فلسفة الطواف
1
ـ يعيش
الفرد المسلم حالات عبادته فرديّة أو جماعيّة، ولكنها لا تتعدى المنطقة التي
يعيشها، وأمّا عبادة الطواف فهي مشاركة عالمية للمسلمين الوافدين من سائر أقطار
العالم ليعبدوا الله عز وجل كأمّةٍ يتمثل فيها جميع الأعراف المختلفة لينطلق الجميع
في عبادة عامة فيتذوقوا روحاً جديدة من العبادة ...
2
ـ إنّ
هذا الطواف يكسبك لوناً جديداً من الحياة لم يألفها من قبل بهذه القوة والفاعلية.
إنه ينتقل إلى طور جديد من الحياة أهم خصائصه غياب الفردية، وحضور الجماعة، بحيث
لا ترى في المطاف أفراداً يتحركون، وإنما ترى كتلة بشرية واحدة من الناس تطوف حول
البيت العتيق.
كل هذا ليتأكد
عند الحاج الإحساس بالجماعة المسلمة، وبأنه عضو من جسم واحد، وليس فرداً من مجموعة
إنسانية، وبأنّ هذه الأمة كيان واحد ومصير واحد، وما يصيبها من خير وشر يصيب
الجميع.
3
ـ في
الطواف يتسامى المسلمون كما يتسامى الملائكة المحدقون بعرش الله عزّ وجلّ. يقول
أمير المؤمنين (ع): « واختار من خلقه سُمّاعاً أجابوا
إليه دعوته، وصدّقوا كلمته، ووقفوا مواقف أنبيائه، وتشبهوا بملائكته المطيفين»
(نهج البلاغة: خطبة 1).
ومن هذا
التسامي والحضور يولد عنصر التعلق بعالم الغيب من خلال الشهود الملائكي وبين
الصلاة التي هي قربان كل تقي، فيتم الإشباع المتوازن للحس والمعنى في هذا الحضور،
وبهذا يتحقق أحد مقومات الشخصية المسلمة ﴿ الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ﴾ (البقرة: 3).
4
ـ في
الطواف يتجلى عشق الطائف لله عزّ وجلّ، كالعاشق الذي يطوف حول بيت محبوبه، وفي
طوافه الإلهي تتساقط كل الأصنام مادية كانت أو معنوية، ولا يبقى إلاّ طواف القلب
بالحضرة القدسية.
فأحضر قلبك في
طوافك من التعظيم والخوف والرجاء والوَلَهِ، ولا تظن أنّ المقصود طواف جسمك
بالبيت، بل المقصود طواف قلبك بذكر ربّ البيت، فقد ورد « الصلاة طواف ».
ورد عن الرسول
الأكرم (ص) أنّه قال: «إنّ الله يباهي بالطائفين»
(عوالي اللآلي: ج 1 ص
96 ح 8).
يقول أبان بن
تغلب: كنت مع أبي عبد الله (ع) مزاملة فيما بين مكة والمدينة، فلمّا انتهى إلى
الحرم نزل واغتسل وأخذ نعليه بيديه، ثم دخل الحرم حافياً، فصنعت مثل ما صنع. فقال:
يا أبان، من صنع مثل ما رأيتني صنعتُ تواضعاً لله محا
الله عنه مائة ألف سيئة، وكتب له مائة ألف حسنة، وبنى الله له مائة ألف درجة، وقضى
له مائة ألف حاجة (وسائل الشيعة: ج 13 ص 195 أبواب مقدمات الطواف وما يتبعها ب 1 ح 1).
5
ـ إنّ
الغاية من الطواف حول الكعبة هو الانتقال إلى المحور الإلهي، فإذا ما تخلص المحرم
من محور الأنانية في حياته، فإنّ المحور الإلهي يجذبه جذباً قوياً، والطواف بعد
الإحرام رمز لذلك. فإنّ الإحرام من الميقات يرمز إلى التحرر من الأنا، والطواف حول
البيت يرمز إلى الانجذاب إلى الله تعالى، والحركة حول المحور الإلهي في الحياة.
فحركة الطواف
تعبير عن توحيد العبودية لله، وتوحيد الحب والولاء ﴿
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ (الأنعام: 162 ـ 163).
ما هو المقصود من التوحيد في
العبادة؟
التوحيد
العملي، وهو التوحيد الذي يعبر عنه العلماء بـ (التوحيد في العبادة): هو نوع من
الحياة ونوع من الوجود بإيصال الإنسان إلى الكمال. أي أنّ الإنسان يعتبر موحداً ما
دام يمر في مرحلة التصور، غير أنه لا يعتبر موحداً كاملاً، بل لا يعتبر موحداً
حقيقياً إلا إذا كان موحداً في مرحلة الحياة ومرحلة الوجود.
يقول الإمام
زين العابدين (ع): « اَللّهُمَّ وَاجْعَلْني مِنْ
أَهْلِ التَّوْحيدِ وَالإيمانِ بِكَ ».
ويقول أيضاً: « وَوَسيلَتي إِلَيْكَ التَّوْحيدُ ».
ويقول أيضاً: « وَدَلَّنا عَلَيْهِ مِنَ الإخْلاصِ لَهُ في تَوْحيدِهِ ».
ولذا نجد في
خطبة السيدة الزهراء (ع) الرائعة التعبير المهم التالي: «
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمن القلب
موصولها، وأنار في التفكر معقولها ».
حيث تبين
الزهراء (عليها السلام) في شهادتها هذه، اعتقادها بالتوحيد النظري، ولكنها ومن أجل
أن توضح بأنّ التوحيد النظري غير منفصل عن التوحيد العملي في الإسلام، تقول: « كلمة جعل الإخلاص تأويلها ».
وحسب التعبير
القرآني، فإنّ التأويل يعني المآل. والشيء الذي تكون عودته ونهايته بل وحقيقته
عائدة له يعتبر تأويلاً لتلك الحقيقة.
وهذه الجملة
تبين بأنّ التوحيد النظري إذا كان توحيداً نظرياً محضاً، أي إذا لم يتعد مرحلة
الفكر والمرحلة النظرية إلى المرحلة العملية، وتوقف في مرحلة التصور ولم يتحقق في
مرحلة حياة الإنسان، فإنه لا يعتبر توحيداً حقيقياً من وجهة نظر الإسلام.
ولذلك نطلق على
أمير المؤمنين (ع) لقب (إمام الموحدين) أي إمام من تجاوز بتوحيدهم مرحلة الفكر
والخيال والتصور إلى مرحلة العمل والإخلاص.
فقد يوجد أناس
يكونون موجودات مشركة! وعبيداً لألف شيء وألف شخص، ومع ذلك يكونون موحدين من ناحية
التصور، ويثبتون وجود الله بأدلة جيدة. فهل يعتبر هؤلاء موحدين من وجهة نظر
الإسلام ؟
نقول بصورة
مختصرة إسلامية: إنّ (الله) في التصور والفكر إنما هو مقدمة لـ (الله) في الحياة
والوجود.
فمثل الموحد من
الناحية النفسية، كمثل الشخص الذي يسلِّم أمره لشخص ومقام واحد، وتسيطر على وجوده
قوة واحدة .. أما المشرك، فلا تتوفر وحدة وتجانس وتناسق في شخصيته، ويستحوذ على
نفسيته عدة شركاء ومالكين، يشتركون في وجوده، وهؤلاء الشركاء لهم طبائع وأخلاق
متنافسة فيما بينهم.
ويقول تعالى: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ
مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ
لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ﴾ (الزمر: 29). فتظهر على الإنسان صفة
تعدد الشركاء بصورة جبرية عندما لا يتحكم الإيمان بالله والتوحيد وعبادة الله
والتوحيد العملي في حياته ؟
ومن يتصور أنّ
بإمكان الإنسان أن يتحرر من كل شيء هو على خطأ. إذ أنّ تحرر الإنسان من كل شيء
يعني موته، ذلك أنّ هناك تحرراً من الهدف، ومن المسؤولية، ومن التعهد والالتزام ..
فإذا أراد الإنسان أن يكون إنساناً فلا بد أن يحمل هدفاً، وأن حمله الهدف يعني
خضوعه له لأنه سيحكم وجوده.
فالقرآن يبين
بأنّ هناك إنسانين: إنساناً يتحكم فيه شركاء متشاكسون، وآخر له مالك واحد حكيم،
وهذا الحكيم لا يتفق مع غيره فحسب، بل يتفق مع مملوكه أيضاً. فلاحظوا مدى الفرق
بين هذين الإنسانين.
ولذا يقول زين
العابدين: « وَلا تَرُدَّني صِفْراً مِمّا يَنْقَلِبُ
بِهِ الْمُتَعَبِّدُونَ لكَ مِنْ عِبادِكَ، وَإِنّي وَإِنْ لَمْ أُقَدِّمْ ما
قَدَّمُوهُ مِنَ الصّالِحاتِ، فَقَدْ قَدَّمْتُ تَوْحيدَكَ، وَنَفْيَ الأضْدادِ
وَالأنْدادِ وَالأشْباهِ عَنْكَ، وَأَتَيْتُكَ مِنَ الأبْوابِ الَّتي أَمَرْتَ
أَنْ تُؤْتى مِنْها، وَتَقَرَّبْتُ إِلَيْكَ بِما لا يَقْرُبُ بِهِ أَحَدٌ مِنْكَ
إِلاّ بِالتَّقَرُّبِ بِهِ، ثُمَّ أَتْبَعْتُ ذلِكَ بِالإنابَةِ إِلَيْكَ،
وَالتَّذَلُّلِ وَالاِْسْتِكانَةِ لَكَ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِكَ، وَالثِّقَةِ بِما
عِنْدَكَ، وَشَفَعْتُهُ بِرَجائِكَ الَّذي قَلَّ ما يَخيبُ عَلَيْهِ راجيكَ، وَ
سَأَلْتُكَ مَسْأَلَةَ الْحَقيرِ الذَّليلِ، الْبائِس الْفَقيرِ، الْخائِفِ
الْمُسْتَجيرِ، وَمَعَ ذلِكَ خيفةً وَتَضَرُّعاً، وَتَعَوُّذاً وَتَلَوُّذاً، لا
مُسْتَطيلاً بِتَكَبُّرِ الْمُتَكَبِّرينَ، وَلا مُتعالِياً بِدالَّةِ
الْمُطيعينَ، وَلا مُسْتَطيلاً بِشَفاعَةِ الشّافِعينَ، وَأَنَا بَعْدُ أَقَلُّ
الأقَلّينَ، وَأَذَلُّ الأذَلّينَ، وَمِثْلُ الذَّرَّةِ أَوْ دُونَها ».
ومن خلال ما تقدم في حركة الطواف نخلص إلى ثلاث
ركائز:
1 ـ المنطلق:
وهو تجاوز الإنسان لمرحلة الأنا والذات ويتعمق ذلك في صورة الإحرام في الميقات.
2 ـ الغاية:
وهي الحركة إلى الله وتوحيده عز وجل، ويتعمق ذلك في صورة الطواف حول البيت العتيق.
3 ـ الوسيلة: بحيث لا يصل الإنسان إلى الغاية إلا بها، ويتعمق ذلك عبر الانصهار في الجماعة المسلمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق