الأحد، 1 يونيو 2025


 

فلسفة السعي بين الصفا والمروة

1 ـ إنّ السعي وما يحتويه من طول المسافة يذكّر الإنسان بفقره إلى الله عز وجل وأنّه سائر في طريق الاستشعار بحاجته وفقره للمولى عزّ وجلّ.

فالفقر يستنزل رحمة الله عز وجل حتى من غير أن يعي صاحب الفقر فقره إلى الله؛ لأنّ بين الفقر إلى الله وبين رحمة الله علاقة حميمة، كل منهما يطلب الآخر .. وورد في دعاء رجب عن الإمام الصادق (ع) قال: « يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة » (البحار: ج 95 ص 390).

وحيث يكون الفقر وتكون الحاجة، تجد رحمة الله تعالى راصدة، وقد جسّد هذه العلاقة بصورة مؤثرة زين العابدين في مناجاته البليغة، حيث قال: «مولاي مولاي أنت المولى، وأنا العبد، وهل يرحم العبدَ إلا المولى. مولاي مولاي أنت المالك، وأنا المملوك، وهل يرحم المملوكَ إلا المالكُ. مولاي مولاي أنت العزيز، وأنا الذليل، وهل يرحم الذليلَ إلا العزيزُ. مولاي مولاي أنت الخالق، وأنا المخلوق، وهل يرحم المخلوقَ إلا الخالقُ. مولاي مولاي أنت القوي، وأنا الضعيف، وهل يرحم الضعيفَ إلا القوي. مولاي مولاي أنت الغني، وأنا الفقير، وهل يرحم الفقيرَ إلا الغني. مولاي مولاي أنت المعطي، وأنا السائل، وهل يرحم السائلَ إلا المعطي. مولاي مولاي أنت الحي، وأنا الميت، وهل يرحم الميتَ إلا الحي ».

يقول الإمام الصادق (ع): « ما من بقعة أحبّ إلى الله من المسعى؛ لأنـّه يذل فيها كل جبار » (وسائل الشيعة: ج 13 ص 467 أبواب السعي ب 1 ح 1). فهذه فرصة ثمينة للارتباط بمسبب الأسباب واقتلاع كل ما في وجوده حجاب عنه جلّ اسمه.

وقال سيد العابدين في دعائه: « وأنـّك لا تحتجب عن خلقك إلاّ أن تحجبهم الأعمال السيئة دونك » (إقبال الأعمال: ج 1 ص 158).

2 ـ السعي هو تردّد في معالم الرحمة الإلهية، والتماس المغفرة والرضا الإلهي، وهذا ما نلاحظه في كثرة الأدعية وطولها في هذه العبادة المباركة، والذي يحب فيه المولى تبارك وتعالى أن يسمع فيه ضجيج الدعاء من عباده.

3 ـ السعي والحركة مفتاحان لرزق الإنسان ﴿ وَأنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إلا مَا سَعَى ﴾ (النجم: 39)، فإنّ عامل السعي يكسبه عزماً وقوة وإرادة، وقد جعلهما الله عز وجل مفتاحاً لرزقه ورحمته.

فالسعي يعلمنا أن نعيش دائماً أمل النجاح والانتصار حتى لو كنّا في أشدّ لحظات الكرب والشدة، وهذا ما علمته أم إسماعيل هاجر للإنسان عندما نفذ الماء، وغلب الظمأ على وليدها إسماعيل (ع).

ففي الصحيح عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله (ع) قال: «إنّ إبراهيم (ع) لمّا خلّف إسماعيل بمكة عطش الصبي فكان في ما بين الصفا والمروة شجر فخرجت أمّه حتى قامت على الصفا فقالت: هل بالبوادي من أنيس فلم يجبها أحد، فمضت حتى انتهت إلى المروة فقالت: هل بالبوادي من أنيس فلم تجب.

ثم رجعت إلى الصفا وقالت ذلك حتى وضعت ذلك سبعاً، فأجرى الله ذلك سنة وأتاها جبرئيل فقال لها: مَن أنت ؟

فقالت: أنا أم ولد إبراهيم.

قال لها: إلى من ترككم ؟

فقالت: أما لئن قلت ذاك، لقد قلت له حيث أراد الذهاب: يا إبراهيم إلى من تركتنا؟ فقال: إلى الله عزّ وجلّ.

فقال جبرئيل (ع): لقد وكلكم إلى كافٍ.

قال: وكان الناس يجتنبون الممر إلى مكة لمكان الماء ففحص الصبي برجله فنبعت زمزم.

قال: فرجعت من المروة إلى الصبي وقد نبع الماء فأقبلت تجمع التراب حوله مخافة أن يسيح الماء ولو تركته لكان سيحاً.

قال: فلمّا رأت الطير الماء حلّقت عليه فمرّ ركب من اليمن يريد السفر فلمّا رأوا الطير قالوا: ما حلّقت الطير إلا على ماء، فأتوهم فسقوهم من الماء فأطعموهم الركب من الطعام، وأجرى الله عز وجل لهم بذلك رزقاً، وكان الناس يمرون بمكة فيطعمونهم من الطعام ويسقونهم من الماء » (الكافي: ج 4 ص 201 كتاب الحج ب 7 ح 2).

نعم، لقد تحركت -رضوان الله عليها- من أجل البحث عن الماء، تصعد جبل الصفا مرة وتصعد جبل المروة مرة أخرى، فسعت بينهما سبع مرات وما يئست من تحصيله، بل كان الأمل والرجاء يعمران قلبها بين سعي وآخر، وشفتاها تلهجان بذكر الله وهي في هذه اللحظات العصيبة، والذي اشتمل على كل عناصر الفقر والسعي والدعاء، فجاءها رزق الله من حيث لا تحتسب، وكان رزقاً مباركاً متصلاً يسقي الظمآن من رحيق التقوى ما يروي صبابته.

وهنا نتساءل: لقد فجّر الله لهما زمزم في واد غير ذي زرع، وجعلها مصدراً ومبدأ لكثير من البركات على هذه الأرض المباركة.

وكذلك جعل هذا المشهد جزءاً من أعمال الحج، وثبّته في واحد من أشرف فرائضه. فما هو السر الكامن في هذا المشهد ؟

ولماذا هذا الاهتمام به في أصل الدين، وتثبيته في الحج ؟

وما هو السبب المؤثر والقوي الذي استنزل رحمة الله بقوة في هذا المشهد، وجعلها مبدأ لبركات كثيرة في تاريخ الموحدين ؟!!

ونقول: لعل الإجابة تنحصر في كون هذا المشهد الفريد يجمع منازل رحمة الله عز وجل، بحيث يعد كل موقف من مواقفه منزل رحمة الله:

أولاً: منزلة الفقر والحاجة: وكان يمثلها الظمأ الذي أضرَّ بالطفل الرضيع والذي جعله أقرب من غيره إلى رحمة الله تعالى.

وثانياً: منزلة السعي: وقد مثلته السيدة هاجر خير تمثيل فمع كل هذه الحركة والسعي ـ مع عدم وجود الماء ـ لم تيأس، وكررت صعودها ونزولها وهرولتها سبع مرات، يحذوها أملها ورجاؤها بالله في كل صعود وهبوط.

وثالثاً: منزلة الدعاء والسؤال: وقد مثلته السيدة هاجر في دعائها، وانقطاعها إلى الله.

ولنا أن نتأمل إلى أي درجة وصلت إليه هذه المرأة الصالحة في حالات انقطاعها مع الله، في تلك اللحظات، وفي ذلك الوادي الذي لا زرع فيه، ولا إنسان ولا حيوان حولها، ووليدها الوحيد يتلظى عطشاً، ويكاد أن يلفظ أنفاسه

لا شك أنّه انقطاع ضجت له الملائكة، بحيث ضمت أصواتها لصوتها، وتفاعلت معها في ترانيم دعائها. بحيث أصبح هذا الموقف يستجليه الحاج في كل عام ليقف على شعيرة من شعائر الله الكبرى في مسعاه بين الصفا والمروة، حيث يقول تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ (البقرة: 158).

4 ـ ينبغي للحاج في سعيه أن يسعى سعي من يريد الوصول إلى المحبوب، حتى إذا ما أدركه هانت عليه كل الأمور، وانتهت كل الشكوك والترددات، وتزول كل المخاوف والحبائل الشيطانية والارتباطات المادية.

5 ـ هذا السعي الطويل يذكرنا بطريق المعاد حيث ينادي المنادي: أن هلمّوا إلى يوم الحساب، وفي هذا السعي الطويل فرصة ثمينة للإنسان أن يراجع مسيرة حياته السابقة ليقيمها على ضوء خط الأنبياء والمرسلين والأوصياء، وبعد هذه المسيرة التقييمية الصادقة ﴿ وَيَضَعُ عَنْهُم إصْرَهُم وَالأغْلاَلَ التِي كَانَتْ عَلَيْهِم ﴾ (الأعراف: 157).

وقد كان علي (ع) يقول: « لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير العمل ». لأنّ الله عز وجل جعل السعي والعمل من منازل رحمته للدنيا والآخرة. أما رحمته في الدنيا فلقوله تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ (النحل: 97). وأما رحمته في الآخرة فلقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ﴾ (النساء: 124).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

محرم 1447 في الصحافة الكويتية