الخميس، 29 مايو 2025


 

فلسفة الصلاة ومقام إبراهيم

1 ـ ليس الملفت للنظر هو تشريع الصلاة بعد الطواف، فهي خير موضوع، ومعراج المؤمن، وقربان كل تقي. ولكن الملفت للنظر هو التحديد المكاني لإقامة هذه الصلاة، فلا يصح أن تؤتى إلاّ في المكان الذي خلّد الله فيه اسم خليله إبراهيم (ع).

قال الله تعالى: ﴿ وَاتخِذُوا مِن مقَامِ إبرَاهِيمَ مُصَلّىً ﴾ (البقرة: 125).

وقال الإمام الصادق (ع): « إذا فرغت من طوافك فأتِ مقام إبراهيم (ع) فصل ركعتين واجعله إماماً » (وسائل الشيعة: ج 13 ص 423 أبواب الطواف ب 71 ح 3).

وقال (ع): «ليس لأحد أن يصلي ركعتي طواف الفريضة إلاّ خلف المقام» (تفسير نور الثقلين: ج 1 ص 123).

2 ـ المقام هو الحجر الصلد الذي وقف عليه خليل الله إبراهيم (ع) ليؤذن في الناس بالحج، وليعلن إليهم رسالة التوحيد، فأضحى ليناً ناعماً بين قدمي الخليل (ع)، حتى ترك أثرهما عليه واضحاً.

قال الإمام الباقر (ع): « إنّ الله جلّ جلاله لمّا أمر إبراهيم (ع) ينادي في الناس بالحج قام على المقام فارتفع به حتى صار بازاء أبي قبيس، فنادى في الناس بالحج فأسمع مَن في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى أن تقوم الساعة » (البحار: ج 96 ص 187).

وقال عبد الله بن سنان: سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله عز وجل: ﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَات ﴾ (آل عمران: 97)، فما هذه الآيات ؟

قال: « مقام إبراهيم حين قام عليه فأثر قدماه فيه، والحجر ومنزل إسماعيل» (تفسير نور الثقلين: ج 1 ص 367).

عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر (ع): قد أدركت الحسين (ع) ؟

قال: نعم، أذكر وأنا معه في المسجد الحرام وقد دخل فيه السيل والناس يقومون على المقام، يخرج الخارج يقول: قد ذهب به السيل! ويخرج منه الخارج فيقول: هو مكانه! قال: فقال لي: يا فلان ما صنع هؤلاء ؟ فقلت: أصلحك الله، يخافون أن يكون السيل قد ذهب بالمقام.

فقال: نادِ أنّ الله تعالى قد جعله عَلماً لم يكن ليذهب به، فاستقروا. وكان موضع المقام الذي وضعه إبراهيم (ع) عند جدار البيت، فلم يزل هناك حتى حوّله أهل الجاهلية إلى المكان الذي هو فيه اليوم، فلمّا فتح النبي (ع) مكة ردّه إلى الموضع الذي وضعه إبراهيم (ع)، فلم يزل هناك إلى أن ولي عمر بن الخطاب فسأل الناس: من منكم يعرف المكان الذي كان فيه المقام ؟ فقال رجل: أنا قد كنت مقداره بنسع (النسعة ـ بالكسر ـ: سير مضفور يجعل زماماً للبعير وغيره، وقد تنسج عريضة تجعل على صدر البعير)، فهو عندي، فقال: ائتني به فأتاه به فقاسه ثم رده إلى ذلك المكان (الكافي: ج 4 ص 223 ح 2).

3 ـ لقد كان إبراهيم خليل الله أمثولة الثناء الإلهي، والأب المبارك للأنبياء، والشيخ الجليل الذي عطّر الكتاب الإلهي بذكره سناً ورفعة، فورد ذكره في الكتاب العزيز في تسعة وستين موضعاً.

﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنا بِهِ عَالِمِينَ ﴾.

﴿ وَلَقَد اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإنهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصالِحِينَ ﴾.

﴿ وَكَذَلِكَ نُرِيَ إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ﴾.

﴿ وَاتخَذَ اللهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ﴾.

﴿ وَإبْرَاهِيمَ الذِي وَفّى ﴾.

﴿ إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أمةً قَانِتاً للهِ حَنِيفاً وَلَم يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ شَاكِراً لأِنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإنهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصالِحِينَ ﴾.

﴿ وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إبْرَاهِيمَ إنـهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً ﴾.

﴿ سَلاَمٌ عَلَى إبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ إنهُ مِنْ عِبَادِنَا المُؤْمِنِينَ ﴾.

﴿ وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأتَمهُن قَالَ إنِّي جَاعِلُكَ لِلناسِ إمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِيتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهدِي الظالِمِينَ ﴾.

لقد جسدت هذه الشخصية العظيمة في مطاوي الزمن روح التوحيد الإلهي بأبعادها العميقة، فغدت ملة يهتدي المهتدي في ربوعها، ويسمر المتجلي في عرفانها.

فحرر العقول الجامدة من الصنمية إلى التوجه إلى الحقائق العظيمة عبر مسيرة التوحيد الخالص لله الواحد الأحد عز اسمه وتقدست صفاته ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُم فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلةَ أبِيكُم إبْرَاهِيمَ هُـوَ سَماكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ﴾ (الحج: 78).

4 ـ لقد كان أثر إبراهيم (ع) مباركاً في المجتمع البشري، إذ إليه ينتهي دين التوحيد، وما هذه الآثار من العبادات في شريعة محمّد (ص) إلاّ من ذلك الأثر الإبراهيمي الحنيف، حيث إنّ محمّداً (ص) مأمور باتباع هذه الملة الإبراهيمية الحنيفة.

فالله عز وجل يخاطب حبيبه محمداً (ص): ﴿ ثُم أوحَيْنَا إلَيْكَ أنِ اتبِعْ مِلةَ إبرَاهِيمَ حَنيِفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾.

ويثني جلّ شأنه على التابعين لملة إبراهيم ﴿ وَمَنْ أحْسَنُ دِيناً مِمنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُو مُحْسِن وَاتبَعَ مِلةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ﴾.

5 ـ إنّ أعلى مصاديق التوحيد الإبراهيمي أن تم على يديه المباركتين بناء الصرح الإلهي في حرم الله الآمن ﴿ وَعَهِدْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وإسْمَاعِيلَ أنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكعِ السُّجُودِ ﴾.

والتطهير هو التنزيه عن كل ما ينافي حرمة البيت من جميع آثار الرجس والخبائث المعنوية كالكفر والشرك والإلحاد، أو الحسية كالنجاسات والقذارات وغيرهما، فلقد جاهد إبراهيم (ع) ضدّ الطاغوت وأولياء الشيطان، وصبر في إرساء الدين الخالص الذي جعله يثور على كل العلائق الصنمية الفاسدة.

6 ـ هذا الوفاء الإبراهيمي لله سبحانه وتعالى جعل من إبراهيم (ع) رمزاً خالداً لا يضيع في هباء الزمن، فركز الله عز وجل في قلوب الموحدين صرحاً حسياً يدل على وفاء هذا الشيخ الجليل إبراهيم ﴿ وَاتخِذُوا مِن مقَامِ إبرَاهِيمَ مُصَلّىً ﴾.

ولا شك أنّ عمق توحيدنا يتجلى في صلاتنا ذات العلاقة الروحية العميقة بين العبد ومعبوده، ولكي يحفظ الله تعالى لإبراهيم (ع) عناءه في إرساء تعاليم التوحيد الخالصة جعل المقام الخالد محلاً لمعراجنا إليه سبحانه وتعالى.

وقد اقتفى رسول الله (ص) نهج أبي الأنبياء إبراهيم (ع) في تطهير البيت العتيق، فأمر علياً فاقتلع الأصنام من جذورها، كما أمر عتاب بن أسيد أن يفتش الناس لكشف المنافقين وتطهير الحرم الآمن منهم (البحار: ج 21 ص 122).

التمنيات الإبراهيمية في تكامل المشروع الإلهي:

أ ـ الأمن والأمان: عندما عاش إبراهيم هذا الجوّ وهذا العهد انطلقت تمنياته وأحلامه لهذا المشروع الذي أكرمه الله ببنائه ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا ﴾ واجعله واحة سلام لا يقتل الناس فيه بعضهم بعضاً ولا يعتدي بعضهم فيه على بعض حتى أن الناس هناك لا يعتدون على الحيوان إذا لم يكن مؤذياً.

ب ـ الرزق الوفير: ﴿ وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ ﴾ لأنه قال في آية أخرى ﴿ إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ ﴾ وقد أراد إبراهيم لهذا البلد أن يقصده الناس ليطوّفوا به ويعتكفوا ويدعوا أن يرزقه الله من الثمرات التي تجذب الناس إليه حتى تتأمن تمثل شروط الحياة الطبيعية.

وهنا أيضاً يحدثنا الله عن إبراهيم بعد هذه الجملة المعترضة ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ ﴾ أي الأسس ﴿ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾...  فكأنهما عندما قاما ببناء هذا البيت تعبّدا إلى الله وتقرّبا إليه بهذا الجهد الذي بذلاه وأرادا من الله أن يتقبّل منهما ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ ﴾ أي: الذي تسمع دعاءنا ﴿ الْعَلِيمُ ﴾ أي: الذي تعلم ما نخفي في سرنا.

ج ـ الثبات على الإسلام: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ﴾ وهكذا نجد أنهما وهما المسلمان يريدان من الله سبحانه وتعالى أن يجعلهما مسلمين بمعنى أن يتحرك الإسلام في حياتهما إلى نهاية حياتهما فلا يعرض عليهما شيء يختلف عن خط الإسلام ﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ﴾ وهكذا هي المسألة التي نستوحيها من إبراهيم وإسماعيل وهي أنّ على الإنسان أن لا يفكر فقط في أن يكون هو مسلماً بل لا بد أن يفكر بامتداد الإسلام في ذريته لأنّ ذلك هو الدلالة على عمق الإسلام في شخصيته بحيث يصبح الإسلام طموحاً وهدفاً وغاية وليس مجرد شيء شخصي ولهذا قال: ﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ﴾.

د ـ إظهار الرسول الخاتم: ﴿ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ﴾ أي الفروض العبادية التي نعبدك فيها خطّط لنا يا رب فروض الحج ومناسك الحج ﴿ وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ وكانا يفكران ربما من خلال بعض الإيحاءات التي كانا يستوحيانها مما أنزله الله عليهما أنّ هناك رسولاً سيُبعث حتى يحمل الرسالة ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ وهذه هي التمنيات الإبراهيمية الإسماعيلية التي كانا يشرفان من خلالها على العهد الذي أرسل فيه رسوله وهو من ذرية إبراهيم وإسماعيل حيث انطلق ليتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وبذلك استجاب الله لإبراهيم (ع) كل ما طلبه مما يختص به وبذريته وبأهله وببلده وبالرسول.

لذلك اعتبر الله سبحانه وتعالى ملّة إبراهيم هي الملّة الأساسية التي خططت لكل الرسالات التي جاءت من بعده ولذلك أيضاً قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ لأنّ الله اصطفاه نبياً ورسولاً وإماماً وخليلاً وهو في الآخرة من الصالحين ﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ وهذا هو الإسلام العام الإسلام المطلق الذي يفرض على الإنسان عندما يقف أمام ربّه فعليه أن يسلم كله لربّه وأن لا يكون هناك شيء خارج إرادة ربّه.

ولم يقتصر إبراهيم (ع) في هذا على نفسه ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي ﴾ حيث كان بعض الناس يعبد الشمس وبعضهم يعبد القمر وبعضهم يعبد الكواكب والأصنام.

وقد أراد أن يطمئن قبل أن يموت على الخط الذي سينتهجونه وهذا درس رائع لكل مسلم فهو غالباً عندما يأتيه الموت يفكر كيف هي التركة وكيف يحرم فلاناً وكيف يعطي فلاناً فتراه مشغولاً في الدنيا التي سيفارقها كيف ينظمها والله قد نظمها بالإرث في حين لا يفكر هل أنّ أولاده سيكونون مسلمين صالحين من بعده أو لا فالله يريد أن يبيّن لنا هنا هذا الدرس ﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي ﴾ وقد ربيتكم على الإسلام وعلى الإيمان ﴿ قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

محرم 1447 في الصحافة الكويتية