الأحد، 23 أبريل 2017

الانحراف وتضخيم الخيال

قد لا يتنبأ الإنسان من أين يأتي الانحراف عادة.. فقد يأتي من تضخيم الإنسان حالة الخيال عنده.. فإنَّ ساعة من "الخيال" -كما يقول عباس محمود العقاد- "تساوي مائة سنة أو مئات من السنين".

قد يواجه الإنسان شيئاً عادياً، ولكنَّ خياله يجعله ينفتح من خلاله على عالم يفترض فيه اللذة وما أشبه ذلك، فشرب الخمر، مثلاً، ليس فيه كل هذا النوع من اللذة، إنّما هو الخيال الذي يعطي كل ذلك الوهم باللذة. وكذلك الأمر في الأمور الأخرى.

وننقل في هذا المجال هذه الرواية عن الإمام علي (ع)، أنه كان جالساً في أصحابه إذ مرَّت بهم امرأة جميلة، فرمقها القوم بأبصارهم، فقال الإمام: "إِنَّ أَبْصَارَ هَذِهِ الْفُحُولِ طَوَامِحُ"، يعني إلى الأشياء السيئة، "وَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبُ هِبَابِهَا< وانحرافها، >فَإِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى امْرَأَةٍ تُعْجِبُهُ، فَلْيُلَامِسْ أَهْلَهُ، فَإِنَّما هِيَ امْرَأَةٌ كَامْرَأَتِهِ".. أي أنَّ اللذة التي يتطلبها الإنسان من الناحية الجنسية، لا يوجد فيها فرق بين الذي يجده عند امرأته أو عند امرأة أخرى.. فالإحساس الجنسي واحد، لكنَّ الخيال قد يعطي الجانب الجنسي ما يضخم اللذة أكثر من واقعها.

وهذا ما أوقع به الشيطان آدام وحواء {وقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْن} هل تعرفان لماذا نهاكما الله عن هذه الشجرة؟ لأنها تحمل سر الملائكية، فإذا أكلتما منها، فإنكما تصبحان ملكين مع الملائكة، ويصبح لكما أجنحة {أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}، فهذه الشجرة فيها سر الخلود، فلا موت بعدها.

ثم بدأ إبليس يحلف لآدم وحواء الأيمان المغلظة: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}الأعراف: 21، وإنّه لا مصلحة له في أن يُصبحا ملكين أو ينالا الخلود، وإنّما المصلحة لهما. وفي هذه ما يكفي للدلالة على أنَّ الخطأ سوء تفكير، يُحرِّض عليه محرِّضٌ ما؛ إما أن يكون النفس ذاتها، أو نفسٌ أخرى كصاحب السوء. وليس هناك من صاحب سوء أسوأ من الشيطان. ودائماً يتصنع صاحب السوء -كذباً- أنه من المحبين الناصحين.

وعندما سمع آدم وحواء ذلك، ابتعدا عن نهي الله لهما، {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ}الأعراف: 22، فكيف أطعتماه وعصيتموني؟ {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}الأعراف: 23.

وفي هذا المجال: لا بدَّ للإنسان أن يدرس أساليب إبليس. فإنَّ الأسلوب الذي استخدمه إبليس من أجل فتنة آدم وحواء لم يكن أسلوباً واقعياً حقيقياً، ولا يمثل لآدم وحواء أي نوع من أنواع السمو والارتفاع خارج ما هما فيه، والله سبحانه أراد لبني آدم أن يتعرفوا الأساليب التي يتبعها الشيطان في وسوسته لهم، وفي إلقائه إليهم بالكثير من الأوهام والخيالات التي تجعلهم يتصوّرون القبيح حسناً.

كما أراد لبني آدم أن يدرسوا تجربة أبيهم، وأن يتعرفوا كيف توصل إبليس إلى ذلك، وماذا أوحى لهما من أفكار، وما هي أساليب الوسوسة التي أثارت في داخل آدم وحواء المشاعر التي هيأتهما للتحرك في اتجاه تحقيق ما أراده منهما.

كما أنَّ على بني آدم أن يحذروا من فتنته الشَّيطانية، التي يحاول من خلالها أن يثير فيهم الأفكار والأجواء المنحرفة عن خط الله، وأن يوسوس لهم في همسات خفية، وأن يتجنّبوا الوسواس الخناس الذي يوسوس ويخنس، أيْ يبتعد حتى لا يكتشفه الطرف الآخر، حتى تتفاعل الوسوسة في نفس الإنسان، ليزين لهم معصية الله كما لو كانت حلماً من الأحلام، أو لوناً من ألوان السحر؛ ليعيش الإنسان معها في أجواء سحرية ضبابية غامضة، يسهل معها انجذابه إلى النار التي يحترق فيها إيمانه وفكره، تماماً كما هي الفراشة التي تجلبها أشواق اللهيب إلى النار.

عن سَالِمَةَ موْلَاة الإمام الصادق (ع)، قالت: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ (ع) حِينَ حَضَرَتْه الْوَفَاةُ، فَأُغْمِيَ عَلَيْه. فَلَمَّا أَفَاقَ: قَالَ: "أَعْطُوا الْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (وهُوَ الأَفْطَسُ) سَبْعِينَ دِينَاراً، وأَعْطُوا فُلَاناً كَذَا وكَذَا، وفُلَاناً كَذَا وكَذَا".
فَقُلْتُ: أتُعْطِي رَجُلاً حَمَلَ عَلَيْكَ بِالشَّفْرَةِ يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَكَ؟!!
فَقَالَ: "وَيْحَكِ، أمَا تَقْرَئِينَ الْقُرْآنَ؟".
قُلْتُ: بَلَى!
قَالَ: "أتُرِيدِينَ عَلَى أَنْ لَا أَكُونَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: {الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِه أَنْ يُوصَلَ ويَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ويَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ}. نَعَمْ يَا سَالِمَةُ؛ إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْجَنَّةَ وطَيَّبَهَا وطَيَّبَ رِيحَهَا، وإِنَّ رِيحَهَا لَتُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَلْفَيْ عَامٍ، ولَا يَجِدُ رِيحَهَا عَاقٌّ، ولَا قَاطِعُ رَحِمٍ" الكافي: ج 7 ص 55.

فعلينا -أولاً- أن نفقه في هذا الطريق ونعرف أنَّه لا يقوى الشيطان على التأثير على الإنسان إلا بقدر السوء الذي في نفس الإنسان، فبقدر الربع -مثلاً- الذي منك الشيطان يستطيع أن يصل إليك، وكلما ارتقيت كلما ضعفت صورة الشيطان معك، لكنه يحاول أن يدقق في الحيل مادامت الروح في الجسد.

وهناك سبعة مداخل -كما قرَّرها علماء الأخلاق- تستطيع أن تعتبرها ملامح لمداخل الشيطان، أما تفاصيلها   فيمكن أن تتفرع منها الكثير؛ فالشيطان لا يمل ولا يكل. ولكن هذه السبعة هي الأساس التي من خلالها ينفذ الشيطان:
1. صرفك عن العمل.
2. التسويف.
3. الرياء.
4. التعجيل في أداء الطاعات.
5. العجب.
6. خواطر في العقيدة.
7. دقائق الأمور.

أيها الأحبة..
نحن ننشغل بسبِّ الشيطان أكثر من شغلنا بذكر الله، ولو فتشت في سيرة النبي الحبيب (ص) كان كثير الذكر لله، وكان كثير ترداد قوله: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وكثير التأمل في آيات الذكر الحكيم، وما كان منشغلاً بسبِّ الشيطان.
أليس في سبِّ الشيطان وشتمه عوضاً عن كل ذلك؟!
هذا مما لا ينفع! وسيضحك الشيطان على ضيق عقولنا، كما يضحك على ضيق عقول بعض الحجاج، فتراه عند الجمرة عند مرمى الشيطان يأخذ حذاءه، ويكيل السباب لهذا الشاهد الأصم ويخاطبه، أنت الذي جعلتني أطلق زوجتي!!.

وبذلك، لا تكون الذكرى شيئاً من التاريخ، بل حركة وعي، ودرس إيمان، وسبيلاً إلى الحرية؛ ليفهم الناس من خلالها دورهم في الحياة، ومسؤوليتهم في بناء كيانهم على أساس إرادة الله، ليعمِّقوا إيمانهم، وليلتفت الإنسان إلى خلجات نفسه، وإلى نبضات مشاعره، وإلى حركة فكره، فلا تتحرّك نفسه في كلّ ذلك إلاّ في خطّ رضى الله سبحانه.

الجمعة، 21 أبريل 2017



تجاذبات معرفية في الخريطة الثقافية


على امتداد تاريخنا الإسلامي كان علماء الدين يشكلون السواد الأعظم في حركة الفكر والبحث الخطابة، وكانت المساجد كهفاً وملاذاً للعلم والتبليغ الديني، مما جعل لغة الصفوة هي نفس اللغة التي كان يتحدث بها علماء الدين والدعاة؛ والسبب في ذلك يرجع -بطبيعة الحال- إلى أنّهم هم الذين شكلوا اللغة السائدة في الأمة، وعلى ألسنتهم تطورت وتنامت أيضاً ..

بيد أنَّ الزمان اختلف، ولم تعد لغة أهل النخبة -اليوم- كسابق عهدها، بل تكونت لغتهم عبر جهد معرفي وثقافي متنوعين؛ من خلال تأثير أجهزة الإعلام والصحف والمجلات والروايات وكتب المعرفة المختلفة، وبفضل طفرة وسائل الاتصالات الحديثة (عابرة القارات) بحيث أصبح عالم اليوم كقرية معرفية صغيرة تكثفت فيها آراء واتجاهات وثقافات متنوعة..

وبسبب ثراء الساحة الثقافية وتنوعها، وبسبب الانبهار المعرفي والثقافي، أضحى الخطاب الثقافي أكثر تعقيداً، وبالتالي شكَّل تحدياً عظيماً لكل من يريد مخاطبة الناس أو التأثير فيهم، وأسفر ذلك عن وجود حواجز كثيرة بين الخطاب الديني واللغة المعرفية المعاصرة، فلم تعد للكلمة الملاقاة استقرار في ذهن المستمع وقلبه.

وللأسف ربما يعكس هذا ما يعيشه العالم العربي والإسلامي من استمرار الخطاب التاريخي السلطوي (الأبوي) والذي يكرَّس في كل يوم، وفي كل محفل. وكما يقول الأستاذ محمد شومان: "إن تعقيدات الخريطة السياسية العربية بعد ثورات الربيع العربي وثورة تقانة الاتصال والمعلومات تفرز خطاباً إعلامياً يتسم بالتعدد والصراع، حيث تتعايش داخله خطابات متصارعة ومتنافسة، وأحياناً متعاونة تنتجها قوى وفاعليات اجتماعية وسياسية لها مصالح وأيديولوجيات متعارضة".

ولسنا بحاجة إلى أن نذكركم بموقف القرآن الكريم من وصية الله عز وجل لموسى وهارون عليهما السلام لما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 44).






مواطنون لا أقليات

ليس في الإسلام أقلية وأكثرية ، ومهما فتشت في بطون الكتب الفقهية ، فلن تعثر على تصنيف يقسم رعايا الدولة الإسلامية إلى مواطنين أساسيين من الدرجة الأولى ، وإلى أقليات دينية أو عرقية من الدرجة الثانية.

والتعبير الجامع الشامل لكل من تستوعبهم دار الإسلام، هو كلمة (رعايا) وهي تعني المواطنين من حيث مسؤولية الدولة عن رعايتهم وحمايتهم والنظر في شؤونهم ومصالحهم. ويسري على الجميع القاعدة: "لهم مالنا وعليهم ما علينا".

ولذا لا معنى لعنوان (التسامح) بعد شمول المواطنة للجميع ؛ لأنَّ كلمة التسامح تعني الـتجاوز عن الحق على سبيل التَّفضُّل والمسامحة، بينما حقيقةُ الأمر أنَّ أحكامَ دار الإسلام كلّها تنطلق من تكريم الله للإنسان وتدور على محور واحد هو ترسيخُ ضمانات العدل في التعامل والـمُعايشة بين الجميع.

الأربعاء، 19 أبريل 2017

حديث في التربية


مقدمة لكتاب في التربية الإسلامية للشيخ رضي المهنا

للطفولة في بعدها الإنساني معناها الحيوي في عملية تأسيس شخصية الإنسان وتقويتها وتنميتها، وغرس البذور الطاهرة النقية فيها، وإعدادها إلى عنصر فاعل منتج؛ يمارس دوره في بناء الحياة على أساس ثابت.

ولذلك كان الاهتمام الإنساني الدائم بالأطفال؛ لكونهم المؤهَّلين لإحداث أي تغيير أو تثبيت دعائمه، والتأكيد على أنَّ العلم في الصغر والتربية خلاله، تعني التثبيت لكلِّ القيم والمفاهيم والأفكار التي يراد التأكيد عليها.

وكما أنَّ البناء يحتاج إلى هندسة وموازنة، وكما أنَّ النواة تفتقر إلى التربة أو الظروف المناسبة.. كذلك الطفل فإنه يحتاج إلى هندسة وموازنة بين ميوله وطاقاته، ويفتقر إلى تربة صالحة ينشأ فيها وتصقل مواهبه، من خلال الموارد الثقافية التي يتلقاها والتي يتطبع بها.

ولذلك اهتم الإسلام كدينٍ في تكوين الطفولة المنسجمة مع مبادئه، من خلال ترسيخ مجموعة القيم الأخلاقية والتربوية، التي تنفتح على الإنسان طفلاً وشاباً وشيخاً؛ للتخطيط لبناء جيل سليم نفسياً ودينياً وصحياً وتربوياً وأخلاقياً، وللعمل على إعداد الإنسان؛ لتحقيق معنى وجوده كخليفة على الأرض، ولبناء حضارة إنسانية على الصورة التي يريدها الله في الإنسان كفرد وكمجتمع وكدولة. فعلى الرغم من أنه خُلق سريع الحركة والانفعال لكنَّ لديه قابلية الوصول إلى التأني وما إلى ذلك..

إنَّ هدف التربية إعداد الإنسان المسؤول عن الكون والحياة في علاقته بالله وبالإنسان وبالحياة. وقد حمَّل الإسلام لبلوغ هذا الهدف على عاتق الأب والأم لكونهما يمثلان العنصر الأساسي في التربية وخاصة في المراحل الأولى للطفل، ولكنه لم يلغِ دور المجتمع بكل ما يشمل من مؤسسات تربوية واجتماعية، ووسائل إعلامية، ونوادٍ ثقافية ورياضية، ومراكز دينية وعبادية.. واعتبر أنَّ تأدية دور كلِّ واحد من هؤلاء يساهم في خلق المناخات التي تهيئ لنضوج الطفل، ولبناء ركائز شخصيته التي تتنامى في المستقبل.

وكذلك مهمة التربية أن تنمي معرفة الإنسان بالنشاط الذي ينسجم مع مستواه الفكري، وأن تزرع القيم والمفاهيم داخل شخصيته، بالمستوى الذي يتحول فيه الطفل إلى تجسيد حيٍّ لتلك القيم، ونقلها من عالم المفاهيم المجرَّدة إلى عالم الحركة، بحيث يتحول الإنسان نفسه إلى قيمة متجسدة، بدرجات متفاوتة تبعاً لتفاوت المؤهلات، وهذا ما يمكن أن نفهمه من حديث أخلاق الرسول (ص): "كان خلقه القرآن"؛ أي أنه (ص) كان قرآناً متحركاً.

وقد اعتمد الإسلام في أسلوبه التربوي على خطين:
الأول: التركيز على الجانب الوقائي، حيث منع من وقوع الطفل تحت التأثيرات السلبية التي قد تنشأ من نقاط ضعفه في طريقة تفكيره ونظرته للأمور أو من المجتمع الذي قد يعمل على مدِّ جذور انحرافه للأطفال.
والثاني: بناء الشخصية المتحركة والمتوازنة والتي تأخذ حاجتها في الحياة. وذلك من خلال التأكيد على أهمية كلِّ مرحلة من مراحل التربية للطفل، وهي: مرحلة اللعب، ومرحلة التأديب، ومرحلة المصاحبة، ... واعتبر أنَّ التربية هي نتاج تكامل كلِّ المراحل، بعد إعطاء كلِّ مرحلة حقَّها الكامل..

وقد أكَّد الإسلام على أهمية إنتاج الولد الصالح لأنه سيشكل ذخيرة لأبويه عند الله؛ بحيث يمنح الله الغفران لأيٍّ منهما بمقدار مشاركته في ذلك؛ لأنَّ الولد الصالح هو الذي يمثل النموذج الصالح الذي يتحرك في خط الصلاح، وهو الذي يمثل استمرار الحياة لأهله حتى بعد مماتهم.

ومع أهمية التربية إلا أنه من الصعب أن نضع خطاً بيانياً واحداً لها؛ لأنَّ رسالة التربية هي أن نصلح ما يفسد من الطفل، وأن نُدخل القيم إلى وجدانه بحسب ما تستوعب إدراكاته وأحاسيسه، لذلك فإنَّ هذه العملية تحتاج إلى جهد وثقافة ووعي لما يقوم به المربِّي، وقد تحتاج -في بعض الأحيان- إلى ما يشبه العقاقير، بحيث يدور الأمر بين أن نترك الطفل نهباً للعلة التي تهدد شخصيته أو حياته أو أن نقسو عليه بطريقة مدروسة لتخليصه منها.
فنحن إذا ما أردنا أن ننشئ إنساناً سوياً، لا بد لنا أن نتعامل مع المفردات السلبية الموجودة داخل شخصيته بحسب حاجتها إلى الرفق أو إلى العنف، فلا يستعجل المربِّي في التعنيف لأنَّ مزاجه لا يصبر على متابعة حكمة التربية الهادفة، وعليه أن يستفيد من كلِّ التجارب في عملية التقويم.

إنَّنا كمربين علينا أن ندرك أنَّ التربية لا تنشأ في حالتنا المزاجية التي تختزن الميل إلى القسوة، ولكن من الممكن أن نستعمل الحزم من موقع الرحمة، فإننا نفرق بين الأسلوب الذي يختزن الحزم على اختلاف درجاته وبين القسوة، فالقسوة حالة نفسية تدفع الإنسان إلى الاعتداء على الآخرين واضطهادهم بينما الحزم هو خطة يراد من خلالها إصلاح ما يفسد من الإنسان أو تعميق قيمة ما في نفسه، وهو بذلك قد يحمل مصلحة للإنسان.

فيجب أن يكون هناك الوعي الكافي لدينا في الأخذ بالانضباط لتهذيب سلوك أطفالنا وإزالة مقاومتهم حيال ذلك، وهذا يتحقق إذا باشرنا برغبة تنبع من داخلنا في تبديل سلوكهم. فنحن ضد التسلط وضد القسوة؛ لأنَّ التسلط يمثل حالة قهر ولأنَّ القسوة تمثل حالة عدوان.. والأصل في الإسلام هو الرفق.

إنَّ أسعد الناس هم أولئك الذين نشأوا على التربية السليمة والصفات العالية منذ حداثة السن حتى أصبحت جزءاً من كيانهم. يقول الإمام علي (ع) في وصيته لولده الحسن (ع): "إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته، فبادرْتُكَ بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبك". فالطفل يحمل في أعماقه صفحته البيضاء، والآباء والأمهات الذين يعون المسؤولية هم الذين يجعلون قلوب أطفالهم تتزين بالملكات الفاضلة والأخلاق الحميدة.

وهذا ما يحاوله الكتاب أن ينهض به فقد قام فضيلة الشيخ المربِّي الأستاذ رضي المهنَّا -حفظه الله- بتسليط الضوء على هذا الموضوع الحيوي من خلال تركيزه على مفاهيم الإسلام الذي أولى عناية قصوى بالطفل والطفولة، وجاء كتابه من عمق تجربته في البيت والمدرسة والمجتمع أرجو الله أن ينفع به وأن يوفقه للمزيد من الكتابات التربوية التي نحن بأمس الحاجة إليها، والله من وراء القصد.

حسين علي المصطفى
17 / 2 / 1433هـ

الاثنين، 17 أبريل 2017


نسبة كتاب الاختصاص للشيخ المفيد

لم وصلني سؤال عن صحة كتاب الاختصاص للشيخ المفيد؟

الجواب:
يثبت صحة نسبته إلى الشيخ المفيد، فهناك من يشكك في صحة هذا النسبة ، بل إنّ تلميذيه المختصين النجاشي والطوسي لم يذكرا أنّ لأستاذهما كتاباً بهذا العنوان في كتابيهما الشهيرين >رجال النجاشي< و>فهرست الشيخ<.

فتلميذاه النجاشي والطوسي -مع كثرة حضورهما عند أستاذهما المفيد واهتمامهما الخاص بذكر كتب أصحابنا ، وخاصة التراث الحديثي- لم يذكرا لكتاب الاختصاص عيناً ولا أثراً .

وكذلك لم يذكره ابن شهرآشوب في كتابه >معالم العلماء<... فلم يذكره أحد من المتقدمين ممن ترجم الشيخ المفيد!!.


ولكن في نسخة منه تاريخ كتابتها سنـة (1055هـ) ذكـر كاتبها أنـه مـن مصنفـات الشيـخ المفيد ، وأنه استخرجه من كتاب الاختصاص للشيخ أبي علي أحمد بن الحسين بن أحمد بن عمران المعاصر للشيخ الصدوق [الذريعة إلى تصانيف الشيعة: ج 1 ص 358 رقم 1890] .. ولا علم لنا بحال هذا الكاتب ، فضلاً عن الفاصل الزمني بينه وبين الشيخ المفيد وعدم وجود إسناد متصل إليه ، ولذا حكـم غير واحـد من المحققين منهم السيد المحقـق الخوئي ، إلى عدم ثبوت نسبة الكتاب إليه ، والمسألة محل خلاف بين المحققين [أنظر: معجم رجال الحديث: ج 7 ص 126 رقم 4420].




السلام المذهبي خير الأعمال في الشهر الحرام



المدُّ المذهبي -سواء كان شيعياً أم سنياً- قلق نتفهمه عند كلا الطرفين ، وهذ المدُّ المذهبي يقوِّض ضمانة وحدة الأمّة وتكاتفتها، فوجب علينا وقفه؛ فقد وصل إلى فتنة مستعرة لا يمكن للعلماء السكوت عنه، ولا يجوز لأي فريق الاستخفاف بخطر نتائجه.

ففي الوقت الذي نؤمن بأنَّ الاختلاف سنة إلهية في الكون، وأنه يضفي على الحياة حركية مستمرة، وأنه حق مشروع ما دام للإنسان عقل يفكر به، وأنَّه طريق يؤدي إلى الائتلاف إذا قُدِّر للبشر أن يتعاملوا معه أخلاقياً، وتوظيفه في التيسير على واقع الناس والتوسعة عليهم ورفع الحرج عنهم، لا التشديد عليهم وتضييق الخناق حولهم.

ولكننا مع ذلك ندرك الأيادي الخفية التي تعبث بهذا الموضوع، فبدل أن يكون (الاختلاف) نوعاً من أنواع الثقافات بين الشعوب، تحولت إلى عصبية مذهبية بين الأطراف جميعاً. فالعصبية لا تقف أشكالها، في يومنا هذا، في الانتماءات العرقية والقبلية والعائلية، وإنما -أيضاً- دخلت في مختلف الانتماءات الطائفية والمذهبية والدينية والحزبية.

وكم هي معبِّرة تلك الآية التي تصوِّر حال الرضى والتسليم الذاتي الذي يشعر به المتحزِّب لفكرة أو انتماء أو مذهب ما {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.

وفي الصحيح عن جعفر بن محمد الصادق (ع) قال: قال رسول الله (ص): "من تعصب أو تعصب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه".

وعنه (ع) قال: قال رسول الله (ص): "من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية، بعثه الله تعالى يوم القيامة مع أعراب الجاهلية".

السبت، 15 أبريل 2017



الحديث القدسي


وردني سؤال من شخص يحمل اسم hady ali جاء فيه: لماذا الأحاديث القدسية التي نزلت على النبي محمد لم توضع في القرآن؟ وهل الأحاديث القدسية التي نزلت على باقي الرسل موجودة في كتبهم؟

ولأنَّ السائل افترض قطعية صدور تلك الأحاديث عن النبي عن الله، لذا جاء التساؤل لماذا لا تكون تلك الأحاديث جزءاً من القرآن؟

فالقدسي لغة نسبة إلى القدس وهو الطهر ومنه قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}(النحل: 102)، أي: الروح المقدس بمعنى المطهر.
واصطلاحاً: الحديث القدسي: هو ما رفعه النبي (ص) إلى الله تبارك وتعالى.
يسمى: (الحديث القدسي) ويقال له (الحديث الإلهي) ويقال له أيضاً: (الحديث الرباني).
ومناسبة وصف هذا النوع من الأحاديث بذلك التكريم لها؛ لأنَّ الأحاديث القدسية تدور معانيها غالباً على تقديس الله وتنزيهه عما لا يليق به من النقائص.

هل حجية الحديث القدسي كحجية القرآن:

اختلف العلماء في الحديث القدسي هل لفظه ومعناه من الله تعالى أو لفظه من النبي (ص) ومعناه بوحي الله؟

( أ ) ذهب كثير من أهل العلم إلى أنَّ لفظه ومعناه من الله تعالى. وأنّه أوحى به سبحانه إلى الرسول (ص) بطريقة من طرق الوحي غير الجلي، إما بمكالمة أو إلهام أو قذف في الروع أو حال المنام.. وعلى هذا يكون الفرق بينهما ظاهر.. وسيأتي.

( ب ) وذهب بعض أهل العلم إلى أنَّ الحديث القدسي لفظه من النبي (ص) ومعناه هو الذي أوحى به الله تبارك وتعالى إليه. قال السيد الداماد: "هو كلام يُوحى إلى النبي (ص) معناه، فيجري الله على لسانه في العبارة عنه ألفاظا مخصوصة في ترتيب مخصوص، ليس للنبي (ص) أن يبدّلها ألفاظا غيرها أو ترتيبا غيره"( الرواشح السماوية: ص ‏205، الراشحة 38).
وعلى هذا يكون الفرق بين الحديث القدسي والقرآن إضافة إلى ما سبق: أنَّ القرآن الكريم لفظه من عند الله قطعاً، وأما الحديث القدسي فلفظه من عند رسول الله (ص) وإن كان معناه من الله.

تنبيهان:

يتعلق بما مضى من الكلام على الفرق بين الحديث القدسي والقرآن مسألتان:

الأول: ما دام أن الحديث القدسي لفظه من الله تعالى مثل القرآن، فلم لم يكتف بالقرآن الكريم عن الحديث القدسي؟
ولعل جواب ذلك أن يقال: إن الله تعالى أراد أن يبين أن بعض كلامه معجز وهو القرآن، وبعضه غير معجز وهو الأحاديث القدسية، ولعل مما يؤيد هذا أن التوراة والإنجيل مع أنهما نزلا من عند الله فليسا معجزين.

الثاني: إذا كان الحديث القدسي لفظه من عند النبي (ص) كما هو القول الثاني، فما الفرق بين الحديث القدسي والحديث النبوي؟
ولعل جواب ذلك أن يقال إن أهم فرق بينهما هو: أنّ الحديث القدسي فيه تنصيص على أنه بوحي من الله بينما الحديث النبوي قد يكون بالوحي، وقد يكون بالاجتهاد، والمحققون من أهل العلم على أن النبي (ص) يجتهد ولكنه لا يقر على خطأ بل ينزل الوحي من الله مصوباً له ومنبهاً وإذا اجتهد (ص) وسكت الوحي عن اجتهاده كان ذلك بمثابة الوحي من الله.
والظاهر أنَّ حكاية الحديث القدسي داخلة في السنّة، وحكاية هذه الحكاية عنه صلوات الله عليه داخلة في الحديث. و أمّا نفس الحديث القدسي فهو خارج عن السنّة والحديث والقرآن(قوانين الأصول: ص ‏409؛ ومقباس الهداية: ج ‏1 ص 70).

تطبيقات:

تطبيق 1: اشتهر على ألسنة كثير من العلماء، وفي كثير من المصنفات، عبارة "كنتُ كنزاً مخفيّاً فأحببتُ أن أُعرف فخلقتُ الخلقَ لكي أُعرف" بعنوان كونها حديثاً قدسياً.
وقد سئل بعض الفقهاء المعاصرين عن معنى هذه العبارة فأجاب كمن يسلم بها: "هنا ليس المقصود أنَّ الله يحب أن يعرف من خلال شيء في نفسه كما يحدث لنا نحن البشر، فنحن قد نُحب أن نعرف من خلال حال فراغ نريد أن يملأها الناس من خلال معرفتهم بنا، بل هي واردة كناية عن ما يريده الله باعتبار أنَّ إرادة الله بالشيء تختزن في داخلها ما يناسب معنى حب الله الذي يختلف عن الحب العبادي للشيء، أي أردت أن أعرف. أما لماذا أراد الله أن يعرف فمن الطبيعي أنَّ ذلك ليس من أجل عقدة نقص -وكما يحدث بالنسبة لغيره- ولكن لأنّ الله هو الذي يبدع الأشياء حتى بما يتعلق به بحكمته {لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون}، وبالتالي فإنَّ مردود المعرفة هو على الإنسان ذاته لا على الله جل وعلا {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد}.

والواقع أنَّ هذه الجملة ليست حديثاً؛ حيث لم تذكر في أيِّ مصدر روائي معتبر بهذا العنوان وقد نصَّ غير واحد على عدم كونها حديثاً.
قال السيد شهاب الدين المرعشي -بعد نقله ما نقله العجلوني عن ابن تيمية والزركشي والحافظ ابن حجر والسيوطي وغيرهم من إنكارهم كونها من كلام النبي (ص) وأنّه لا يعرف لها سند لا ضعيف ولا صحيح-: "وكذا يظهر من بعض الأصحاب، وبعد ذلك فمن العجب أنّه شرح هذه الجملة بعض العلماء زعماً منه أنّه خبر مرويّ وحديث مأثور عنه (ص). وعليك بالتثبت والتحرّي"(إحقاق الحق: ج 1 ص 431).

ونقل الشيخ محمد آصف محسني عن الفيض الكاشاني "التصريح بأنَّ هذه العبارة من موضوعات الصوفية"(مشرعة البحار: ج 2 ص 113).

ولذا قال الشيخ المحسني: "لا بدّ للمحقق من البحث والفحص حول أسانيد جميع الأخبار لا سيّما الأحاديث القدسية المنسوبة إلى الله سبحانه؛ فإنَّ الكذّابين والملحدين يحبون أن ينسبوا مفترياتهم إلى الله تعالى أكثر من أن ينسبوها إلى رسول الله أو من يقوم مقامه"(مشرعة البحار: ج 2 ص 113).

ولكن لماذا أخذ هذا الحديث شهرة واسعة جداً؟
السبب في ذلك هو إيمان الصوفية بمقام الفيض أو الأصل الواحد للأديان؛ بمعنى أنه لا شيء خارج المعنى الإلهي؛ أي خارج الله. ففي الفكر العرفاني، تفيض كلُّ الموجودات عن الوجود الحقيقي والقدسي؛ أي عن النفس الإلهي الذي تجلَّى في صورة غيرية.. فيصبح تعدد الأديان حاملاً لجوهر الوحدة، لأنه تعدد تجمع شمله الحضرة الإلهية. يقول سبحانه: {وهو معكم أينما كنتم}، فاختلاف الأشكال الدينية هو الظاهر الذي يحيل إلى الباطن. من هنا قول الحلاج:
تفكرت في الأديان جد محقق/فألفيته أصلا له شعب جما
فلا تطلب للمرء دينا فإنه/يصد عن الأصل الوثيق وإنما
يطالبه أصل يعبر عنده/جميع المعاني والمعاني فيفهما)

فالأديان إذن دين واحد، والإيمان الحقيقي هو القدرة على استيعاب كل دلالاتها.

والتوحيد -هنا- يعني الارتقاء من إله المسلمين لإله العالمين؛ فالأديان لا يمكن أن تشكل إذن إلا معبراً نحو حقيقة واحدة، وهي الحقيقة الأحدية، ومن حيث كونها معبراً فهي ذات القيمة نفسها.

ذلك ما يمكن أن نستخلصه من نص الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي: "فإنَّ كلَّ طائفة قد اعتمدت في الله أمراً ما إن تجلى لها في خلافه أنكرته".. بهذا المعنى، فإنَّ الإسلام يعني في حقيقته الإسلام الباطن؛ أي كلُّ الأديان التي يسلم فيها المؤمن وجهه لله. كلُّ الأديان تشكل الإسلام الباطني، وهذا معناه أنَّ الإسلام هو آخر الأديان من الناحية التاريخية فقط، لكن من الناحية الباطنية، فإنَّ الإسلام هو أول الأديان وآخرها، بل هو الدين كله. يصبح الإسلام مرادفاً لتجربة الحب التي يسلم بها البشر وجوههم لله. إن ما يحكم الأديان هو روح الحب، وليس هو منطق الحقيقة.

تطبيق 2: رواية يتداولها الصوفية بينهم وينسبونها إلى النبي (ص)، لم ترد في أيّ مصدر من مصادر الأحاديث عند الشيعة أو السنة؛ تصلح مبرراً لهم لجعل الأحاديث، وهي: قال النبي (ص) -بزعمهم-: "كلام المتقين بمنزلة الوحي من السماء، إذا وُجدت كلمة على لسان بعضهم، فقيل له: من حدّثك بهذه؟ فيقول: حدّثني قلبي عن فكري عن سرّي عن ربّي".

وبناءً على هذه الرواية المزعومة يحق للصوفي أن ينسب ما يراه -بما يتوهمه- مكاشفة، ويصل إليه فكره، إلى الله تعالى.

من هنا كثُرت الأحاديث القدسية التي لم يُعثر لها على مصدر إلا في مصادر الصوفية. لاحظ في هذا المجال ما يقوله السيد المرعشي في بعض تعليقاته على (إحقاق الحق): "إشارة إلى تضعيف عدة من كبراء المحدثين الأحاديث القدسية المشهورة، سيّما التي ترجمها أحمد بن متويه بأمر المأمون من السريانية أو العبرانية إلى العربية. نعم قد ورد بعضها في الأخبار المروية عن موالينا الأئمة (ع) بطرق معتبرة. وبالجملة وإني تتبعت الأحاديث القدسية في مظانها من كتب الفريقين فلم أجد الصحاح والموثقات بينها إلا أقلّ القليل"( شرح إحقاق الحق: ج 1 ص 461).

لقد اشتهر على الألسنة وحفظته الأسماع أنَّ للقرآن امتيازاً على الحديث النبوي، من كون القرآن قطعي الصدور لا شك فيه ولا ريب، وأما أخبار الآحاد فهي مظنونة الصدور..
والحق إنَّ هذا الامتياز للقرآن على حديث الآحاد يتسع ليشمل الحديث القدسي كذلك؛ فالأحاديث القدسية لا تمثل مجموعة منفصلة عن سائر الخطاب النبوي، ولذلك فموضعها الصحيح في كتب الحديث لا في نص القرآن، ولا معنى لأن تجمع في مؤلفات منفصلة خاصة بها. فلا يعني أنَّ النبي (ص) يحكيها عن الله، معناه أنها تختلف عن الحديث النبوي.
والملاحظ أنَّ الأحاديث القدسية، لا تشمل أحكاماً تعبدية، بل يغلب عليها كونها مواعظ أخلاقية، لا علاقة لها بالجانب التشريعي، ولا بالمجادلات حول حجية السنة وإنما يقتصر حضورها على الجانب الأخلاقي، باعتبارها محاولة للاتصال المباشر بين الخالق والمخلوق.
ونلاحظ في صياغتها وعبارتها، أنَّ معانيها إنما ينقلها نقلاً على سبيل الحكاية، وليس كالقرآن الذي نجد أنَّ لفظه ومعناه من الله تعالى، فهي بهذا المعنى تقع في دائرة الحديث؛ لأنَّ الحديث القدسي من جهة النظم ليس متأتياً من الله، وإلا لكان قرآناً والحال أنه ليس بقرآن.

والملاحظ أنَّ العديد من الأحاديث القدسية التي جمعها ابن عربي رواها عن كعب الأحبار وضمت أخباراً يمكن عدها من قبيل الإسرائيليات.

ولو كان الحديث القدسي كلاماً من عند الله تعالى لجرى عليه ما يجري على القرآن الكريم. وهي:

أولاً: أنَّ القرآن الكريم كلام الله أوحي به إلى الرسول (ص) بلفظه، وتحدى به البشر على الإتيان بمثله من جهة كونه حقاً مطلقاً.
ثانياً: إنَّ القرآن الكريم لا ينسب إلا إلى الله تعالى فيقال: قال الله تعالى، أما الحديث القدسي وإن كان قدسياً فيروى مضافاً إلى النبي (ص) لا إلى الله تعالى.
ثالثاً: إنَّ القرآن الكريم جميعه تم جمعه في زمان الرسول (ص)، فهو قطعي الثبوت بينما النص القدسي أكثره أخبار آحاد، ولذلك فهي ظنية الثبوت، فقد تكون صحيحة أو حسنة أو ضعيفة.
رابعاً: أنَّ القرآن الكريم كلام من عند الله تعالى بألفاظه ومعانيه، أما الخطاب النبوي فمعانيه من عند الله تعالى ولفظه من عند النبي (ص).
خامساً: إنَّ القرآن الكريم متعبد بتلاوته لقوله (ص): "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشرة أمثالها لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف"، أما النص القدسي، فهو فلا يجزي في الصلاة والعبادة، وعلى ذلك تتحدد تلك الفروقات الجوهرية بين النصوص أعني بين القرآن الكريم وبين النص النبوي.

وهكذا فإنَّ المغايرة بين القرآن والحديث النبوي، تتجاوز إشكالية التلقي، فالقرآن يتميز بالإعجاز، بالإضافة إلى أنه وجد مجموعاً من اللحظة الأولى في حياة النبي وتحت إشرافه المباشر، في حين أن الحديث القدسي يتضمن الصحيح والضعيف والموضوع المكذوب، وهكذا فإذا كانت الأحاديث القدسية، هي من شاكلة الأحاديث النبوية، فإنه يمكن التيقن من صحتها تماماً كما ميزنا بين الأحاديث النبوية، وفقاً لقاعدة الاتساق.


والواقع أنَّ الحقيقة التاريخية، تؤكد أنَّ الحديث النبوي أو القدسي المنسوب إليه قد أصابه التحريف والزيادة والنقصان.










الأربعاء، 12 أبريل 2017




العقل والتجربة طاقة الحياة


صادق القرآن الكريم من جهات مختلفة، وبآيات عديدة لا مجال لحصرها، على حجية العقل.
ومن التعابير العجيبة للقرآن قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ}..
فالمراد بـ(الصم والبكم) هم (الأشخاص الذين لا يريدون أن يستمعوا الحقيقة)، أو أنهم يسمعونها ولا يعترفون بألسنتهم.
فالأذن التي تعجز عن سماع الحقائق وتستعد فقط لسماع المهملات والأراجيف هي أذن صماء من وجهة نظر القرآن.
واللسان الذي يستخدم فقط في بث الأراجيف، يعتبر لساناً أبكماً حسب رأي القرآن.
وكلاهما {لاَ يَعْقِلُونَ}.

ويضيف لنا الإمام علي (ع) من درر نهجه ما نقف على حقيقة مهمة، وببيان منطقي رائع، حيث يقول: "العقل والشهوة ضدّان، ومؤيّد العقل العلم، ومزيّن الشهوة الهوى، والنفس متنازعة بينهما. فأيّهما قهر كانت في جانبه".
إنَّ النفس الإنسانية تتنازع عليها القوة في اتجاهين مختلفين، ولا يمكن لها أن تتكوَّن وتقوى إلا من خلال تلك الحالة القوة العقلية؛ وذلك بالتعلم والمعرفة والتجربة أكثر..

وتعبير الإمام علي  بـ"مؤيد للعقل ومزيّن للشهوة< لا يخلو من فائدة كبيرة؛ لماذا؟
لأنَّ (العقل) يتعرف على الأمور بشكل تلقائي..
وأما (الشهوة) فتحتاج إلى من يزين لها ذلك العمل، فتتوق وتشتهي عمله..
إنّ نتيجة غلبة العقل هو ذلك الموقف الرائع من النبي يوسف (ع): {مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}.

إذن:
(العقل) هو رائد معركة الإنسان ضد نفسه..
و(العلم والمعرفة) سلاح رئيسي في هذه المعركة..
ولكل من طرفي المعركة -(العقل والهوى)- جنود وأسلحة..
فهما جيشان: جيش خير وجيش شر يتصارعان على أرض نفس الإنسان.
وهنا يبدأ الصراع القوي في حركة الإرادة التي قد تقوى فتأخذ جانب (العقل)، وقد تضعف فتأخذ جانب (الشهوة).
بمعنى أنّ هناك طرفين يتجاذبان الكائن الآدمي في بحثه عن اللذة واجتنابه الألم: (العقل والشهوة) (الخير والشر) (الموضوعية والذاتية)، أو (الأوامر والنواهي الشرعية).

فالعقل طاقة وهبها الخالق للإنسان، كي يتبصَّر في أعماق كينونته وتجاربه، يقول علي (ع): "العقل غريزة تزيد بالعلم والتجارب".. والغريزة ليست شيئاً يمكن لنا أن نحدده، بل هي صفة حيوية أو هي الاستعداد للقيام بنشاط معين؛ لأنَّ كلَّ غرائزنا، سواء كانت الغرائز التي تمتد في حياتنا الحسية، أو الغرائز التي تتمثل في حياتنا الفكرية أو الإنسانية، هي التي تموِّن الحياة، وبفقدانها يصيب الحياة بالنقص والخلل.
وهذه الغريزة "تزيد بالعلم والتجارب"؛ فليس أمام العقل حاجز..
والله سبحانه جعل العقل حراً، بحيث يتحمل مسؤولياته في هذه الحرية، ومسؤولياته في ما يفكِّر به..
والتجربة هي حركة تنتج فكراً.. والعلم يوحي إلى التجربة أن تتحرك أمام علامات الاستفهام، وأمام الثغرات.

هذه هي قيمة الإسلام من خلال كلام الله سبحانه وتعالى، حيث إنَّ الإسلام كشف للإنسان أنَّ مصدر المعرفة ينطلق من دائرتين: (دائرة التأمل النظري)، و(دائرة التجربة). والتجربة إنّما تتسع وتمتد من خلال التأمل، والتأمل إنّما ينفتح من خلال ما تطرحه التجربة أمامه من أسئلة ومن علامات الاستفهام.

ولذا لم يذكر القرآن الكريم القصص المتنوعة ليستمتع بحكاياتها، بل ليتفكر ويتدبر فيها؛ قال تعالى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}. أي: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ} على هؤلاء الذين تدعوهم إلى الحق، ليعيشوا تجارب الآخرين من خلال القصة، لا لتملأ لديهم أوقات الفراغ. بل {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، فيقارنون بين حياتهم وحياة أولئك الذين عاشوا في أحداث تلك القصص، ويعرفون النتائج السلبية في حياتهم المستقبلية إذا ساروا على النهج الذي سار عليه أولئك، من خلال دراستهم للعاقبة السيّئة التي انتهى إليها أمرهم في الماضي.

فالحياة تجربة، وعلى الإنسان أن يأخذ بأسباب التجربة، ولا يحاول أن يطرح الأحكام بشكل تجريدي؛ لأنَّ التجربة هي التي تعطي الإنسان واقعية الإمكان والاستحالة، وكما قال ابن سينا: "كل ما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان حتى يذودك عنه واضح البرهان"..
فالتجربة هي التي تعطي الإنسان الصورة الحقيقية عن الواقع عندما تستكمل كل العناصر التي تؤدي به إلى الصواب، شريطة أن لا يتحرك في العمل من موقع الجهل والغفلة، بل من موقع الخبرة.

ونحن نعرف أنّ كل ما اكتشفه الإنسان في هذا العالم إنما اكتشفه بالتجربة. وربما تقودك التجربة إلى النتيجة بالصدفة، وهذا ما يفرض علينا أن لا نيأس من التجربة؛ لأنَّ فشل ألف تجربة لا يعني فشل الفكرة، فلنجرِّب الواحدة بعد الألف، ولعلنا في ما نقرأ من كثير من حقائق الدواء وحقائق الداء، أنّ العلماء قد يقضون سنين كثيرة يجرّبون ويفشلون، ويجربون ويفشلون، وربما ينجحون في نهاية المطاف إما بالصدفة، وإما بسلامة التجربة.

والرسول (ص) يقول: "المؤمن لا يلدغ من حجر واحد مرتين" حيث يقرر أسبقية التجربة على المعرفة، لأنَّ الخطأ الذي يقع في تجربة لم تحدث من قبل لا ينفي الإيمان، ولا ينفي العلم، ولكن تكرار الخطأ الذي حدث سابقاً في عمل لاحق هو الذي ينفي العلم، وينفي الاستفادة من التجربة السابقة، أي أنّ هذه التجربة لم تصر علماً أو ذكراً، وقد حدثت في حين غفلة، ولكن ينبغي ألاّ يدفع ثمن التجربة مرتين، وهذا هو العلم والإيمان.

ومن هنا يمكننا أن نقول: العلم له أولوية باعتبار، والعمل له أولوية باعتبار آخر، والبحث في العلم، وإن كان متأخراً في الولادة، إلا أنّ له الأولوية للاستفادة من التجارب، وهكذا فالعلم له السلطان في الاستفادة من التجارب السابقة، والعمل له الأولوية والسلطان والحجة والبرهان في ولادة العلوم والمعارف الجديدة.
وهنا أود أن أضيف:
إنّ حرمان المرأة السعودية من قيادة السيارة -مثلاً- هو نوع من حرمانها من التعليم، وحرمانها من التجربة في الحياة والحكم عليها بأن تكون جنساً بشرياً أقل درجة من الرجال (وأنا هنا لا أتحدث عن القوامة التي ليس لها علاقة بحق التعليم والتجربة).

ففي مجتمعنا عايشنا كثيراً من القرارات المتأخرة، التي تقاوم قاعدة الاستجابة لما يفرضه الواقع، وصرنا نرى أنّ ما نرفضه الآن نقبل به بعد عشر سنوات، لكننا في قبولنا المتأخر تكون المشاركة قد تعقدت، أي أنه قبول لا فائدة كبيرة منه.

وأنا هنا أدعوكم لمراجعة التحولات التي مرت بالمجتمع السعودي وليرى كيف أصبحت كثيراً من القرارات التي قاومها المجتمع جزءاً من ثقافتنا المعاصرة. فهؤلاء المقاومون للتغيير لا يعون حقيقة حركية المجتمعات ولا يتصورون إلا السكون الذي يعيشونه.

والذي يظهر لي أننا (كمجتمع) نقاوم لأننا بنينا مخاوف داخلنا (ما أنزل الله بها من سلطان) ولن أخوض في الجدل العقيم حول "مفاسد قيادة المرأة للسيارة" لأني على قناعة تامة أنّ مفاسد عدم قيادة المرأة للسيارة أكبر، والمسألة مجرد وقت ولا أعتقد أننا سنعزل أنفسنا عن العالم لمجرد أنّ البعض يرى أنّ المرأة كلها مفاسد، وأنّ بمجرد خروجها للشارع سوف تنتشر الرذيلة وسيعم الفساد.

وما أود أن أقوله هنا إنه لا يوجد ما هو إيجابي بشكل مطلق، وأنه يجب علينا أن نتغير لأن العالم كله قد تغير. فالمنطق يقول إننا لن نبقى ثابتين والعالم يتغير ومن الأولى أن نصنع مستقبلنا بأيدينا بدلاً من أن يصنعه لنا الآخرون. وقيادة المرأة ستكون أمراً محسوماً مستقبلاً وفي اعتقادي أنه خلال بضع سنين سنستسلم للأمر الواقع وسنقبل بقيادة المرأة لكننا في هذه الحالة لن نكون أبداً مجتمعاً مبادراً بل سنكرس "ثقافة الاستسلام" و"الخضوع للأمر الواقع".


نعم، "الأيام تفيد التجارب".. و"لا تقدمنّ على أمر حتى تخبره.."، و"كفى بالتجارب مؤدِّباً"، فلتكن حياتك تجربة، والعاقل منها في زيادة، كلما زاد عمره، زادت تجربته.

الثلاثاء، 11 أبريل 2017



العقل هو الحجة

سأل أحد أئمة اللغة، وهو يعقوب بن إسحاق بن السكيت (ت 244هـ)، الإمام علي بن محمد الهادي (ع): لِمَاذَا بَعَثَ اللهُ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ (ع) بِالْعَصَا وَيَدِهِ الْبَيْضَاءِ وَآلَةِ السِّحْرِ، وَبَعَثَ عِيسَى (ع) بِآلَةِ الطِّبِّ، وَبَعَثَ مُحَمَّداً -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَعَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ- بِالْكَلَامِ وَالْخُطَبِ؟
فأجابه الإمام الهادي (ع) قائلاً: إِنَّ اللهَ لَمَّا بَعَثَ مُوسَى (ع) كَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ عَصْرِهِ السِّحْرَ، فَأَتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِمْ مِثْلُهُ، وَمَا أَبْطَلَ بِهِ سِحْرَهُمْ، وَأَثْبَتَ بِهِ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ؛ وَإِنَّ اللهَ بَعَثَ عِيسَى (ع) فِي وَقْتٍ قَدْ ظَهَرَتْ فِيهِ الزَّمَانَاتُ(الأمراض)، وَاحْتَاجَ النَّاسُ إِلَى الطِّبِّ، فَأَتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِثْلُهُ، وَبِمَا أَحْيَا لَهُمُ الْمَوْتَى وَأَبْرَأَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِ اللهِ، وَأَثْبَتَ بِهِ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ؛ وَإِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّداً (ص) فِي وَقْتٍ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ عَصْرِهِ الْخُطَبَ وَالْكَلَامَ -وَأَظُنُّهُ قَالَ: الشِّعْرَ- فَأَتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ مِنْ مَوَاعِظِهِ وَحِكَمِهِ مَا أَبْطَلَ بِهِ قَوْلَـهُمْ، وَأَثْبَتَ بِهِ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ.
فسأله ابن السِّكِّيت: فَمَا الْحُجَّةُ عَلَى الْخَلْقِ الْيَوْمَ؟!
فأجابه (ع): الْعَقْلُ؛ يَعْرَفُ بِهِ الصَّادِقَ عَلَى اللهِ فَيُصَدِّقُهُ، وَالْكَاذِبَ عَلَى اللهِ فَيُكَذِّبُهُ.
العقل هو حجةٌ مِن الله على الناس.

فإذا أردت أن تؤكد مرجعية (نص) من النصوص فعليك أن تدرسه دراسة تعقل؛ لأنك لا تستطيع أن ترتبط بأيِّ نص من دون وعي!!


وهو شعار القرآن وشعار الأنبياء، وشعار أتباعهم، ويجب علينا -كأتباع لهذه الديانات- أن لا نتحرك في حياتنا في خطِّ غرائزنا وعواطفنا، بل نتحرك من خلال عقولهنا، فـ"لَا يَغُشُّ الْعَقْلُ مَنِ اسْتَنْصَحَهُ".

واعتبر الشريف المرتضى أنَّ دليل العقل ليس فيه (احتمال ومجاز وتأويل)، خلافاً للنص، ومن ثم لا بدَّ من صرف كلِّ ظاهر للنص بما يوافق دليل العقل(أمالي الشريف المرتضى: ج 2 ص 125-126).
وأضاف قائلاً: "رددنا كلَّ مشتبه من آيات وغيرها إلى أدلة العقول لأنها أصل"( رسائل الشريف المرتضى: ج 2 ص 56).

وهو نفس ما قرَّره تلميذه الشيخ الطوسي، إذ أكدَّ هذا المعنى وهو أنَّ ظواهر النصوص تبنى على أدلة العقول لا العكس، وبالتالي لا بدَّ من تأويل هذه الظواهر عند معارضتها للعقل(الاقتصاد في الاعتقاد: ص 162؛ الرسائل العشر: ص 325).

 وهكذا نقف أيضاً على قاعدة عامة في الحياة: إذا أردت أن تؤكد مرجعية (شخص) فكرياً وثقافياً ودينياً، فإنّ عليك أن تدرسه؛ لأنَّك لا تستطيع أن ترتبط بأيِّ إنسان باسم الله، إلا بعد أن تدرس كل عناصر شخصيته..

إنَّ مجتمعاتنا ضائعة في مسألة القيادة، كما أنَّ الذهنية البدوية والقبلية والعشائرية والعصبوية، هي التي تحدد موقفنا من الأشخاص سلباً أو إيجاباً.

وقد أوصى الإمام علي بن أبي طالب (ع) تلميذه عبد الله بن عباس فقال: "فَلا يَكُنْ أَفْضَلَ مَا نِلْتَ فِي نَفْسِكَ مِنْ دُنْيَاكَ بُلُوغُ لَذَّةٍ أَوْ شِفَاءُ غَيْظٍ وَلَكِنْ إِطْفَاءُ بَاطِلٍ وَإِحْيَاءُ حَقٍّ".


محرم 1447 في الصحافة الكويتية