فلسفة الوقوفين (عرفات ومزدلفة)
% فلسفة الوقوف بعرفة:
1 ـ بعد
أن وصل الحاج إلى البيت العتيق، ونال من العلم ما نال عن طريق المبايعة لله عزّ
وجلّ، حيث يجعله أهلاً لأن يسلك الطريق من العلم إلى المعرفة، فجمع في عرفة ـ
حينئذ ـ بين معرفته بالله من حيث هو محرم له عزّ وجلّ، ومعرفته بالله من حيث كونه
في الحِل (عرفة).
ومن هذا الموقع
يحرّكنا الإمام الحسين (ع) بوعي وتسامي في يوم عرفة قائلاً في مناجاته: « اللهم اجعلني أخشاك كأنّي أراك »، ولا يخاف أو
يخشى إلاّ من عرفه.
ثم يقول (ع): « كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك
من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك، متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك،
ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك عليها رقيباً... »
(دعاء عرفة للإمام
الحسين (ع)).
ووقوف الإنسان
في الحِل هو فرصة ثمينة للاعتراف لكي ينكشف له الحجاب فيلج إلى حرم الله الأمنع
فيكون طريقاً إلى بيته الأقدس.
يقول معاوية بن
عمّار: سألت أبا عبد الله (ع) عن عرفات لمَ سميت عرفات؟
فقال: « إنّ جبرائيل (ع) خرج بإبراهيم صلوات الله عليه يوم عرفة
فلمّا زالت الشمس قال له جبرائيل: يا إبراهيم اعترف بذنبك واعرف مناسكك، فسمّيت
عرفات لقول جبرائيل (ع): اعترف، فاعترف » (علل الشرائع: ص 436).
2
ـ في
عرفات يتفاعل وجدان الحجيج في نشيج ملائكي حيث ازدحام الناس وارتفاع الأصوات
بمختلف اللغات كصورة النشر والحشر، فترى المؤمنين في صور شتى ما بين متضرع وباك
وداع.
كل ذلك يذكرك
بموقف الوقوف بين يدي الله عز اسمه في عرصات القيامة. يقول الإمام السجاد (ع): « أما علمت أنـّه إذا كان عشية عرفة برز الله في ملائكته
إلى سماء الدنيا، ثم يقول: انظروا إلى عبادي، أتوني شعثاً غبراً، أرسلت إليهم
رسولاً من وراء وراء، فسألوني ودعوني، أشهدكم أنـّه حقّ عليّ أن أجيبهم اليوم، قد
شفّعت محسنهم في مسيئهم، وقد تقبلت من محسنهم، فأفيضوا مغفوراً لكم، ثم يأمر ملكين
فيقومان بالمأزمين هذا من هذا الجانب وهذا من هذا الجانب، فيقولان: اللهم سلّم
سلّم، فما تكاد ترى من صريع ولا كسير » (المحاسن: ص 65).
3 ـ
للوصول إلى حقائق المعرفة على الحاج أن يكون ظنّه بالله قوياً، وأنـّه سيبلغ
مراده، فهو يوم شريف وموقف عظيم، فهو « يوم شرّفته
وكرّمته وعظّمته، نشرت فيه رحمتك ومننت فيه بعفوك، وأجزلت فيه عطيتك، وتفضّلت به
على عبادك ».
ومن شرف هذا
اليوم ما روي عنهم (عليهم السلام): « إنّ من أعظم
الناس ذنباً مَن وقف بعرفات ثم ظن أنّ الله لم يغفر له » (وسائل الشيعة: ج 13 ص 547 أبواب
إحرام الحج والوقوف بعرفة ب 18 ح 2).
ويقول الإمام
الباقر (ع): « ما من برّ ولا فاجر يقف بجبال عرفات
فيدعو الله إلاّ استجاب الله له، أمّا البر ففي حوائج الدنيا والآخرة، وأمّا
الفاجر ففي أمر الدنيا » (قرب الإسناد: ص 166).
ولهذا ينبغي
للإنسان أن يتحرر من سجن النفس الجاهلة وأن يحذر من الشيطان ويتعوذ منه « فإنّ الشيطان لن يذهلك في موطن قط أحبّ إليه من أن يذهلك
في ذلك الموطن، وإياك أن تشتغل بالنظر إلى الناس وأقبل قبل نفسك، وليكن في ما
تقوله: اللهم إنّي عبدك فلا تجعلني من أخيب وفدك، وارحم مسيري إليك من الفج العميق
» (وسائل
الشيعة: ج 13 ص 538 أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة ب 14 ح 1).
فلا تذهل عن
طلب حقائق المعرفة الإلهية، واطلبها في هذا الموقف بالنظر إلى ذلك بين يَدَيْ ربك « إلهي هذا ذلي ظاهر بين يديك، وهذا حالي لا يخفى عليك، منك
أطلب الوصول إليك، وبك أستدل عليك، فاهدني بنورك إليك ...، واسلك بي مسلك أهل
الجذب ».
4
ـ يستحب
في هذا الموقف الدعاء للمؤمنين عملاً بمواقف أهل البيت (عليهم السلام):
يقول إبراهيم
بن هاشم: رأيت عبد الله بن جندب في الموقف فلم أرَ موقفاً كان أحسن من موقفه ما
زال ماداً يديه إلى السماء ودموعه تسيل على خديه حتى تبلغ الأرض فلّما صدر الناس
قلت له: يا أبا محمّد ما رأيت موقفاً قطّ أحسن من موقفك.
قال: والله ما
دعوت إلاّ لإخواني، وذلك أنّ أبا الحسن موسى (ع) أخبرني أنّ من دعا لأخيه بظهر
الغيب نودي من العرش: ولك مائة ألف ضعف مثله، فكرهت أن أدع مائة ألف مضمونةٍ لواحد
لا أدري يستجاب أم لا (الكافي: ج 4 ص 457 ب 165 ح 7).
ويقول محمّد بن
أبي عمير: كان عيسى بن أعين إذا حج فصار إلى الموقف أقبل على الدعاء لإخوانه حتى
يفيض الناس، فقلت له: تنفق مالك وتتعب بدنك حتى إذا صرت إلى الموضع الذي تبثّ فيه
الحوائج إلى الله عز وجل أقبلت على الدعاء لإخوانك وتركت نفسك؟
فقال: إنّي على
ثقة من دعوة الملك لي، وفي شك من الدعاء لنفسي (م.ن: ح 8).
فعلى الإنسان
الذي يقف في هذا اليوم أن يتأمل في ماضيه وحاضره ومستقبله من حيث علاقة هذه
المواقع الزمنية بحركة المسؤولية في علاقته بالله من حيث الهمّ الكبير للإنسان،
لأنّه هو الذي يمثل حقيقة المصير الحاسم في الدار الآخرة ﴿
يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ، ﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا ﴾
، مما يفرض على الإنسان أن يدخل في حساب مع النفس في أجواء الروح المنفتحة على
الله.
يقول زين
العابدين (ع) في دعاء عرفة: « اَللّهُمَّ هذا يَوْمُ
عَرَفَةَ، يَوْمٌ شَرَّفْتَهُ وَكَرَّمْتَهُ وَعَظَّمْتَهُ، نَشَرْتَ فيهِ
رَحْمَتَكَ، وَمَنَنْتَ فيهِ بِعَفْوِكَ، وَأَجْزَلْتَ فيهِ عَطِيَّتَكَ،
وَتَفَضَّلْتَ بِهِ عَلى عِبادِكَ.
اَللّهُمَّ
وَأَنَا عَبْدُكَ الَّذي أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ قَبْلَ خَلْقِكَ لَهُ، وَبَعْدَ
خَلْقِكَ إِيّاهُ، فَجَعَلْتَهُ مِمَّنْ هَدَيْتَهُ لِدينِكَ، وَوَفَّقْتَهُ
لِحَقِّكَ، وَعَصَمْتَهُ بِحَبْلِكَ، وَأَدْخَلْتَهُ في حِزْبِكَ، وَأَرْشَدْتَهُ
لِمُوالاةِ أَوْلِيائِكَ، وَمُعاداةِ أَعْدائِكَ. ثُمَّ أَمَرْتَهُ فَلَمْ
يَأْتَمِرْ، وَزَجَرْتَهُ فَلَمْ يَنْزَجِرْ، وَنَهَيْتَهُ عَنْ مَعْصِيَتِكَ
فَخالَفَ أَمْرَكَ إِلى نَهْيِكَ، لا مُعانَدَةً لَكَ، وَلاَ اسْتِكْباراً
عَلَيْكَ، بَلْ دَعاهُ هَواهُ إِلى ما زَيَّلْتَهُ وَإِلى ما حَذَّرْتَهُ،
وَأَعانَهُ عَلى ذلِكَ عَدُوُّكَ وَعَدُوُّهُ، فَأَقْدَمَ عَلَيْهِ عارِفاً
بِوَعيدِكَ، راجِياً لِعَفْوِكَ، واثِقاً بِتَجاوُزِكَ، وَكانَ أَحَقَّ عِبادِكَ
مَعَ ما مَنَنْتَ عَلَيْهِ أَلاّ يَفْعَلَ.
وَها
أَنَا ذا بَيْنَ يَدَيْكَ صاغِراً ذَليلاً، خاضِعاً خاشِعاً، خائِفاً مُعْتَرِفاً
بِعَظيم مِنَ الذُنُوبِ تَحَمَّلْتُهُ، وَجَليل مِنَ الْخَطايَا اجْتَرَمْتُهُ،
مُسْتَجيراً بِصَفْحِكَ، لائِذاً بِرَحْمَتِكَ، مُوقِناً أَنَّهُ لا يُجيرُني
مِنْكَ مُجيرٌ، وَلا يَمْنَعُني مِنْكَ مانِعٌ.
فَعُدْ
عَلَىَّ بِما تَعُودُ بِهِ عَلى مَنِ اقْتَرَفَ مِنْ تَغَمُّدِكَ، وَجُدْ عَلَىَّ
بِما تَجُودُ بِهِ عَلى مَنْ أَلْقى بِيَدِهِ إِلَيْكَ مِنْ عَفْوِكَ، وَامْنُنْ
عَلَىَّ بِما لا يَتَعاظَمُكَ أَنْ تَمُنَّ بِهِ عَلى مَنْ أَمَّلَكَ مِنْ
غُفْرانِكَ، وَاجْعَلْ لي في هذَا الْيَوْمِ نَصيباً أَنالُ بِهِ حَظّاً مِنْ
رِضْوانِكَ».
%
الوقوف بمزدلفة:
بعد أن وقف
الحاج في الحِل ( عرفة )، واستوفى الأدب مع خالقه عزّ وجلّ، وأفاض منها، أذن له في
الدخول مرة أخرى إلى حرمه ليتفيأ من ظلال المعرفة للوصول إلى الخطاب مع الله عند
بيته العتيق.
سئل الإمام الصادق
(ع): لم صُيّر الموقف بالمشعر ولم يصيّر بالحرم ؟
فقال (ع): « لأنّ الكعبة بيت الله والحرم حجابه، فلمّا أن قصده
الزائرون وقفهم بالباب حتى أذن لهم بالدخول، ثم وقفهم بالحجاب الثاني وهو مزدلفة،
فلما نظر إلى طول تضرعهم أمرهم بتقريب قربانهم، فلّما قربوا قربانهم وقضوا تفثهم
وتطهروا من الذنوب التي كانت لهم حجاباً دونه أمرهم بالزيارة على الطهارة …» (بحار الأنوار: ج 96 ص 34).
وعن أبي حمزة
الثمالي قال: قال رجل لعلي بن الحسين (ع): تركت الجهاد وخشونته ولزمت الحج ولينه!
وكان (ع)
متكئاً فجلس وقال: ويحك! أما بلغك ما قال رسول الله
(ع) في حجة الوداع؟! إنه لما وقف بعرفة، وهمّت الشمس أن تغيب قال رسول الله (ص):
يا بلال، قل للناس فلينصتوا. فلمّا نصتوا قال رسول الله (ص): إنّ ربكم تطوّل عليكم
في هذا اليوم فغفر لمحسنكم وشفّع محسنكم في مسيئكم، فأفيضوا مغفوراً لكم.
وزاد غير
الثمالي أنه قال: إلا أهل التبعات ـ فإنّ الله عدل
يأخذ للضعيف من القوي ـ فلمّا كانت ليلة جمع لم يزل يناجي ربه ويسأله لأهل
التبعات، فلمّا وقف بجمع قال لبلال: قل للناس فلينصتوا. فلمّا نصتوا قال: إنّ ربكم
تطوّل عليكم في هذا اليوم، فغفر لمحسنكم وشفّع محسنكم في مسيئكم، فأفيضوا مغفوراً
لكم. وضمن لأهل التبعات من عنده الرضا (الكافي: ج 4 ص 257 ح 24).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق