الحديث القدسي
وردني سؤال من
شخص يحمل اسم hady ali جاء فيه: لماذا الأحاديث القدسية التي نزلت
على النبي محمد لم توضع في القرآن؟ وهل الأحاديث القدسية التي نزلت على باقي الرسل
موجودة في كتبهم؟
ولأنَّ السائل
افترض قطعية صدور تلك الأحاديث عن النبي عن الله، لذا جاء التساؤل لماذا لا تكون
تلك الأحاديث جزءاً من القرآن؟
فالقدسي لغة
نسبة إلى القدس وهو الطهر ومنه قوله تعالى: {قُلْ
نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}(النحل: 102)، أي: الروح المقدس بمعنى
المطهر.
واصطلاحاً:
الحديث القدسي: هو ما رفعه النبي (ص) إلى الله تبارك وتعالى.
يسمى: (الحديث
القدسي) ويقال له (الحديث الإلهي) ويقال له أيضاً: (الحديث الرباني).
ومناسبة وصف هذا
النوع من الأحاديث بذلك التكريم لها؛ لأنَّ الأحاديث القدسية تدور معانيها غالباً
على تقديس الله وتنزيهه عما لا يليق به من النقائص.
هل حجية الحديث القدسي كحجية القرآن:
اختلف العلماء
في الحديث القدسي هل لفظه ومعناه من الله تعالى أو لفظه من النبي (ص) ومعناه بوحي
الله؟
(
أ )
ذهب كثير من أهل العلم إلى أنَّ لفظه ومعناه من الله تعالى. وأنّه أوحى به سبحانه
إلى الرسول (ص) بطريقة من طرق الوحي غير الجلي، إما بمكالمة أو إلهام أو قذف في
الروع أو حال المنام.. وعلى هذا يكون الفرق بينهما ظاهر.. وسيأتي.
(
ب )
وذهب بعض أهل العلم إلى أنَّ الحديث القدسي لفظه من النبي (ص) ومعناه هو الذي أوحى
به الله تبارك وتعالى إليه. قال السيد الداماد: "هو كلام يُوحى إلى النبي (ص)
معناه، فيجري الله على لسانه في العبارة عنه ألفاظا مخصوصة في ترتيب مخصوص، ليس
للنبي (ص) أن يبدّلها ألفاظا غيرها أو ترتيبا غيره"( الرواشح السماوية: ص
205، الراشحة 38).
وعلى هذا يكون
الفرق بين الحديث القدسي والقرآن إضافة إلى ما سبق: أنَّ القرآن الكريم لفظه من
عند الله قطعاً، وأما الحديث القدسي فلفظه من عند رسول الله (ص) وإن كان معناه من
الله.
تنبيهان:
يتعلق بما مضى
من الكلام على الفرق بين الحديث القدسي والقرآن مسألتان:
الأول: ما
دام أن الحديث القدسي لفظه من الله تعالى مثل القرآن، فلم لم يكتف بالقرآن الكريم
عن الحديث القدسي؟
ولعل جواب ذلك
أن يقال: إن الله تعالى أراد أن يبين أن بعض كلامه معجز وهو القرآن، وبعضه غير
معجز وهو الأحاديث القدسية، ولعل مما يؤيد هذا أن التوراة والإنجيل مع أنهما نزلا
من عند الله فليسا معجزين.
الثاني: إذا
كان الحديث القدسي لفظه من عند النبي (ص) كما هو القول الثاني، فما الفرق بين
الحديث القدسي والحديث النبوي؟
ولعل جواب ذلك
أن يقال إن أهم فرق بينهما هو: أنّ الحديث القدسي فيه تنصيص على أنه بوحي من الله
بينما الحديث النبوي قد يكون بالوحي، وقد يكون بالاجتهاد، والمحققون من أهل العلم
على أن النبي (ص) يجتهد ولكنه لا يقر على خطأ بل ينزل الوحي من الله مصوباً له
ومنبهاً وإذا اجتهد (ص) وسكت الوحي عن اجتهاده كان ذلك بمثابة الوحي من الله.
والظاهر أنَّ
حكاية الحديث القدسي داخلة في السنّة، وحكاية هذه الحكاية عنه صلوات الله عليه
داخلة في الحديث. و أمّا نفس الحديث القدسي فهو خارج عن السنّة والحديث والقرآن(قوانين الأصول: ص
409؛ ومقباس الهداية: ج 1 ص 70).
تطبيقات:
تطبيق
1:
اشتهر على ألسنة كثير من العلماء، وفي كثير من المصنفات، عبارة "كنتُ كنزاً مخفيّاً فأحببتُ أن أُعرف فخلقتُ
الخلقَ لكي أُعرف" بعنوان كونها حديثاً قدسياً.
وقد سئل بعض
الفقهاء المعاصرين عن معنى هذه العبارة فأجاب كمن يسلم بها: "هنا ليس المقصود
أنَّ الله يحب أن يعرف من خلال شيء في نفسه كما يحدث لنا نحن البشر، فنحن قد نُحب
أن نعرف من خلال حال فراغ نريد أن يملأها الناس من خلال معرفتهم بنا، بل هي واردة
كناية عن ما يريده الله باعتبار أنَّ إرادة الله بالشيء تختزن في داخلها ما يناسب
معنى حب الله الذي يختلف عن الحب العبادي للشيء، أي أردت أن أعرف. أما لماذا أراد
الله أن يعرف فمن الطبيعي أنَّ ذلك ليس من أجل عقدة نقص -وكما يحدث بالنسبة لغيره-
ولكن لأنّ الله هو الذي يبدع الأشياء حتى بما يتعلق به بحكمته {لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون}، وبالتالي فإنَّ
مردود المعرفة هو على الإنسان ذاته لا على الله جل وعلا {يا
أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد}.
والواقع أنَّ
هذه الجملة ليست حديثاً؛ حيث لم تذكر في أيِّ مصدر روائي معتبر بهذا العنوان وقد
نصَّ غير واحد على عدم كونها حديثاً.
قال السيد شهاب
الدين المرعشي -بعد نقله ما نقله العجلوني عن ابن تيمية والزركشي والحافظ ابن حجر
والسيوطي وغيرهم من إنكارهم كونها من كلام النبي (ص) وأنّه لا يعرف لها سند لا
ضعيف ولا صحيح-: "وكذا يظهر من بعض الأصحاب، وبعد ذلك فمن العجب أنّه شرح هذه الجملة بعض
العلماء زعماً منه أنّه خبر مرويّ وحديث مأثور عنه (ص). وعليك بالتثبت والتحرّي"(إحقاق الحق: ج 1 ص 431).
ونقل الشيخ محمد
آصف محسني عن الفيض الكاشاني "التصريح بأنَّ هذه العبارة من موضوعات الصوفية"(مشرعة البحار: ج 2 ص 113).
ولذا قال الشيخ
المحسني: "لا
بدّ للمحقق من البحث والفحص حول أسانيد جميع الأخبار لا سيّما الأحاديث القدسية
المنسوبة إلى الله سبحانه؛ فإنَّ الكذّابين والملحدين يحبون أن ينسبوا مفترياتهم
إلى الله تعالى أكثر من أن ينسبوها إلى رسول الله أو من يقوم مقامه"(مشرعة البحار: ج 2 ص 113).
ولكن لماذا
أخذ هذا الحديث شهرة واسعة جداً؟
السبب في ذلك هو
إيمان الصوفية بمقام الفيض أو الأصل الواحد للأديان؛ بمعنى أنه لا شيء خارج المعنى
الإلهي؛ أي خارج الله. ففي الفكر العرفاني، تفيض كلُّ الموجودات عن الوجود الحقيقي
والقدسي؛ أي عن النفس الإلهي الذي تجلَّى في صورة غيرية.. فيصبح تعدد الأديان
حاملاً لجوهر الوحدة، لأنه تعدد تجمع شمله الحضرة الإلهية. يقول سبحانه: {وهو معكم أينما كنتم}، فاختلاف الأشكال الدينية هو
الظاهر الذي يحيل إلى الباطن. من هنا قول الحلاج:
تفكرت
في الأديان جد محقق/فألفيته أصلا له شعب جما
فلا
تطلب للمرء دينا فإنه/يصد عن الأصل الوثيق وإنما
يطالبه
أصل يعبر عنده/جميع المعاني والمعاني فيفهما)
فالأديان إذن
دين واحد، والإيمان الحقيقي هو القدرة على استيعاب كل دلالاتها.
والتوحيد -هنا-
يعني الارتقاء من إله المسلمين لإله العالمين؛ فالأديان لا يمكن أن تشكل إذن إلا
معبراً نحو حقيقة واحدة، وهي الحقيقة الأحدية، ومن حيث كونها معبراً فهي ذات
القيمة نفسها.
ذلك ما يمكن أن
نستخلصه من نص الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي: "فإنَّ كلَّ طائفة قد
اعتمدت في الله أمراً ما إن تجلى لها في خلافه أنكرته".. بهذا المعنى، فإنَّ
الإسلام يعني في حقيقته الإسلام الباطن؛ أي كلُّ الأديان التي يسلم فيها المؤمن
وجهه لله. كلُّ الأديان تشكل الإسلام الباطني، وهذا معناه أنَّ الإسلام هو آخر
الأديان من الناحية التاريخية فقط، لكن من الناحية الباطنية، فإنَّ الإسلام هو أول
الأديان وآخرها، بل هو الدين كله. يصبح الإسلام مرادفاً لتجربة الحب التي يسلم بها
البشر وجوههم لله. إن ما يحكم الأديان هو روح الحب، وليس هو منطق الحقيقة.
تطبيق
2: رواية
يتداولها الصوفية بينهم وينسبونها إلى النبي (ص)، لم ترد في أيّ مصدر من مصادر
الأحاديث عند الشيعة أو السنة؛ تصلح مبرراً لهم لجعل الأحاديث، وهي: قال النبي (ص)
-بزعمهم-: "كلام المتقين بمنزلة الوحي من
السماء، إذا وُجدت كلمة على لسان بعضهم، فقيل له: من حدّثك بهذه؟ فيقول: حدّثني
قلبي عن فكري عن سرّي عن ربّي".
وبناءً على هذه
الرواية المزعومة يحق للصوفي أن ينسب ما يراه -بما يتوهمه- مكاشفة، ويصل إليه
فكره، إلى الله تعالى.
من هنا كثُرت
الأحاديث القدسية التي لم يُعثر لها على مصدر إلا في مصادر الصوفية. لاحظ في هذا
المجال ما يقوله السيد المرعشي في بعض تعليقاته على (إحقاق الحق): "إشارة إلى
تضعيف عدة من كبراء المحدثين الأحاديث القدسية المشهورة، سيّما التي ترجمها أحمد
بن متويه بأمر المأمون من السريانية أو العبرانية إلى العربية. نعم قد ورد بعضها
في الأخبار المروية عن موالينا الأئمة (ع) بطرق معتبرة. وبالجملة وإني تتبعت الأحاديث
القدسية في مظانها من كتب الفريقين فلم أجد الصحاح والموثقات بينها إلا أقلّ
القليل"( شرح إحقاق الحق: ج 1 ص 461).
لقد اشتهر على
الألسنة وحفظته الأسماع أنَّ للقرآن امتيازاً على الحديث النبوي، من كون القرآن
قطعي الصدور لا شك فيه ولا ريب، وأما أخبار الآحاد فهي مظنونة الصدور..
والحق إنَّ هذا
الامتياز للقرآن على حديث الآحاد يتسع ليشمل الحديث القدسي كذلك؛ فالأحاديث
القدسية لا تمثل مجموعة منفصلة عن سائر الخطاب النبوي، ولذلك فموضعها الصحيح في
كتب الحديث لا في نص القرآن، ولا معنى لأن تجمع في مؤلفات منفصلة خاصة بها. فلا
يعني أنَّ النبي (ص) يحكيها عن الله، معناه أنها تختلف عن الحديث النبوي.
والملاحظ أنَّ
الأحاديث القدسية، لا تشمل أحكاماً تعبدية، بل يغلب عليها كونها مواعظ أخلاقية، لا
علاقة لها بالجانب التشريعي، ولا بالمجادلات حول حجية السنة وإنما يقتصر حضورها
على الجانب الأخلاقي، باعتبارها محاولة للاتصال المباشر بين الخالق والمخلوق.
ونلاحظ في صياغتها
وعبارتها، أنَّ معانيها إنما ينقلها نقلاً على سبيل الحكاية، وليس كالقرآن الذي
نجد أنَّ لفظه ومعناه من الله تعالى، فهي بهذا المعنى تقع في دائرة الحديث؛ لأنَّ
الحديث القدسي من جهة النظم ليس متأتياً من الله، وإلا لكان قرآناً والحال أنه ليس
بقرآن.
والملاحظ أنَّ العديد
من الأحاديث القدسية التي جمعها ابن عربي رواها عن كعب الأحبار وضمت أخباراً يمكن
عدها من قبيل الإسرائيليات.
ولو كان الحديث
القدسي كلاماً من عند الله تعالى لجرى عليه ما يجري على القرآن الكريم. وهي:
أولاً:
أنَّ
القرآن الكريم كلام الله أوحي به إلى الرسول (ص) بلفظه، وتحدى به البشر على
الإتيان بمثله من جهة كونه حقاً مطلقاً.
ثانياً: إنَّ
القرآن الكريم لا ينسب إلا إلى الله تعالى فيقال: قال الله تعالى، أما الحديث
القدسي وإن كان قدسياً فيروى مضافاً إلى النبي (ص) لا إلى الله تعالى.
ثالثاً:
إنَّ
القرآن الكريم جميعه تم جمعه في زمان الرسول (ص)، فهو قطعي الثبوت بينما النص
القدسي أكثره أخبار آحاد، ولذلك فهي ظنية الثبوت، فقد تكون صحيحة أو حسنة أو ضعيفة.
رابعاً: أنَّ
القرآن الكريم كلام من عند الله تعالى بألفاظه ومعانيه، أما الخطاب النبوي فمعانيه
من عند الله تعالى ولفظه من عند النبي (ص).
خامساً: إنَّ
القرآن الكريم متعبد بتلاوته لقوله (ص): "من قرأ
حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشرة أمثالها لا أقول الم حرف، ولكن ألف
حرف ولام حرف وميم حرف"، أما النص القدسي، فهو فلا يجزي في الصلاة
والعبادة، وعلى ذلك تتحدد تلك الفروقات الجوهرية بين النصوص أعني بين القرآن
الكريم وبين النص النبوي.
وهكذا فإنَّ
المغايرة بين القرآن والحديث النبوي، تتجاوز إشكالية التلقي، فالقرآن يتميز
بالإعجاز، بالإضافة إلى أنه وجد مجموعاً من اللحظة الأولى في حياة النبي وتحت
إشرافه المباشر، في حين أن الحديث القدسي يتضمن الصحيح والضعيف والموضوع المكذوب،
وهكذا فإذا كانت الأحاديث القدسية، هي من شاكلة الأحاديث النبوية، فإنه يمكن
التيقن من صحتها تماماً كما ميزنا بين الأحاديث النبوية، وفقاً لقاعدة الاتساق.
والواقع أنَّ
الحقيقة التاريخية، تؤكد أنَّ الحديث النبوي أو القدسي المنسوب إليه قد أصابه
التحريف والزيادة والنقصان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق