً:
منزلة الفقر والحاجة: وكان يمثلها الظمأ الذي أضرَّ بالطفل الرضيع والذي
جعله أقرب من غيره إلى رحمة الله تعالى.
وثانياً:
منزلة السعي: وقد مثلته السيدة هاجر خير تمثيل فمع كل هذه الحركة والسعي ـ
مع عدم وجود الماء ـ لم تيأس، وكررت صعودها ونزولها وهرولتها سبع مرات، يحذوها
أملها ورجاؤها بالله في كل صعود وهبوط.
وثالثاً: منزلة
الدعاء والسؤال: وقد مثلته السيدة هاجر في دعائها، وانقطاعها إلى الله.
ولنا أن نتأمل
إلى أي درجة وصلت إليه هذه المرأة الصالحة في حالات انقطاعها مع الله، في تلك
اللحظات، وفي ذلك الوادي الذي لا زرع فيه، ولا إنسان ولا حيوان حولها، ووليدها
الوحيد يتلظى عطشاً، ويكاد أن يلفظ أنفاسه …
لا شك أنّه
انقطاع ضجت له الملائكة، بحيث ضمت أصواتها لصوتها، وتفاعلت معها في ترانيم دعائها.
بحيث أصبح هذا الموقف يستجليه الحاج في كل عام ليقف على شعيرة من شعائر الله
الكبرى في مسعاه بين الصفا والمروة، حيث يقول تعالى: ﴿
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ
اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ (البقرة: 158).
4
ـ ينبغي
للحاج في سعيه أن يسعى سعي من يريد الوصول إلى المحبوب، حتى إذا ما أدركه هانت
عليه كل الأمور، وانتهت كل الشكوك والترددات، وتزول كل المخاوف والحبائل الشيطانية
والارتباطات المادية.
5
ـ هذا
السعي الطويل يذكرنا بطريق المعاد حيث ينادي المنادي: أن هلمّوا إلى يوم الحساب،
وفي هذا السعي الطويل فرصة ثمينة للإنسان أن يراجع مسيرة حياته السابقة ليقيمها
على ضوء خط الأنبياء والمرسلين والأوصياء، وبعد هذه المسيرة التقييمية الصادقة ﴿ وَيَضَعُ عَنْهُم إصْرَهُم وَالأغْلاَلَ التِي كَانَتْ
عَلَيْهِم ﴾ (الأعراف: 157).
وقد كان علي (ع) يقول: « لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير العمل ». لأنّ الله عز وجل جعل السعي والعمل من منازل رحمته للدنيا والآخرة. أما رحمته في الدنيا فلقوله تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ (النحل: 97). وأما رحمته في الآخرة فلقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ﴾ (النساء: 124).
محرم 1447 في الصحافة الكويتية

-
ميزان النصر في القرآن الكريم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) . ...
-
** مميّزات المنهج التربوي عند الإمام علي ** {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِه...
-
**جدلية المنبر بين رؤية المثقف ورؤية الخطيب الحسيني** مقاربة تاريخية: المنبر هو ما يرتقي لأجل الوعظ والخطابة، وهو مشتق من نبرت ا...