الخميس، 29 مايو 2025


 

فلسفة الطواف

1 ـ يعيش الفرد المسلم حالات عبادته فرديّة أو جماعيّة، ولكنها لا تتعدى المنطقة التي يعيشها، وأمّا عبادة الطواف فهي مشاركة عالمية للمسلمين الوافدين من سائر أقطار العالم ليعبدوا الله عز وجل كأمّةٍ يتمثل فيها جميع الأعراف المختلفة لينطلق الجميع في عبادة عامة فيتذوقوا روحاً جديدة من العبادة ...

2 ـ إنّ هذا الطواف يكسبك لوناً جديداً من الحياة لم يألفها من قبل بهذه القوة والفاعلية. إنه ينتقل إلى طور جديد من الحياة أهم خصائصه غياب الفردية، وحضور الجماعة، بحيث لا ترى في المطاف أفراداً يتحركون، وإنما ترى كتلة بشرية واحدة من الناس تطوف حول البيت العتيق.

كل هذا ليتأكد عند الحاج الإحساس بالجماعة المسلمة، وبأنه عضو من جسم واحد، وليس فرداً من مجموعة إنسانية، وبأنّ هذه الأمة كيان واحد ومصير واحد، وما يصيبها من خير وشر يصيب الجميع.

3 ـ في الطواف يتسامى المسلمون كما يتسامى الملائكة المحدقون بعرش الله عزّ وجلّ. يقول أمير المؤمنين (ع): « واختار من خلقه سُمّاعاً أجابوا إليه دعوته، وصدّقوا كلمته، ووقفوا مواقف أنبيائه، وتشبهوا بملائكته المطيفين» (نهج البلاغة: خطبة 1).

ومن هذا التسامي والحضور يولد عنصر التعلق بعالم الغيب من خلال الشهود الملائكي وبين الصلاة التي هي قربان كل تقي، فيتم الإشباع المتوازن للحس والمعنى في هذا الحضور، وبهذا يتحقق أحد مقومات الشخصية المسلمة ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ﴾ (البقرة: 3).

4 ـ في الطواف يتجلى عشق الطائف لله عزّ وجلّ، كالعاشق الذي يطوف حول بيت محبوبه، وفي طوافه الإلهي تتساقط كل الأصنام مادية كانت أو معنوية، ولا يبقى إلاّ طواف القلب بالحضرة القدسية.

فأحضر قلبك في طوافك من التعظيم والخوف والرجاء والوَلَهِ، ولا تظن أنّ المقصود طواف جسمك بالبيت، بل المقصود طواف قلبك بذكر ربّ البيت، فقد ورد « الصلاة طواف ».

ورد عن الرسول الأكرم (ص) أنّه قال: «إنّ الله يباهي بالطائفين» (عوالي اللآلي: ج 1 ص 96 ح 8).

يقول أبان بن تغلب: كنت مع أبي عبد الله (ع) مزاملة فيما بين مكة والمدينة، فلمّا انتهى إلى الحرم نزل واغتسل وأخذ نعليه بيديه، ثم دخل الحرم حافياً، فصنعت مثل ما صنع. فقال: يا أبان، من صنع مثل ما رأيتني صنعتُ تواضعاً لله محا الله عنه مائة ألف سيئة، وكتب له مائة ألف حسنة، وبنى الله له مائة ألف درجة، وقضى له مائة ألف حاجة (وسائل الشيعة: ج 13 ص 195 أبواب مقدمات الطواف وما يتبعها ب 1 ح 1).

5 ـ إنّ الغاية من الطواف حول الكعبة هو الانتقال إلى المحور الإلهي، فإذا ما تخلص المحرم من محور الأنانية في حياته، فإنّ المحور الإلهي يجذبه جذباً قوياً، والطواف بعد الإحرام رمز لذلك. فإنّ الإحرام من الميقات يرمز إلى التحرر من الأنا، والطواف حول البيت يرمز إلى الانجذاب إلى الله تعالى، والحركة حول المحور الإلهي في الحياة.

فحركة الطواف تعبير عن توحيد العبودية لله، وتوحيد الحب والولاء ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ (الأنعام: 162 ـ 163).

ما هو المقصود من التوحيد في العبادة؟

التوحيد العملي، وهو التوحيد الذي يعبر عنه العلماء بـ (التوحيد في العبادة): هو نوع من الحياة ونوع من الوجود بإيصال الإنسان إلى الكمال. أي أنّ الإنسان يعتبر موحداً ما دام يمر في مرحلة التصور، غير أنه لا يعتبر موحداً كاملاً، بل لا يعتبر موحداً حقيقياً إلا إذا كان موحداً في مرحلة الحياة ومرحلة الوجود.

يقول الإمام زين العابدين (ع): « اَللّهُمَّ وَاجْعَلْني مِنْ أَهْلِ التَّوْحيدِ وَالإيمانِ بِكَ ».

ويقول أيضاً: « وَوَسيلَتي إِلَيْكَ التَّوْحيدُ ».

ويقول أيضاً: « وَدَلَّنا عَلَيْهِ مِنَ الإخْلاصِ لَهُ في تَوْحيدِهِ ».

ولذا نجد في خطبة السيدة الزهراء (ع) الرائعة التعبير المهم التالي: « أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمن القلب موصولها، وأنار في التفكر معقولها ».

حيث تبين الزهراء (عليها السلام) في شهادتها هذه، اعتقادها بالتوحيد النظري، ولكنها ومن أجل أن توضح بأنّ التوحيد النظري غير منفصل عن التوحيد العملي في الإسلام، تقول: « كلمة جعل الإخلاص تأويلها ».

وحسب التعبير القرآني، فإنّ التأويل يعني المآل. والشيء الذي تكون عودته ونهايته بل وحقيقته عائدة له يعتبر تأويلاً لتلك الحقيقة.

وهذه الجملة تبين بأنّ التوحيد النظري إذا كان توحيداً نظرياً محضاً، أي إذا لم يتعد مرحلة الفكر والمرحلة النظرية إلى المرحلة العملية، وتوقف في مرحلة التصور ولم يتحقق في مرحلة حياة الإنسان، فإنه لا يعتبر توحيداً حقيقياً من وجهة نظر الإسلام.

ولذلك نطلق على أمير المؤمنين (ع) لقب (إمام الموحدين) أي إمام من تجاوز بتوحيدهم مرحلة الفكر والخيال والتصور إلى مرحلة العمل والإخلاص.

فقد يوجد أناس يكونون موجودات مشركة! وعبيداً لألف شيء وألف شخص، ومع ذلك يكونون موحدين من ناحية التصور، ويثبتون وجود الله بأدلة جيدة. فهل يعتبر هؤلاء موحدين من وجهة نظر الإسلام ؟

نقول بصورة مختصرة إسلامية: إنّ (الله) في التصور والفكر إنما هو مقدمة لـ (الله) في الحياة والوجود.

فمثل الموحد من الناحية النفسية، كمثل الشخص الذي يسلِّم أمره لشخص ومقام واحد، وتسيطر على وجوده قوة واحدة .. أما المشرك، فلا تتوفر وحدة وتجانس وتناسق في شخصيته، ويستحوذ على نفسيته عدة شركاء ومالكين، يشتركون في وجوده، وهؤلاء الشركاء لهم طبائع وأخلاق متنافسة فيما بينهم.

ويقول تعالى: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ﴾ (الزمر: 29). فتظهر على الإنسان صفة تعدد الشركاء بصورة جبرية عندما لا يتحكم الإيمان بالله والتوحيد وعبادة الله والتوحيد العملي في حياته ؟

ومن يتصور أنّ بإمكان الإنسان أن يتحرر من كل شيء هو على خطأ. إذ أنّ تحرر الإنسان من كل شيء يعني موته، ذلك أنّ هناك تحرراً من الهدف، ومن المسؤولية، ومن التعهد والالتزام .. فإذا أراد الإنسان أن يكون إنساناً فلا بد أن يحمل هدفاً، وأن حمله الهدف يعني خضوعه له لأنه سيحكم وجوده.

فالقرآن يبين بأنّ هناك إنسانين: إنساناً يتحكم فيه شركاء متشاكسون، وآخر له مالك واحد حكيم، وهذا الحكيم لا يتفق مع غيره فحسب، بل يتفق مع مملوكه أيضاً. فلاحظوا مدى الفرق بين هذين الإنسانين.

ولذا يقول زين العابدين: « وَلا تَرُدَّني صِفْراً مِمّا يَنْقَلِبُ بِهِ الْمُتَعَبِّدُونَ لكَ مِنْ عِبادِكَ، وَإِنّي وَإِنْ لَمْ أُقَدِّمْ ما قَدَّمُوهُ مِنَ الصّالِحاتِ، فَقَدْ قَدَّمْتُ تَوْحيدَكَ، وَنَفْيَ الأضْدادِ وَالأنْدادِ وَالأشْباهِ عَنْكَ، وَأَتَيْتُكَ مِنَ الأبْوابِ الَّتي أَمَرْتَ أَنْ تُؤْتى مِنْها، وَتَقَرَّبْتُ إِلَيْكَ بِما لا يَقْرُبُ بِهِ أَحَدٌ مِنْكَ إِلاّ بِالتَّقَرُّبِ بِهِ، ثُمَّ أَتْبَعْتُ ذلِكَ بِالإنابَةِ إِلَيْكَ، وَالتَّذَلُّلِ وَالاِْسْتِكانَةِ لَكَ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِكَ، وَالثِّقَةِ بِما عِنْدَكَ، وَشَفَعْتُهُ بِرَجائِكَ الَّذي قَلَّ ما يَخيبُ عَلَيْهِ راجيكَ، وَ سَأَلْتُكَ مَسْأَلَةَ الْحَقيرِ الذَّليلِ، الْبائِس الْفَقيرِ، الْخائِفِ الْمُسْتَجيرِ، وَمَعَ ذلِكَ خيفةً وَتَضَرُّعاً، وَتَعَوُّذاً وَتَلَوُّذاً، لا مُسْتَطيلاً بِتَكَبُّرِ الْمُتَكَبِّرينَ، وَلا مُتعالِياً بِدالَّةِ الْمُطيعينَ، وَلا مُسْتَطيلاً بِشَفاعَةِ الشّافِعينَ، وَأَنَا بَعْدُ أَقَلُّ الأقَلّينَ، وَأَذَلُّ الأذَلّينَ، وَمِثْلُ الذَّرَّةِ أَوْ دُونَها ».

ومن خلال ما تقدم في حركة الطواف نخلص إلى ثلاث ركائز:

1 ـ المنطلق: وهو تجاوز الإنسان لمرحلة الأنا والذات ويتعمق ذلك في صورة الإحرام في الميقات.

2 ـ الغاية: وهي الحركة إلى الله وتوحيده عز وجل، ويتعمق ذلك في صورة الطواف حول البيت العتيق.

3 ـ الوسيلة: بحيث لا يصل الإنسان إلى الغاية إلا بها، ويتعمق ذلك عبر الانصهار في الجماعة المسلمة.


 

فلسفة الصلاة ومقام إبراهيم

1 ـ ليس الملفت للنظر هو تشريع الصلاة بعد الطواف، فهي خير موضوع، ومعراج المؤمن، وقربان كل تقي. ولكن الملفت للنظر هو التحديد المكاني لإقامة هذه الصلاة، فلا يصح أن تؤتى إلاّ في المكان الذي خلّد الله فيه اسم خليله إبراهيم (ع).

قال الله تعالى: ﴿ وَاتخِذُوا مِن مقَامِ إبرَاهِيمَ مُصَلّىً ﴾ (البقرة: 125).

وقال الإمام الصادق (ع): « إذا فرغت من طوافك فأتِ مقام إبراهيم (ع) فصل ركعتين واجعله إماماً » (وسائل الشيعة: ج 13 ص 423 أبواب الطواف ب 71 ح 3).

وقال (ع): «ليس لأحد أن يصلي ركعتي طواف الفريضة إلاّ خلف المقام» (تفسير نور الثقلين: ج 1 ص 123).

2 ـ المقام هو الحجر الصلد الذي وقف عليه خليل الله إبراهيم (ع) ليؤذن في الناس بالحج، وليعلن إليهم رسالة التوحيد، فأضحى ليناً ناعماً بين قدمي الخليل (ع)، حتى ترك أثرهما عليه واضحاً.

قال الإمام الباقر (ع): « إنّ الله جلّ جلاله لمّا أمر إبراهيم (ع) ينادي في الناس بالحج قام على المقام فارتفع به حتى صار بازاء أبي قبيس، فنادى في الناس بالحج فأسمع مَن في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى أن تقوم الساعة » (البحار: ج 96 ص 187).

وقال عبد الله بن سنان: سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله عز وجل: ﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَات ﴾ (آل عمران: 97)، فما هذه الآيات ؟

قال: « مقام إبراهيم حين قام عليه فأثر قدماه فيه، والحجر ومنزل إسماعيل» (تفسير نور الثقلين: ج 1 ص 367).

عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر (ع): قد أدركت الحسين (ع) ؟

قال: نعم، أذكر وأنا معه في المسجد الحرام وقد دخل فيه السيل والناس يقومون على المقام، يخرج الخارج يقول: قد ذهب به السيل! ويخرج منه الخارج فيقول: هو مكانه! قال: فقال لي: يا فلان ما صنع هؤلاء ؟ فقلت: أصلحك الله، يخافون أن يكون السيل قد ذهب بالمقام.

فقال: نادِ أنّ الله تعالى قد جعله عَلماً لم يكن ليذهب به، فاستقروا. وكان موضع المقام الذي وضعه إبراهيم (ع) عند جدار البيت، فلم يزل هناك حتى حوّله أهل الجاهلية إلى المكان الذي هو فيه اليوم، فلمّا فتح النبي (ع) مكة ردّه إلى الموضع الذي وضعه إبراهيم (ع)، فلم يزل هناك إلى أن ولي عمر بن الخطاب فسأل الناس: من منكم يعرف المكان الذي كان فيه المقام ؟ فقال رجل: أنا قد كنت مقداره بنسع (النسعة ـ بالكسر ـ: سير مضفور يجعل زماماً للبعير وغيره، وقد تنسج عريضة تجعل على صدر البعير)، فهو عندي، فقال: ائتني به فأتاه به فقاسه ثم رده إلى ذلك المكان (الكافي: ج 4 ص 223 ح 2).

3 ـ لقد كان إبراهيم خليل الله أمثولة الثناء الإلهي، والأب المبارك للأنبياء، والشيخ الجليل الذي عطّر الكتاب الإلهي بذكره سناً ورفعة، فورد ذكره في الكتاب العزيز في تسعة وستين موضعاً.

﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنا بِهِ عَالِمِينَ ﴾.

﴿ وَلَقَد اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإنهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصالِحِينَ ﴾.

﴿ وَكَذَلِكَ نُرِيَ إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ﴾.

﴿ وَاتخَذَ اللهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ﴾.

﴿ وَإبْرَاهِيمَ الذِي وَفّى ﴾.

﴿ إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أمةً قَانِتاً للهِ حَنِيفاً وَلَم يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ شَاكِراً لأِنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإنهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصالِحِينَ ﴾.

﴿ وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إبْرَاهِيمَ إنـهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً ﴾.

﴿ سَلاَمٌ عَلَى إبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ إنهُ مِنْ عِبَادِنَا المُؤْمِنِينَ ﴾.

﴿ وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأتَمهُن قَالَ إنِّي جَاعِلُكَ لِلناسِ إمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِيتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهدِي الظالِمِينَ ﴾.

لقد جسدت هذه الشخصية العظيمة في مطاوي الزمن روح التوحيد الإلهي بأبعادها العميقة، فغدت ملة يهتدي المهتدي في ربوعها، ويسمر المتجلي في عرفانها.

فحرر العقول الجامدة من الصنمية إلى التوجه إلى الحقائق العظيمة عبر مسيرة التوحيد الخالص لله الواحد الأحد عز اسمه وتقدست صفاته ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُم فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلةَ أبِيكُم إبْرَاهِيمَ هُـوَ سَماكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ﴾ (الحج: 78).

4 ـ لقد كان أثر إبراهيم (ع) مباركاً في المجتمع البشري، إذ إليه ينتهي دين التوحيد، وما هذه الآثار من العبادات في شريعة محمّد (ص) إلاّ من ذلك الأثر الإبراهيمي الحنيف، حيث إنّ محمّداً (ص) مأمور باتباع هذه الملة الإبراهيمية الحنيفة.

فالله عز وجل يخاطب حبيبه محمداً (ص): ﴿ ثُم أوحَيْنَا إلَيْكَ أنِ اتبِعْ مِلةَ إبرَاهِيمَ حَنيِفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾.

ويثني جلّ شأنه على التابعين لملة إبراهيم ﴿ وَمَنْ أحْسَنُ دِيناً مِمنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُو مُحْسِن وَاتبَعَ مِلةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ﴾.

5 ـ إنّ أعلى مصاديق التوحيد الإبراهيمي أن تم على يديه المباركتين بناء الصرح الإلهي في حرم الله الآمن ﴿ وَعَهِدْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وإسْمَاعِيلَ أنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكعِ السُّجُودِ ﴾.

والتطهير هو التنزيه عن كل ما ينافي حرمة البيت من جميع آثار الرجس والخبائث المعنوية كالكفر والشرك والإلحاد، أو الحسية كالنجاسات والقذارات وغيرهما، فلقد جاهد إبراهيم (ع) ضدّ الطاغوت وأولياء الشيطان، وصبر في إرساء الدين الخالص الذي جعله يثور على كل العلائق الصنمية الفاسدة.

6 ـ هذا الوفاء الإبراهيمي لله سبحانه وتعالى جعل من إبراهيم (ع) رمزاً خالداً لا يضيع في هباء الزمن، فركز الله عز وجل في قلوب الموحدين صرحاً حسياً يدل على وفاء هذا الشيخ الجليل إبراهيم ﴿ وَاتخِذُوا مِن مقَامِ إبرَاهِيمَ مُصَلّىً ﴾.

ولا شك أنّ عمق توحيدنا يتجلى في صلاتنا ذات العلاقة الروحية العميقة بين العبد ومعبوده، ولكي يحفظ الله تعالى لإبراهيم (ع) عناءه في إرساء تعاليم التوحيد الخالصة جعل المقام الخالد محلاً لمعراجنا إليه سبحانه وتعالى.

وقد اقتفى رسول الله (ص) نهج أبي الأنبياء إبراهيم (ع) في تطهير البيت العتيق، فأمر علياً فاقتلع الأصنام من جذورها، كما أمر عتاب بن أسيد أن يفتش الناس لكشف المنافقين وتطهير الحرم الآمن منهم (البحار: ج 21 ص 122).

التمنيات الإبراهيمية في تكامل المشروع الإلهي:

أ ـ الأمن والأمان: عندما عاش إبراهيم هذا الجوّ وهذا العهد انطلقت تمنياته وأحلامه لهذا المشروع الذي أكرمه الله ببنائه ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا ﴾ واجعله واحة سلام لا يقتل الناس فيه بعضهم بعضاً ولا يعتدي بعضهم فيه على بعض حتى أن الناس هناك لا يعتدون على الحيوان إذا لم يكن مؤذياً.

ب ـ الرزق الوفير: ﴿ وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ ﴾ لأنه قال في آية أخرى ﴿ إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ ﴾ وقد أراد إبراهيم لهذا البلد أن يقصده الناس ليطوّفوا به ويعتكفوا ويدعوا أن يرزقه الله من الثمرات التي تجذب الناس إليه حتى تتأمن تمثل شروط الحياة الطبيعية.

وهنا أيضاً يحدثنا الله عن إبراهيم بعد هذه الجملة المعترضة ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ ﴾ أي الأسس ﴿ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾...  فكأنهما عندما قاما ببناء هذا البيت تعبّدا إلى الله وتقرّبا إليه بهذا الجهد الذي بذلاه وأرادا من الله أن يتقبّل منهما ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ ﴾ أي: الذي تسمع دعاءنا ﴿ الْعَلِيمُ ﴾ أي: الذي تعلم ما نخفي في سرنا.

ج ـ الثبات على الإسلام: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ﴾ وهكذا نجد أنهما وهما المسلمان يريدان من الله سبحانه وتعالى أن يجعلهما مسلمين بمعنى أن يتحرك الإسلام في حياتهما إلى نهاية حياتهما فلا يعرض عليهما شيء يختلف عن خط الإسلام ﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ﴾ وهكذا هي المسألة التي نستوحيها من إبراهيم وإسماعيل وهي أنّ على الإنسان أن لا يفكر فقط في أن يكون هو مسلماً بل لا بد أن يفكر بامتداد الإسلام في ذريته لأنّ ذلك هو الدلالة على عمق الإسلام في شخصيته بحيث يصبح الإسلام طموحاً وهدفاً وغاية وليس مجرد شيء شخصي ولهذا قال: ﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ﴾.

د ـ إظهار الرسول الخاتم: ﴿ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ﴾ أي الفروض العبادية التي نعبدك فيها خطّط لنا يا رب فروض الحج ومناسك الحج ﴿ وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ وكانا يفكران ربما من خلال بعض الإيحاءات التي كانا يستوحيانها مما أنزله الله عليهما أنّ هناك رسولاً سيُبعث حتى يحمل الرسالة ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ وهذه هي التمنيات الإبراهيمية الإسماعيلية التي كانا يشرفان من خلالها على العهد الذي أرسل فيه رسوله وهو من ذرية إبراهيم وإسماعيل حيث انطلق ليتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وبذلك استجاب الله لإبراهيم (ع) كل ما طلبه مما يختص به وبذريته وبأهله وببلده وبالرسول.

لذلك اعتبر الله سبحانه وتعالى ملّة إبراهيم هي الملّة الأساسية التي خططت لكل الرسالات التي جاءت من بعده ولذلك أيضاً قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ لأنّ الله اصطفاه نبياً ورسولاً وإماماً وخليلاً وهو في الآخرة من الصالحين ﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ وهذا هو الإسلام العام الإسلام المطلق الذي يفرض على الإنسان عندما يقف أمام ربّه فعليه أن يسلم كله لربّه وأن لا يكون هناك شيء خارج إرادة ربّه.

ولم يقتصر إبراهيم (ع) في هذا على نفسه ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي ﴾ حيث كان بعض الناس يعبد الشمس وبعضهم يعبد القمر وبعضهم يعبد الكواكب والأصنام.

وقد أراد أن يطمئن قبل أن يموت على الخط الذي سينتهجونه وهذا درس رائع لكل مسلم فهو غالباً عندما يأتيه الموت يفكر كيف هي التركة وكيف يحرم فلاناً وكيف يعطي فلاناً فتراه مشغولاً في الدنيا التي سيفارقها كيف ينظمها والله قد نظمها بالإرث في حين لا يفكر هل أنّ أولاده سيكونون مسلمين صالحين من بعده أو لا فالله يريد أن يبيّن لنا هنا هذا الدرس ﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي ﴾ وقد ربيتكم على الإسلام وعلى الإيمان ﴿ قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾.

الثلاثاء، 27 مايو 2025


 

فلسفة الركن اليماني والمستجار والملتزم

` الركن اليماني:

ويظهر من الأخبار أنّ الركن اليماني له منزلة خاصة عند الأئمة (عليهم السلام)، وأنّ هذا الركن " باب من أبواب الجنة لم يغلقه الله منذ فتحه " (الكافي: ج 4 ص 403 ب 123 ح 13)..

وفي تعبير آخر: " بابنا إلى الجنة الذي منه ندخل " (الكافي: ج 4 ص 403 ب 123 ح 13).

وإنّ هذا الركن له اختصاص بالأئمة وشيعتهم، يقول الإمام الصادق (ع): "الركن اليماني على باب من أبواب الجنّة، مفتوح لشيعة آل محمّد مسدود عن غيرهم، وما مؤمن يدعو بدعاء عنده إلاّ صعد دعاؤه حتى يلصق بالعرش ما بينه وبين الله حجاب" (الكافي: ج 4 ص 403 ب 123 ح 13).

وفي فقه الرضا (ع): " فإذا بلغت الركن اليماني فاستلمه، فإنّ فيه باباً من أبواب الجنة لم يُغلق منذ فُتح، وتشير منه إلى زاوية المسجد مقابل هذا الركن وتقول: أصلي عليك يا رسول الله " (فقه الرضا: ص 27).

ولقد اكتسى هذا المكان شرفاً حيث " دفن ما بين الركن اليماني والحجر الأسود سبعون نبياً " (الكافي: ج 4 ص 213 ب 8 ح 10).

يقول معاوية بن عمار: رأيت العبد الصالح -يقصد الإمام الكاظم (ع)- (ع) دخل الكعبة فصلّى ركعتين على الرخامة الحمراء، ثم قام فاستقبل الحائط بين الركن اليماني والغربي فوقع يده عليه ولزق به ودعا، ثم تحوّل إلى الركن اليماني فلصق به ودعا، ثم أتى الركن الغربي، ثم خرج (الكافي: ج 4 ص 529 ح 5).

ويقول الباقر (ع): " كان رسول الله (ص) لا يستلم إلا الركن الأسود واليماني، ثم يقبلهما ويضع خده عليهما، ورأيت أبي يفعله " (الكافي: ج 4 ص 408 ح 8).

ويقول الربيع بن خيثم: شهدت أبا عبد الله (ع) وهو يطاف به حول الكعبة في محمل وهو شديد المرض، فكان كلما بلغ الركن اليماني أمرهم فوضعوه بالأرض، فأخرج يده من كوّة المحمل حتى يجرّها على الأرض، ثم يقول: "ارفعوني". فلمّا فعل ذلك مراراً في كل شوط قلت له: جعلت فداك يا ابن رسول الله، إنّ هذا يشق عليك!

فقال: "إني سمعت الله عز وجل يقول: ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾".

فقلت: منافع الدنيا أو منافع الآخرة ؟

فقال : "الكل" (الكافي: ج 4 ص 422 ح 1).

` المستجار:

وهو الباب الغربي في ظهر الكعبة، الذي قد بناه إبراهيم (ع)، وهدمته قريش حينما جددت بناءها. ومكان هذا الباب قريب من الملتزم، وتتحد آدابه وخصائصه معه، وهو السبب في اتحاد الملتزم والمستجار في ألسنة المحدّثين والفقهاء.

يقول الإمام الصادق (ع): " إذا فرغت من طوافك وبلغت مؤخّر الكعبة وهو بحذاء المستجار دون الركن اليماني بقليل فابسط يديك على البيت، والصق بدنك (بطنك) وخدّك بالبيت وقل: اللَّهُمَّ الْبَيْتُ بَيْتُكَ وَالْعَبْدُ عَبْدُكَ وَهَذَا مَكَانُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ النَّارِ، ثم أقرّ لربك بما عملت، فإنّه ليس من عبد مؤمن يقرّ لربه بذنوبه في هذا المكان إلاّ غفر الله له إن شاء الله؛ فإنّ أبا عبد الله (ع) قال لغلمانه: أميطوا عني حتى اُقرّ لربي بما عملت: اللَّهُمَّ مِنْ قِبَلِكَ الرَّوْحُ وَالْفَرَجُ وَالْعَافِيَةُ، اللَّهُمَّ إِنَّ عَمَلِي ضَعِيفٌ فَضَاعِفْهُ لِي، وَاغْفِرْ لِي مَا اطَّلَعْتَ عَلَيْهِ مِنِّي، وَخَفِيَ عَلَى خَلْقِكَ. وتستجير بالله من النار وتختار لنفسك من الدعاء " (الكافي: ج 4 ص 405 ب 124 ح 5).

يقول الإمام الصادق (ع) ـ في حديث ـ: "فإذا انتهيت إلى مؤخّر الكعبة وهو المستجار دون الركن اليماني بقليل " (وسائل الشيعة: ج 13 ص 347 أبواب الطواف ب 26 ح 9).

ويسمى المستجار أيضاً بالمتعوذ، يقول الإمام الصادق (ع): " إذا كنت في الطواف السابع فأتِ المتعوّذ، وهو إذا قمت في دبر الكعبة حذاء الباب " (م.س: ج 13 ص 344 أبواب الطواف ب 26 ح 1).

` الملتزم:

الذي يظهر من النصوص الشرعية أنّ الملتزم والمستجار موضعان، وليس موضعاً واحداً (وسائل الشيعة: ج 13 ص 344 ـ 349 أبواب الطواف ب 26 ح 4، 5، 6، 9، 10).

وربما يسمى الحطيم أيضاً، قال الإمام الصادق (ع): " إن تهيأ لك أن تصلي صلاتك كلها الفرائض وغيرها عند الحطيم فافعل، فإنّه أفضل بقعة على وجه الأرض، والحطيم ما بين باب البيت والحجر الأسود، وهو الموضع الذي تاب الله فيه على آدم " (م.س: ج 5 ص 275 أبواب أحكام المساجد ب 53 ح 7).

وفي بعض الروايات أنّ المكان الذي أقرّ آدم بتوبته هو الملتزم، يقول الإمام الصادق (ع): " لما طاف آدم بالبيت وانتهى إلى الملتزم قال له جبرئيل: يا آدم أقرّ لربك بذنوبك في هذا المكان ـ إلى أن قال: ـ فأوحى الله إليه يا آدم قد غفرت لك ذنبك " (م.س: ج 13 ص 346 أبواب الطواف ب 26 ح 6).

ويقول معاوية بن عمّار: سألت أبا عبد الله (ع) عن الحطيم ؟

فقال: " ما بين الحجر الأسود وبين الباب ".

وسألته لم سميّ الحطيم؟

فقال: " لأنّ الناس يحطم بعضهم بعضاً هناك " (م.س: ج 5 ص 274 أبواب أحكام المساجد ب 53 ح 6).

يقول الإمام الصادق (ع): " إنّ علي بن الحسين (ع) إذا أتى الملتزم قال: اللهم إنّ عندي أفواجاً من ذنوب، وأفواجاً من خطايا، وعندك أفواج من رحمة، وأفواج من مغفرة، يا من استجـاب لأبغض خلقه إليه إذ قال ﴿ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ استجب لي " (بحار الأنوار: ج 96 ص 196).

يقول معاوية بن عمّار: أنّه ـ أي الإمام الصادق (ع) ـ كان إذا انتهى إلى الملتزم قال لمواليه: " أميطوا عني حتى أقرّ لربي بذنوبي في هذا المكان، فإنّ هذا مكان لم يقر عبد لربه بذنوبه ثم استغفر إلاّ غفر الله له " (وسائل الشيعة: ج 13 ص 346 أبواب الطواف ب 26 ح 5).

ويقول عبد الله بن المغيرة: كنت واقفياً، وحججت على ذلك، فلمّا صرت بمكة اختلج في صدري شيء، فتعلقت بالملتزم، ثم قلت: اللهم قد علمت طلبتي وإرادتي فأرشدني إلى خير الأديان، فوقع في نفسي أن آتي الرضا (ع)، فأتيت المدينة، فوقفت ببابه فقلت للغلام: قل لمولاك رجل من أهل العراق بالباب، فسمعت نداءه (ع) وهو يقول: " ادخل يا عبد الله بن المغيرة "، فدخلت، فلمّا نظر إليّ فقال: " قد أجاب الله دعوتك وهداك لدينه "، فقلت: أشهد أنـّك حجة الله وأمين الله على خلقه (بحار الأنوار: ج 49 ص 39).

واخلص نيتك أيها الحاج -في هذا المكان- لطلب القرب حباً وشوقاً للبيت ولرب البيت وتبركاً بالمماسة، ورجاء للتحصن عن النار، وليكن تعلقك بالستر هو تعلق المُلِحّ في طلب المغفرة وسؤال الأمان، كالمذنب المتعلق بثوب من أذنب إليه وأنه لا يفارق ذيله إلاّ بالعفو وبذل الطاعة في المستقبل.

الاثنين، 26 مايو 2025


 

فلسفة الحجر الأسود

 

( 1 ) ـ وردت روايات عديدة تنطق بأنّ هذا الحجر من حجر الجنة، نزل به جبرئيل (ع) " وكان أشدّ بياضاً من اللبن فاسودّ من خطايا بني آدم، ولولا ما مسّه من أرجاس الجاهلية ما مسّه ذو عاهة إلا برئ " (وسائل الشيعة: ج 13 ص 318 أبواب الطواف ب 12 ح 6).

 

وفي ذلك يقظة إلى أصحاب القلوب الواعية، فإنّ هذا الحجر هو جوهر علوي لما خرج من معدنه الأصلي الطاهر، وهبط إلى عالم الطبيعة ولامسته أيدي البشر تأثر من توارد تلك الأيدي عليه وتغير بياضه إلى سواد مع أنـّه حجر صلب.

 

فكيف بقلب الإنسان وهو لطيفة ربانية، ونور إلهي، ومرآة للملكوت ألطف بمراتب من هذه الأحجار فإنّه يتأثر لا محالة من توارد الذنوب والمعاصي عليه، فينقلب نوره ظلمة، وبياضه سواداً.

 

يقول الإمام الباقر (ع): " ما من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، فإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض، فإذا أعطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً، وهو قول الله عز وجل ﴿ كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَا كانُوا يكْسِبُونَ ﴾" (البحار: ج 70 ص 332).

 

( 2)  ـ جاء في بعض الروايات أن الحجر الأسود " يمين الله عز وجل في أرضه يبايع بها خلقه " (وسائل الشيعة: ج 13 ص 320 أبواب الطواف ب 12 ح 13)، وأنّ الله يبعثه "يوم القيامة وله لسان وشفتان، فيشهد لمن وافاه " (وسائل الشيعة: ج 13 ص 320 أبواب الطواف ب 12 ح 13)، فهو تاريخ شاهد على استلام الأنبياء العظام والأولياء الكرام له.

 

يقول الإمام الصادق (ع): " إذا دنوت من الحجر الأسود فارفع يديك، واحمد الله، وأثن عليه، وصلّ على النبي (ص)، واسأل الله أن يتقبل منك، ثم استلم الحجر وقبّله، فإن لم تستطع أن تقبّله فاستلمه بيدك، فإن لم تستطع أن تستلمه بيدك فأشر إليه، وقل: اللهم أمانتي أديتها، وميثاقي تعاهدته، لتشهد لي بالموافاة ... " (وسائل الشيعة: ج 13 ص 313 أبواب الطواف ب 12 ح 1).

 

فاستلامنا للحجر الأسود ووضع اليد عليه يعد نوعاً من عقد البيعة مع الله على ما جاء به نبي الله إبراهيم (ع) من محاربة مظاهر الشرك وعبادة الأوثان، فنكون أعداء لأعداء الله ورسوله والصالحين.

 

وإنّ طريقة هذه البيعة وهذا الاستلام مثل مبايعة الرسول الأكرم (ص) لنساء قريش على الإسلام.

 

لما فتح رسول الله (ص) مكة بايع الرجال ثم جاء النساء يبايعنه، فأنزل الله عز وجل: ﴿ يَا أيهَا النبِيُّ إذا جَاءك المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أن لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً ولاَ يَسْرِقْنَ.. ﴾ (الممتحنة: 12).

فقالت ـ أي هند ـ: يا رسول الله كيف نبايعك ؟

قال: « إنـّني لا اُصافح النساء ».

فدعا بقدح من ماء فأدخل يده ثم أخرجها، فقال: « أدخلن أيديكن في هذا الماء فهي البيعة » (الكافي: ج 5 ص 526 ب 167 ح 5).

 

( 3 ) ـ قال أمير المؤمنين (ع) في بعض خطبه: " ألا ترون أنّ الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم صلوات الله عليه، إلى الآخرين من هذا العالم؛ بأحجار لا تضرّ ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً ... " (نهج البلاغة: خطبة 190).

 

فإنّ هذا الوصف العلوي يعني به أحجار الكعبة دون الحجر الأسود، لما ورد من الروايات الكثيرة من أنـّه يمتلك خصائص كبيرة



الخميس، 22 مايو 2025


 

البعد الروحي والتربوي للحج

 

الحج أصلها القصد، ولهذا سميت الجادة بالمحجة لأنـّها توصل سالكها إلى المقصد، وكذلك سمي الدليل بالحجة لأنـّه يوضح المقصود.

ومن هنا نعرف وجه تسمية هذه المناسك الخاصة بـ ( الحج ) لأنّ قاصد هذه المناسك يقصد زيارة بيت الله، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ﴾ (آل عمران: 97).

 

وقد وردت كلمة ( الحج ) في عشرة مواضع من القرآن الكريم (أنظر: البقرة: 189، 196، 197، آل عمران: 97، التوبة: 3، الحج: 27)، وفي كل موضع يبيّن الله سبحانه رافداً مهماً من أحكام هذه الشعيرة المقدسة..

 

( 1 ) - للعبادات الإسلامية المفروضة غايات سامية في تقويم وتربية وتهذيب وإصلاح الإنسان المسلم، وإلى ذلك تشير عدة آيات قرآنية، ومنها:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ (البقرة: 183).

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ  ﴾ (التوبة: 103).

﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ (العنكبوت: 45).

 

والحج نبع حركي لهذه الغايات السامية والتي من مظاهرها:

 

ـ  حرمة الجدال في الحج، فتُربّي الإنسان على تجاوز الذات وعدم اندفاعات النفس إلى رغباتها.

ـ  بذل الجهد والمال، وفيه عنوان بارز لعملية الإيثار وكسر الأنانية في النفس.

ـ  بذل الإضحية وما تحويه من إحساس بالمسؤولية وتمرين النفس على الانضباط الدقيق أمام الحق ورقابته الغيبية، يقول تعالى: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ﴾ (الحج: 37).

ـ  مراسم الإحرام، حيث تبعد الإنسان بشكل تام عن المتعلقات المادية والامتيازات الجوفاء، وتطلقه إلى عالم الصفاء في سياحة روحية.

 

( 2 ) ـ  في الحج مواقف رسالية أجراها الله تبارك وتعالى على لسان الصفوة من أنبيائه ورسله وأصفيائه، مما تجعل من هذه الفريضة عبادة مهمة لبناء الإنسان فتثير فيه الاهتمام الكبير بمواقف الأنبياء والمرسلين السابقين: وما تشحنه هذه المواقف من معنويات شاخصة وخاصة في شخصي إبراهيم الخليل (ع) ومحمّد المصطفى (ص)، وما بذلاه من جهود وتضحيات شاقة لإسقاط الصنمية السائدة في وعي المجتمع الجاهلي من خلال ترسيخ جذور التوحيد الإلهي الأصيل، التي نادى بها إبراهيم من قبل، وثبّتها من بعده النبي محمّد (ص) وقاسى من أجلها المحن العظمى.

فتكون هذه المشخصات منطلقاً وتمهيداً لثورة روحية على الأوضاع التي جذّرها أذناب الاستعمار في أذهان المسلمين، فـ " يخرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمه " (بحار الأنوار: ج 99 ص 26).

 

( 3 ) ـ  قصة وعبرة:

قال طاووس اليماني: رأيت رجلاً يصلي في المسجد الحرام تحت الميزاب يدعو ويبكي في دعائه، فجئته حين فرغ من الصلاة، فإذا هو علي بن الحسين C، فقلت: يا ابن رسول الله رأيتك على حالة كذا، ولك ثلاثة أرجو أن تؤمنك من الخوف، أحدها: إنك ابن رسول الله، والثاني: شفاعة جدك، والثالث: رحمة الله.

فقال (ع): « يا طاووس: أما إنّي ابن رسول الله (ص) فلا يؤمنني، وقد سمعت الله تعالى يقول: ﴿ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ﴾ (المؤمنون: 101)، وأمّا شفاعة جدي فلا تؤمنني، لأنّ الله تعالى يقول: ﴿ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى (الأنبياء: 28). وأما رحمة الله فإنّ الله تعالى يقول: ﴿ إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ (الأعراف: 56)، ولا أعلم أني محسن » (بحار الأنوار: ج 46 ص 101).

 

 

 



محرم 1447 في الصحافة الكويتية