الخميس، 27 يوليو 2023


 

.. علي بن الحسين (الأكبر) ..

وأمه ليلى ابنة أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفى.

عروة بن مسعود شهد صلح الحديبية، زعيم من زعماء العرب، وسيد ممن ساد قومه فأحسن السيادة، وهو رابع أربعة من العرب سادوا قومهم، كما ورد عن النبي (ص) قول حول عروة، والثلاثة الآخرون، وهو قوله: "أربعة سادة في الإسلام: بشر بن هلال العبدي، وعدي بن حاتم، وسراقة بن مالك المدلجي، وعروة بن مسعود الثقفي" (أسد الغابة: ج 1 ص 227؛ ميزان الاعتدال: ج 2 ص 422).

وهذا ما نصَّ عليه القرآن في موقف معروف، إذ حكى عنهم ما قاله أحدهم -الوليد بن المغيرة- على سبيل المقارنة الفاشلة.. {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف: 31).

والمقصود من القريتين هما مكة والطائف، أما المقصود من العظيمين فيهما، فهو القائل نفسه الوليد بن المغيرة بمكة ويعني بالثاني عروة الثقفي بالطائف، كما ورد في الإصابة والاستيعاب (الاحتجاج: ج 1 ص 37؛ البرهان في تفسير القرآن: ج 3 ص 587).

أجل كان عروة شخصية مرموقة، لكنه أبى أن يزعم العظمة كابن المغيرة وأمثاله، وكان شجاعاً وجريئاً بحيث إنه صمم على أن يدعو قومه للإسلام حالما يعود إلى الطائف وهكذا كان. فبعدما أسلم على يد الرسول الذي تبع أثره من الطائف وأدركه قبل دخول المدينة، وبعد أن تمكن الإسلام والإيمان من قلبه، استأذن النبي (ص) كي يرجع لهداية قومه.

وسأل رسول الله (ص) أن يرجع إلى قومه بالإسلام. فقال: يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبصارهم، وكان فيهم محبباً مطاعاً (أسد الغابة: ج 3 ص 529؛ الاستيعاب: ج 3 ص 204).

فخرج يدعو قومه إلى الإسلام فأظهر دينه رجاء ألا يخالفوه لمنزلته فيهم، فلما أشرف على قومه، وقد دعاهم إلى دينه رموه بالنبل من كل وجه فأصابه سهم فقتله.

ومن إيمانه ورضاه وقناعته بواجب الصدع بالرسالة مع تحمل دفع الثمن باهظاً إنه أجاب بجواب واضح اليقين حينما سألوه "وقيل لعروة: ما ترى في دمك؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إليّ، فليس فيّ إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله (ص) قبل أن يرتحل عنكم. (أسد الغابة: ج 3 ص 406؛ الاستيعاب: ج 3 ص 204؛ الإصابة في تمييز الصحابة: ج 3 ص 112 – 113).

وكان من حسن العاقبة والمصير كما نسب للنبي (ص) قوله: إنّ مثله في قومه مثل صاحب يس من قومه (أسد الغابة: ج 3 ص 406؛ الاستيعاب: ج 3 ص 204؛ الإصابة في تمييز الصحابة: ج 3 ص 112 – 113) دعا قومه إلى الله فقتلوه.

في هذه الأجواء عاشت السيدة ليلى (رضي الله عنها) حيث نالت من الإيمان والحظوة لدى الله سبحانه وتعالى بحيث وُفقت لأن تكون مع نساء أهل بيت النبوة، تعيش أجواء التقى والإيمان، وتعيش آلام آل الرسول وآمالهم، وتشاطر الطاهرات أفراحهن وأتراحهن، وقد ظفرت بتوفيق كبير آخر، حيث أضحت وعاءً لأشبه الناس طراً برسول الله (ص).. فهي امرأة رشيدة، جليلة القدر، سامية المنزلة، عالية المكانة، رفيعة الشرف في الأوساط الاجتماعية، كيف لا وهي زوجة سبط سيد المرسلين وسيد شباب أهل الجنة أبي عبد الله الحسين (ع).

ولقد كان الأكبر نتاج هذا اللقاء، ومن هنا ندرك ببساطة عوامل بلوغ أحدهم مستوىً تربوياً عالياً جداً، وهي بعض عوامل تضلعهم العلم واضطلاعهم بالحكمة فضلاً عن التربية بالذات، وذلك عندما نأخذ بنظر الاعتبار وجود العناصر، أو توفر المقدمات الأساسية هذهِ سلفاً. وهي:

·    خلو الشخصية من الشوائب السلبية المعكرة والرافضة للإيجابيات والنافرة من الصفاء.

·    طهارة الروح، وصفاء النفس.

·    سلامة الضمير.. والتجاوب مع الوجدان.

·    نزاهة المشاعر، وسمو الأحاسيس.

·    التطلع للأفضل والتوق للأحسن.

·    السعي للاقتراب من الكمال وبلوغ مستوى المسؤوليات ومستوى حمل الرسالة.

هذه كلها مجتمعة تشكل تُربة الأرض الخصبة لبذر بذور التربية وغرس أشجار التربية الراسخة الأصول، الضاربة الجذور.. الثابتة في الواقع طالما تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

فهو (ع) أوّل الهاشميين الذين تقدّموا إلى الشهادة بين يدي الإمام أبي عبد الله الحسين (ع). وقد لا يسع الواصف الساعي إلى وصفه بما يكشف عن عِظم شأنه وعلّو منزلته وسموّ مقامه إلاّ أن يتمسك بالوصف الجامع المانع الذي وصفه به أبوه الحسين (ع) حين قال: "غلامٌ أشبه الناس برسول الله (ص) خَلقاً وخُلُقاً ومنطقاً!!" (راجع: مقتل الحسين للمقرم: ص 255).

وكان عمره الشريف يومئذٍ على أعلى الأقوال سبعاً وعشرين سنة، وعلى أقلّها ثماني عشرة سنة.

هل كان لعليّ الأكبر ذريّة؟

صرّح المرحوم العلوي بأنّ علي الأكبر(ع) لم يخلف عقباً وقال: روى ذلك غير واحد من شيوخنا (المجدي: ص 91)، وذكر حسام الدين في (الحدائق الوردية: ص 124) بأنه كان له عقب.

ونحن نعتقد بهذا القول الثاني، ويشهد لذلك:

1. ما ورد في زيارته (ع) المرويّة عن أبي حمزة الثمالي أنّ الأمام الصادق (ع) قال له: "ضع خدّك على القبر وقل: صلى الله عليك يا أبا الحسن" (كامل الزيارات: ص 416). وكما يحتمل أن تكون الكنية للتفاؤل بالولد الحسن، فإنه يحتمل أيضاً أنّها صدرت على الحقيقة وأنه كان له ولد اسمه الحسن.

2. رواية أحمد بن أبي نصر البزنطي تشهد بأنه كان متزوجاً من جارية له ولد منها، فإنه قال للإمام الرضا (ع): عَنِ الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ ويَتَزَوَّجُ أُمَّ وَلَدِ أَبِيهَا؟ فَقَالَ: "لَا بَأْسَ بِذَلِكَ"، فَقُلْتُ لَه: بَلَغَنَا عَنْ أَبِيكَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (ع) تَزَوَّجَ ابْنَةَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (ع) وأُمَّ وَلَدِ الْحَسَنِ، وذَلِكَ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِنَا سَأَلَنِي أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْهَا. فَقَالَ: "لَيْسَ هَكَذَا، إِنَّمَا تَزَوَّجَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (ع) ابْنَةَ الْحَسَنِ، وأُمَّ وَلَدٍ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْمَقْتُولِ عِنْدَكُمْ" (الكافي: ج 5 ص 361).

ومن المعلوم أنّ الجارية لا يقال لها أم ولد إلا إذا ولدت من سيدها، فهذا الحديث شاهد صريح على أنّ علي الأكبر كانت عنده جارية قد أولدها.

على أنَّ الاستضاءة بقول الإمام الصادق (ع) في تلك الزيارة التي رواها أبو حمزة الثمالي تكشف لنا عن حقيقة أضاعتها الحقب وهي أنّ للأكبر الشهيد أهلاً وولداً، وإن كان عقبه منقطعاً هو الآخر، فإنّ الإمام (ع) يقول فيها: "صلّى الله عليك وعلى عترتك وأهل بيتك وآبائك وأبنائك وأمهاتك الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا" (كامل الزيارات: ص 416).

ولفظ الأبناء جمع يدل على أكثر من اثنين، وكما يحتمل إرادة الصلبيين خاصّة يحتمل أيضاً أن يراد ما يعمّهم وأبناءهم لكنّ الاحتمال الثاني مدفوع بظاهر إطلاق اللفظ عند العرف، فإنه يختص بالصلبيين.

كما أنّ قوله (ع) "وعلى عترتك" دالُّ عليه فإنّ عترة الرجل ذرّيته فلو لم يكن له ذرّية لما صحّ استعمال هذا اللفظ وورود هذه الجملة في لسان الإمام العارف بخواص البلاغة ومقتضيات الأحوال أقوى برهان (عليّ الأكبر للمقرّم: ص 15، وكامل الزيارات: ص 416).

خروجه للشهادة ومحاولة أموية لاستمالته:

كانت الروح العشائرية والعصبية القبلية هي السائدة قبل مجيء الإسلام، مما أدَّى إلى صراع وخراب وسفك دماء دونما حساب، ولربما كانت لأسباب مصطنعة وهمية.

ويكفينا أن نتذكر دور زياد بن أبيه، والد عبيد الله بن زياد، وأفعاله الشنيعة عقيب استلحاق معاوية له بأبيه صخر بن حرب (أبي سفيان)، وكانت لهذه الرابطة الوهمية ويلاتها ومآسيها التي تصبُّ في مصلحة ملك معاوية ولتمكينه من رقاب المسلمين.

فعادت المعالم الجاهلية لتسود في زمن بني أمية، وكان لها أثرها الكبير في صنع الأحداث وفي إشعال حروب متكررة ضد آل الرسول.

فكانت استمالة بعض العناصر وفق منطق الصراع القبلي هو الأسلوب الأفضل، وهو ما يسمى بسياسة "فَرِّقْ تَسُدْ. فالعصبيّة التي أماتها الاسلام كان معاوية قد أطلق لها العنان لتمزِّق شمل الأمة، وفجر التناحر القبلي تفجيراً شديداً، واحتقر الموالي واضطهدهم، وأذلَّ الفقراء، وفرَّق بين البلدان الإسلامية في العطاء والمنزلة، كما فرَّق بين أشراف القبيلة الواحدة وبين عامتها، كل ذلك من أجل أن تجد الأمة نفسها في حال تمزقها وتناحرها مضطرة إلى التقرّب إليه بالطاعة والانقياد لأوامره" (مع الركب الحسيني: ج 1 ص 129-130).

ولهذا دعا معسكر يزيد علي الأكبر -حسب قول أبي نصر البخاري- إلى الأمان، وقالوا: "إنّ لك رحماً بأمير المؤمنين يزيد بن معاوية، يريدون رحم ميمونة بنت أبي سفيان. (سر السلسلة العلوية: ص 30). حيث كانت أم ليلى هي ميمونة بنت أبي سفيان ابن حرب.

يقول الزبيري: "وكان رجل من أهل العراق!! دعا علي بن الحسين الأكبر إلى الأمان، وقال له: إنّ لك قرابة بأمير المؤمنين يعني يزيد بن معاوية، ونريد أن نرعى هذا الرحم! فإن شئت أمناك" (نسب قريش: ص 57).

فما هو موقف علي الأكبر من ذلك العرض؟؟

لا بدَّ أن ندرك أنه عرض رخيص، وعلي الأكبر لا يركن إلى مثل هذه العروض الدنيئة. وقد سبق له أن استجاب لعرض لا يدانيه عَرض آخر، لهذا أصحاب العرض الرخيص بجواب قاطع: "لقرابة رسول الله (ص) أحق أن ترعى" (نسب قريش: ص 57)...

فلا رحم ولا قرابة أقدس مما وصى القرآن بها وحرص بشدة عليها، فأي يزيد أم أية رحم أموية هذه.

"لقرابة رسول الله أحق أن ترعى من قرابة يزيد بن معاوية.. ثم شد عليهم".

وحمل عليهم وهو يقول:

أنا علي بن الحسين بن علي              نحن وبيت الله أولى بالنبي

والله لا يحكم فينا ابن الدعي           أطعنكم بالرمح حتى ينثني

ضرب غلام هاشمي علوي

قال ابن أعثم: فتقدم نحو القوم، ورفع الحسين شيبته نحو السماء وقال: "اللهم اشهد على هؤلاء القوم! فقد برز إليهم غلام أشبه القوم خلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك محمد (ص)، فامنعهم بركات الأرض، فإن متعتهم إلى حين ففرقهم فرقاً، وأقطعهم قطعاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترض الولاة عنهم أبداً، فإنهم دعونا لينصرونا، ثم عدوا علينا يقاتلوننا".

ثم صاح الحسين بعمر بن سعد فقال: "ما لك قطع الله رحمك، ولا بارك لك في أمرك، وسلَّط عليك بعدي من يقتلك على فراشك، كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من محمد (ص)".

ثم رفع الحسين صوته وقرأ: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الفتوح: ج 5 ص 114؛ مقتل الحسين للخوارزمي: ص 34).

الأربعاء، 26 يوليو 2023


 

عاشورائيات 8

 

 

.. تدبر العواقب ..

في الرواية المعتبرة عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام: إِنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْصِنِي. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله: "فَهَلْ أَنْتَ مُسْتَوْصٍ إِنْ أَنَا أَوْصَيْتُكَ". قال: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله: "فَإِنِّي أُوصِيكَ إِذَا أَنْتَ هَمَمْتَ بِأَمْرٍ فَتَدَبَّرْ عَاقِبَتَهُ، فَإِنْ يَكُ رُشْداً فَامْضِهِ، وَإِنْ يَكُ غَيّاً فَانْتَهِ عَنْهُ" [الكافي: ج 8 ص 149].

وفي رواية أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر عليه السلام، عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: "إِذَا هَمَمْتَ بِأَمْرٍ فَتَدَبَّرْ عَاقِبَتَهُ، فَإِنْ يَكُ خَيْراً أَوْ رُشْداً اتَّبَعْتَهُ، وَإِنْ يَكُ شَرّاً أَوْ غَيّاً تَرَكْتَهُ" [الفقيه: ج 4 ص 410].

وفي وصية الإمام علي عليه السلام لولده محمد بن الحنفية: "أَلا وَمَنْ تَوَرَّطَ فِي الأُمُورِ غَيْرَ نَاظِرٍ فِي الْعَوَاقِبِ، فَقَدْ تَعَرَّضَ لِمُفْضِحَاتِ النَّوَائِبِ، وَالتَّدْبِيرُ قَبْلَ الْعَمَلِ يُؤْمِنُكَ مِنَ النَّدَمِ، وَالْعَاقِلُ مَنْ وَعَظَتْهُ التَّجَارِبُ، وَفِي التَّجَارِبِ عِلْمٌ مُسْتَأْنَفٌ" [الفقيه: ج 4 ص 388].

لو تأملنا هذه الوصايا، لرأينا أنّه من الضروري أن يلتزمها الإنسان ويحتكم إليها في كل قضايا الحياة، وفي كل ما يريد أن يأخذ به الإنسان من خيارات؛ لأنّ لكل شيء من الأشياء بداية ونهاية.

قد تكون البداية (جيدة) ولكن النهاية (سيئة)، ربما يجد الإنسان بداية الأشياء حلوة ولكن نهايتها مرة، وكم من الناس الذين فرحوا كثيراً عندما حصلوا على بعض ما كانوا يأملون، ولكن النتيجة كانت حزناً وبكاء.

ومن الواضح أنّ التزام الإنسان بهذا الخط، يجعله يتفادى الكثير من النتائج السيئة في الدنيا والآخرة، لذا لا بدّ للإنسان من أن يدرس ذلك جيداً..

إذا أردت أن تدخل في مشروع شخصي لحياتك، كمشروع زواج -مثلاً- عليك أن لا تنظر إلى ما يشوِّقك في الإنسان الآخر من جمال الوجه أو غنى المال أو ما إلى ذلك..

إذن ما الذي عليك أن تنظره؟!

عليك أن تنظر إلى النتائج التي يمكن أن تحصل لك من هذه العلاقة الإنسانية.

وكيف يكون ذلك؟

أن تدرس الخصائص والعناصر الموجودة لدى هذا الإنسان، هل هي العناصر التي تؤدي بك إلى الحياة الزوجية السعيدة أو لا تؤدي بك إلى ذلك؟

إذن: لا تستعجل في قرارك وتنطلق فيه من موقع عاطفي، أو من ضغوط اجتماعية أو عائلية؛ لأنّ العواقب عندما تكون سيئةً فإنّها قد تدمّر لك حياتك وحياة الإنسان الآخر.

وحتى تنطلق في هذه الحياة، وتعمِّر للآخرة جيداً، فما عليك إلا أن تستفيد من تجارب الحياة لتتقدم، وتسعى في الدنيا وأنت مطمئن، وتترقى في الآخرة بإذن الله لأنّ الميزان الإلهي في القرآن يقول {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا}.

ويتفق معظم علماء الإدارة على أنّ (التخطيط) عملية تتعلق بالمستقبل، وتتنبأ به وتتوقعه ويجب أن تكون (المرونة والدقة) من أهم سمات التخطيط؛ فـ(المرونة) تحسباً لما قد يطرأ في المستقبل من تغييرات غير متوقعة، و(الدقة) لضمان تحقيق الأهداف التي يسعى التخطيط لتحقيقها ومن هنا فالتخطيط هو: "عبارة عن عملية اتخاذ قرارات لتحديد اتجاه المستقبل".

تأملات على مستوى المصلحة العامة:

عندما تتعارض مصلحة الفرد مع المصلحة العامة فإنه يجب خضوع مصلحة الفرد للمصلحة العامة. أي أنه يجب على كل قائد تربوي أن يجعل مصلحة الوطن والأمة في المقام الأول.

ومن هنا عندما ننفذ إلى الواقع الاجتماعي، ولا سيما في المسائل التي لها صلة بتأييد شخصية اجتماعية معينة أو رفضها، بحيث يترتب على أساس ذلك نتائج سيئة أو حسنة.

ففي هذه المسألة علينا أن ندرس العواقب، ونتساءل لو أنّ فلاناً أصبح رئيس جمعية أو رئيس قبيلة وعائلة أو أصبح الشخص المبرَّز في هذا الجانب الاجتماعي أو في ذاك الجانب، ماذا يحدث؟ هل سيصلح أمر العائلة والقبيلة والجمعية أم يفسد؟

إذاً لا بدّ أن تتخذ قرارك من خلال التفكير في النتائج التي يؤدي إليها خيارك أنت. لا تنظر إلى أنّ هذا الإنسان المرشَّح للجمعية أو ما إلى ذلك أنّه ابن عائلتك أو صديقك أو قريبك، أو أنّه من جماعة السياسي الفلاني أو ذاك، بل انظر إليه من خلال مسؤوليتك عن قرارك في القضايا الاجتماعية بما يحقق للمجتمع سلامته وبما يرفع مستواه.

وكذلك الأمر عندما تهم بتأييد شخص في المسألة السياسية أو برفض شخص آخر، فلا يكن همك محصوراً بتحقيق مصالحك، أي كم تنتفع من هذا شخصياً أو لا تنتفع، أو مصالحك العائلية، باعتبار هذا المرشح ابن عائلتك أو ابن بلدك.

إذن فكّر ما هي المصلحة السياسية للأمة عندما ينجح هذا أو عندما يفشل ذاك، لأنّك سوف تتحمل المسؤولية في الدنيا أمام الأمة التي خذلتها في التصويت لمن لا يستحق أن يكون نائباً عنها، أو خذلتها برفض التصويت لمن يستحق أن يكون نائباً عنها.

حتى على مستوى المرجعية يقول الشيخ عباس القمي في ترجمة السيد محمد الطباطبائي الفشاركي: "كان من خواص أصحاب سيدنا الأستاذ المجدد وأهل مشورته في الأمور العامة والمصالح النوعية الدينية إلى أن توفي سيدنا في شعبان سنة 1312هـ، فجاء جماعة من الأفاضل الذين كانوا يعتقدون أنه الأعلم بعد السيد الأستاذ وسألوه التصدي للأمور، فقال رحمه: أنا أعلم أني لست أهلاً لذلك؛ لأنّ الرياسة الشرعية تحتاج إلى أمور غير العلم بالفقه والأحكام، من السياسات ومعرفة واقع الأمور وأنا رجل وسواسي في هذه الأمور، فإذا دخلت أفسدت ولم أُصلح ولا يسوغ لي غير التدريس، وأشار عليهم بالرجوع إلى جناب الميرزا محمد تقي الشيرازي".

وهكذا بالنّسبة إلى التحديات التي تواجه المسلمين من خلال الذين يخطّطون لإسقاطهم، إذ لا بدَّ لنا من أن ندرس خلفيّات هؤلاء والخطّة التي يرسمونها من أجل إسقاط الواقع الإسلامي، ولذلك أراد الله تعالى من المسلمين أن يصبروا: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ}، أن لا تندفعوا بطريقة عشوائية، ولكن تماسكوا وادرسوا الموضوع بهدوء؛ لأنّ الإنسان عندما يصبر، فإنه يستردُّ عقله، لذلك فإنَّ دور الصبر هو أن يجعلك تفكِّر، ويجعلك ترسم الخطة وتواجه الخطة الأخرى.

والتقوى هي أن تخطِّط بالوسائل وبالطريقة التي تستطيع من خلالها أن تصل إلى النتائج من أقرب طريق، {فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور}.

فالصبر لا يُمثِّل ضعفاً للصابر كما قد يُخيّل للناس؛ لأنّ الصبر هو الذي يجعل الإنسان يقود حياته ولا يجعل الحياة تقوده، لأنه يتّصل بمسؤوليّاته في طاعة الله تعالى، وفي البعد عن معصيته في مواجهة البلاء. ولهذا، فإنَّ الله سبحانه وتعالى لم يجعل قيمة من كلِّ القيم في مستوى قيمة الصبر.

لذلك، فكّر عندما يقول لك الشيطان إنّ "في الخمر ربحاً أو في تجارة الميتة أو في المخدرات ربحاً".

قل له كما قال الحر بن يزيد الرياحي عندما عُرض عليه أن يترقى في مناصبه إلى أعلى الدرجات مقابل أن يشارك في الحرب ضد الحسين عليه السلام: "إنّي أخيّر نفسي بين الجنة والنار، فوالله لا أختار على الجنة شيئاً ولو قُطّعت أو حرّقت".

وبالموقف ذاته، عليك مقابلة الناس الذين يدعونك للانتماء إلى الظالمين ولأن تساعدهم وتحارب في سبيلهم وتبرّر ظلمهم، لتكون من أعوان الظلمة، فهنا عليك أن لا تفكر في ما تحصل عليه من ربح سريع، ولكن عليك أن تفكر في الخسارة في الدار الآخرة، وتلك هي الخسارة كل الخسارة، فقد قال الله تعالى: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}، فما قيمة أن تحصل على حفنة مال من الحرام مقابل أن تخسر نفسك عندما تضيّع الجنة وتهوي إلى النار؟!

نعم إذا كنت مثل علي بن يقطين الذي قال فيه الإمام الكاظم عليه السلام: "يا عليّ، إنَّ لله تعالى أولياء مع أولياء الظَلَمة ليدفع بهم عن أوليائه، وأنت منهم يا عليّ" [الكشي: 367].

وأنَّه كتب إلى أبي الحسن موسى عليه السلام: "أنَّ قلبي يضيق مما أنا عليه من عمل السلطان، فإن أذنت لي -جعلني الله فداك- هربت منه، فرجع الجواب: لا آذن لك بالخروج من عملهم واتّقِ الله" [قرب الإسناد: 170].

أنصار الحسين:

وهم الذين وصفهم الحسين عليه السلام بقوله: "اللهم إني لا أعرف أهل بيت أبرَّ ولا أزكى ولا أطهر من أهل بيتي ولا أصحاباً هم خير من أصحابي".

كان فيهم زهير بن القين الذي كان يملك المال والعيال والزعامة في قومه، والوجاهة في بلده فما أسره المال ولا العيال.

ينزل الحسين في زرود، وينزل بالقرب منه زهير بن القين البجلي، وكان غير مشايع له ويكره النزول معه، ولكن الماء جمعهم في هذا المكان.

روى السدّي عن رجل من بني فزارة كان يرافق زهيراً في السفر الذي التحق فيه بالحسين، قال: كنّا مع زهير بن القين البجلي رحمه الله حين أقبلنا مكة نساير الحسين عليه السلام، فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن نسايره في منزله، فإذا سار الحسين عليه السلام تخلّف زهير بن القين، وإذا نزل الحسين تقدم زهير، حتى نزلنا يومئذ في منزل لم نجد بدّاً من أن ننازله فيه، فنزل الحسين عليه السلام في جانب ونزلنا في جانب، فبينا نحن جلوس نتغذى من طعام لنا، إذ أقبل رسول الحسين عليه السلام حتى سلّم ثمّ دخل، فقال: يا زهير بن القين، إنّ أبا عبد اللّه الحسين بن علي عليه السلام بعثني إليك لتأتيه. قال: فطرح كل إنسان ما في يده حتى كأنّنا على رؤوسنا الطير.

فقالت دلهم بنت عمرو امرأة زهير بن القين: أيبعث إليك ابن رسول اللّه ثمّ لا تأتيه؟ سبحان اللّه! لو أتيته فسمعت من كلامه ثمّ انصرفت.

فأتاه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أسفر وجهه.

فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه فقدم... وحمل إلى الحسين عليه السلام. ثمّ قال لامرأته: الحقي بأهلكِ فإنّي لا  أحب أن يصيبكِ بسببي إلاّ خير.. وقد عزمت على صحبة الحسين عليه السلام لأفدِّيه بنفسي وأقيه بروحي. ثمّ أعطاها مالها وسلّمها إلى بعض بني عمّها ليوصلها إلى أهلها، فقامت إليه وبكت وودّعته وقالت: كان الله عوناً ومُعيناً ، خار الله لك. أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدّ الحسين عليه السلام.

ثمّ قال لأصحابه: مَن أحبّ منكم أن يتبعني وإلاّ فإنّه آخر العهد. إنّي سأحدّثكم حديثاً. غزونا بلنجر ففتح اللّه علينا وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان الباهلي -وفي روايات أخر سلمان الفارسي-: أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من المغانم؟ فقلنا: نعم. فقال: إذا أدركتم سيد شباب آل محمّد عليه السلام فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معهم بما أصبتم من الغنائم. فأمّا أنا فإنّي استودعكم الله.

(زاهر بن عمرو الكندي) صاحب عمرو بن الحمق..

لقد توحد الأنصار بالحسين عليه السلام، وتوحدت مواقفهم ودماؤهم وكلماتهم، وتوحد الصدق في عهدهم، ولقد قال لهم الإمـام عليه السلام بكل وضوح: "إنكم تقتلون غداً لا يفلت منكم رجل".

فقالوا: الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك، وشرّفنا بالقتل معك.

 

الاثنين، 24 يوليو 2023


 

عاشورائيات 7

 

.. القاعدة القرآنية في أسلوب الدعوة إلى الله ..

{وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.

السب أو الشتم هو عبارة عن توصيف الآخر بما فيه نقص وإزراء بقصد إهانته، كوصفه بالحقارة والوضاعة، أو تشبيهه بالحيوانات، والكفر والارتداد والخيانة واللعن والفجور... إلى غير ذلك من كلمات السباب التي نستهلكها وإذا لم تسعفنا القواميس العربية بها رغم وفرتها استوردنا من اللغات الأخرى شتائمها.

تعتبر هذه الآية الكريمة قاعدةً إسلامية لسلوك الدعوة في الحياة، وهي تريد إبعاد الدعاة عن أساليب السباب والشتائم، في ما يخوضون فيه من صراع الفكر والفكر المضاد؛ لأنّ هذه اللغة تجر إلى ردود فعل حيث تضع الموقف في نطاق المهاترات، وتبعده عن أجواء الحوار الهادئ الموضوعي.

ثم إنّ الآية تحدثت عن هذه القاعدة من خلال نموذجٍ حيٍّ، حيث كان المسلمون الأولون، عندما تتعقد في داخلهم الأزماتُ النفسية، من جرَّاء ما يواجهونه من حقد المشركين وعداوتهم وطغيانهم، لا يجدون سبيلاً للتنفيس إلا في سبِّ المشركين وشتمهم، وهو تعبير عن رفض المسلمين لكل أنواع الشرك بالله.

ولكنهم لم يتنبهوا إلى أنّ ذلك قد يخلق في داخل المشركين لوناً من ألوان الإثارة ورد الفعل العنيف، فيكون ردُّ فعلهم أن يواجهوا السبَّ بسبٍّ مثله.. فيسبوا الله، تنفيساً عن غيظهم، وتعبيراً عن حقدهم، لأنّهم يرون أنّ السبيل الوحيد لرد الاعتبار لآلهتهم، هو مهاجمة اسم الله، وهو في ذلك تحقير للمؤمنين به.

وقد أراد الله سبحانه في هذه الآية، أن يَنْهى المسلمين عن المبادرة إلى سبِّ الذين يدعون من دون الله بغير علم، أو سبِّ آلهتهم في عملية المواجهة؛ لأنّ ذلك لن يحقق أيةَ نتيجة إيجابية لمصلحة الإيمان؛ لأنّه لن نستطيع إقناع شخص واحد بهذا الأسلوب، بل ربما أدَّى إلى تعقيد الأمور بطريقة أكبر، وإقامة الحواجز النفسية ضد الإيمان والمؤمنين، وتحويل الموقف إلى سبِّ الله من قبل المشركين.

فالقضية إذن ليست في كون المشركين وآلهتهم يستحقون السبَّ أو لا يستحقونه لكي ندخل في نزاع وجدال حول ذلك، بل القضية هي أنّ على الإنسان عندما يقوم بعمل ما، أن يحدد هدفه من خلاله في ما يتحرك فيه من أهداف تتعلق بمصلحته الذاتية أو العقدية أو الحياتية بشكل عام. فذلك هو ما يحقق للإنسان مصداقيته الإنسانية، ومعناه الحقيقي.

ولا يجوز للإنسان الذي يحترم نفسه ومصيره، أن يخضع لحالة انفعالية طارئة، فتكون تصرفاته ردَّ فعلٍ عصبي لتلك الحالة.

وفي الصحيح عن أبي بصير، عن الباقر -عليه السلام- قال: "إِنَّ رَجُلًا مِنْ تَمِيمٍ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله فَقَالَ: أَوْصِنِي، فَكَانَ فِيمَا أَوْصَاهُ أَنْ قَالَ: "لَا تَسُبُّوا النَّاسَ فَتَكْسِبُوا الْعَدَاوَةَ لَهُمْ" [الكافي:  2 / 360].

وهذا ما جاء في بعض كلمات الإمام علي -عليه السلام- في ما كتبه لعبد الله بن عباس: "فَلا يَكُنْ أَفْضَلَ مَا نِلْتَ فِي نَفْسِكَ مِنْ دُنْيَاكَ بُلُوغُ لَذَّةٍ أَوْ شِفَاءُ غَيْظٍ وَلَكِنْ إِطْفَاءُ بَاطِلٍ أَوْ إِحْيَاءُ حَقٍّ".

الآن لو فرضنا أنّ هناك "أكلةً" تحبها كثيراً وحصلت عليها وأكلتها، كم هو وقت إحساسك باللذّة عندما تكون الأكلة في لسانك؟! لحظة، لكن بعد ذلك عندما تدخل إلى المعدة فهل تحسّ بها؟ جربوا كلَّ اللذات، إحساسك باللذة أو شفاء الغيظ هو لحظة، وعليك أن لا تخضع كل حياتك للحظة. وهل هذه هي أفضل ما نلته؟!، لكن ما هو الذي يبقى "وَلَكِنْ إِطْفَاءُ بَاطِلٍ أَوْ إِحْيَاءُ حَقٍّ"، هو أن تصل إلى الأسلوب، إلى الوسائل التي تُطفئ الباطل الذي أراد الله سبحانه وتعالى لك أن تطفئه وحمّلك مسؤولية إطفائه، وإحياء الحق يكون كما يريد الله سبحانه وتعالى.

ولعلنا نستوحي من هذا الخط الأخلاقي في السلوك العملي والنفسي، أنه -عليه السلام- لم يتحدث في الخطبة الشقشقية عن حرمانه من حقه في الخلافة من خلال الحزن على ما فاته منها، كما لم يتحدث عن حصوله عليها بزهوٍ وفرح، بل كان يتحدث بهدوء الإنسان المسؤول الذي يثير النقد للموقف، ليوجِّه الوعي إلى اكتشاف الخلل فيه، لئلا يبقى نهجاً للمستقبل في نظر الناس الذين انفتحوا عليه في واقع التجربة، أو في ما ينقله التاريخ منها، فهو لا يريد للخطأ أن يأخذ صورة الصواب، ولا يرضى للانحراف أن يأخذ دور الاستقامة في القداسة، ولذلك كان نقده نقداً رسالياً يستهدف تصحيح النظرة إلى التجربة، كما كان يخطِّط للمستقبل في مسألة الحكم أن يكون حركةً في اتجاه إقامة العدل وهدم الظلم، لا حالةً ذاتية في الطموح والعنفوان.

إذن السب لن يشارك في إحياء الحق وإطفاء الباطل، بل يمثل مجرد حالة ذاتية (بلوغ لذة وشفاء غيظ). والمسلم لا يجوز أن يبادر إلى ذلك؛ لأنّه يسيء إلى الهدف.

كيف نقابل السبّابين؟

نعتقد أنّ الأسلوب الأنجع يتلخص في:

1 - المحاججة بالمنطق والبرهان لو وجد المرء آذانا صاغية عند الساب، وإن كان الغالب أنّ الساب قد ختم على سمعه وعقله بالشمع الأحمر.

2 - العفو والصفح عنه والإعراض وقول "سلاماً" له إذا كان من السفهاء الجاهلين، وبهذا ينأى الإنسان بنفسه عن الانحطاط إلى مستواه وربما يوقظ أسلوب العفو ضميره ويعيده إلى سواء السبيل.

وهذه مدرسة أمير المؤمنين -عليه السلام- فإنّه كان يقابل السيئة بالحسنة والشتيمة بالعفو، فقد كان جالساً في أصحابه فمرت بهم امرأة فرمقها القوم بأبصارهم فقال -عليه السلام-: "إِنَّ أَبْصَارَ هَذِهِ الْفُحُولِ طَوَامِحُ، وَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبُ هِبَابِهَا، فَإِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى امْرَأَةٍ تُعْجِبُهُ فَلْيُلامِسْ أَهْلَهُ، فَإِنَّمَا هِيَ امْرَأَةٌ كَامْرَأَتِهِ. فقال رجل من الخوارج: ‏قَاتَلَهُ اللهُ، كَافِراً مَا أَفْقَهَهُ. فَوَثَبَ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ -عليه السلام-: رُوَيْداً إِنَّمَا هُوَ سَبٌّ بِسَبٍّ، أَوْ عَفْوٌ عَنْ ذَنْبٍ" [نهج البلاغة: قصار الحكم 420].

(قصة) ولقد شتم رجل أبا ذر الغفاري، فقال لشاتمه: "يَا هَذَا لا تُغْرِقْ فِي شَتْمِنَا وَدَعْ لِلصُّلْحِ مَوْضِعًا، فَإِنَّا لا نُكَافِئُ مَنْ عَصَى اللهَ جَلَّ وَعَزَّ فِينَا بِأَكْثَرَ مِنْ أَنْ نُطِيعَ اللهَ فِيهِ".

3 - الدعاء له بالهداية: وهذا ما نتعلمه من علي -عليه السلام- أيضاً فإنّه لما سمع أصحابه يشتمون أهل الشام دعاهم إلى الدعاء لهم: "... وَقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَدِمَاءَهُمْ وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِمْ وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلالَتِهِمْ " [نهج البلاغة: الخطبة 206].

مع مسلم ابن عقيل:

ويعلمنا مسلم بن عقيل -عليه السلام- في درساً هاماً أن لا نتجاوز في صراعاتنا القواعد الشرعية والأخلاقية، ولذا عندما قدر على أن يفتك بعبيد الله بن زياد الطاغية في بيت هانئ بن عروة رفض ذلك وقال: "الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مسلم".

فإذا أردت أن يكون هدفك شريفاً وسامياً يتطلب منك وسيلة وأسلوباً متناسبا مع ذلك الهدف.. ولا تبرر أهمية الهدف باستخدام الوسائل السيئة، وهذا ما عرف اليوم بأنّ الغاية أي الهدف الجيد لا تبرر الوسيلة (السيئة).

أليس مسلم هو ربيب عمه علي -عليه السلام-؟!

وعلي -عليه السلام- لا يغدر ولا يفجر، وإن انتهى حفاظه على القيم إلى أن ينهزم في الظاهر، ويفوز عدوه الذي لا يلتزم بأخلاق في صراع فهو لا يطلب النصر بالجور والغدر "وَاللهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي، وَلَكِنَّهُ يَغْدِرُ وَيَفْجُرُ. وَلَوْ لَا كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ، وَلَكِنْ كُلُّ غُدَرَةٍ فُجَرَةٌ، وَكُلُّ فُجَرَةٍ كُفَرَةٌ، وَلِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" [الخطبة: 200].

وربما يفوز هذا الثاني لفترة مؤقتة ولكن النصر النهائي هو لصاحب المنهج الأخلاقي.

ولذا اختار الإمام الحسين -عليه السلام- ابن عمه مسلماً سفيراً عنه إلى العراق: "وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ أَخِي وَابْنَ عَمِّي وَثِقَتِي مِنْ أَهْلِ بَيْتِي وَأَمَرْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيَّ بحالِكم وَأَمْرِكمْ وَرَأْيِكمْ، فَإِنْ كَتَبَ أَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ رَأْيُ ملأِكم وَذَوِي الْفَضْلِ وَالْحِجَى مِنْكُمْ عَلَى مِثْلِ مَا قَدِمَتْ عَلَيَّ بِهِ رُسُلُكُمْ وَقَرَأْتُ فِي كُتُبِكمْ، أَقْدِمُ عَلَيْكُمْ وَشِيكاً إِنْ شَاءَ اللهُ..".

ولقد كان موقف أولاده في كربلاء لا يقل عن موقف أبيهم -عليه السلام- حيث كتبوا بدمائهم الزكية شهادة قل مثيلها.

أ- فهذا ولده عبد الله وأمه رقية بنت أمير المؤمنين.. عندما قام الحسين -عليه السلام- في أصحابه خطيباً: "اللهم إني لا أعرف أهل بيت أبرَّ ولا أزكى ولا أطهر من أهل بيتي ولا أصحاباً هم خير من أصحابي، وقد نزل بي ما قد ترون وأنتم في حل من بيعتي، ليست لي في أعناقكم بيعة، ولا لي عليكم ذمة، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً وتفرقوا في سواده، فإنّ القوم إنما يطلبوني".

قام إليه عبد الله بن مسلم فقال: "يا بن رسول الله ماذا يقول لنا الناس إن نحن خذلنا شيخنا وكبيرنا وسيدنا وابن سيدنا سيد الأعمام وابن نبينا سيد الأنبياء، لم نضرب معه بسيف، ولم نقاتل معه برمح، لا والله أو نرد موردك ونجعل أنفسنا دون نفسك، ودماءنا دون دمك، فإذا فعلنا ذلك فقد قضينا ما علينا وخرجنا مما لزمنا".

قال أبو مخنف: برز ووقف بإزاء الحسين -عليه السلام- وقال: يا مولاي أتأذن لي بالبراز؟

فقال له الحسين: يا بني كفاك وأهلك القتل. أنت في حل من بيعتي، حسبك قتل أبيك مسلم، خذ بيد أمك واخرج من هذه المعركة.

فقال: يا عم! بأي وجه ألقى جدك محمداً صلى الله عليه وآله وقد تركتك، يا سيدي لا والله لا كان ذلك أبداً بل أُقتل حتى ألقى الله بذلك، لست والله ممن يؤثر دنياه على آخرته.

يقول ابن شهر آشوب: "أول من برز من بني هاشم: عبد الله بن مسلم... فقاتل حتى قتل ثمانية وتسعين رجلاً بثلاث حملات".

ب - أما ولده محمد -وأمه أم ولد-، وله من العمر اثنتا عشرة سنة أو ثلاث عشرة استشهد بعد أخيه عبد الله.

ج - الشهيدان بالمسيب فهو ولدان لمسلم - قاله الصدوق- ذبحا على شط الفرات ورميا في الفرات بعد الذبح والقبتان المشيدتان في المسيب باسم ولدي مسلم شيّدا على موضع سجنهما أو موضع ذبحهما.

ولأجل ذلك قال الحسين: "اللهم اقتل قاتل آل عقيل".

الأحد، 23 يوليو 2023


 

عاشورائيات 6

 

مسؤولية الكلمة:

ليست الكلمات التي نتفوه بها فقاقيع صابون تطفو على سطح ألسنتنا لتنفجر في الهواء بسرعة.. فالكلمة في الإسلام مسؤولية {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] رقيب يراقب أقواله في الخير وفي الشر، ذلك لأنّ اللسان كما في حديث الإمام الباقر عليه السلام: "مِفْتَاحُ خَيْرٍ وَمِفْتَاحُ شَرٍّ، فَاخْتِمْ عَلَى لِسَانِكَ كَمَا تَخْتِمُ عَلَى ذَهَبِكَ وَوَرِقِكَ" [الكافي: ج 2 ص 114].

وفي معتبرة مَسْعَدَةَ عن أبي عبد الله عليه السلام، عَنْ أَبِيهِ عليه السلام، أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ وَقَدْ كَلَّمَهُ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ فَقَالَ: "أَيُّهَا الرَّجُلُ تَحْتَقِرُ الْكَلَامَ وَتَسْتَصْغِرُهُ، اعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَبْعَثْ رُسُلَهُ حَيْثُ بَعَثَهَا وَمَعَهَا ذَهَبٌ وَلَا فِضَّةٌ وَلَكِنْ بَعَثَهَا بِالْكَلَامِ وَإِنَّمَا عَرَّفَ اللهُ جَلَّ وَعَزَّ نَفْسَهُ إِلَى خَلْقِهِ بِالْكَلَامِ وَالدَّلَالَاتِ عَلَيْهِ وَالْأَعْلَامِ" [الكافي: ج 8 ص 148 ح 128].

فمسؤولية الكلمة تتحدد في:

· التفكير بها قبل إطلاقها.

· اختيار الأحسن من بين الكلمات الحسنة الكثيرة.

· إتباع الأسلوب الأمثل في إطلاقها.

· دراسة انعكاسها وتأثيرها على من يتلقّونها.

وتلك عملية تحتاج إلى شيء من التدريـب، فالتسرع في قذف الكلمات كثيراً ما يؤدي إلى نتائج سلبية وأحياناً وخيمة، والتأني في انتقاء الألفاظ وصياغتها بأسلوب محبب، غالباً ما يؤدي إلى نتائج إيجابية طيبة.

فكلماتنا الجميلة هي مثل الهدايا.. يستحسن أن نقدمها مغلفةً بغلاف جميل حتى تسر الذين نقدمها إليهم. وكلماتنا الناقـدة مثل وخزات الإبر.. يفضل أن لا تكون موجعة للدرجة التي تجرح سامعيها.

وبعد حين من المراس والتمرين سـيكون لنا قاموسـنا الخاص في الكلمات المهذبة والكلمات النقدية الصريحة، فنحن في الحالين نريد أن نصل إلى عقول الناس عن طريق قلوبهـم، ولا يكون ذلك إلاّ بإتباع الأسلوب الذي علّمنا القـرآن إيّاه {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53].

كيف تكون الكلمة التي يطلقها الإنسان في الحوار أو التخاطب الاجتماعي؟

هل هي الكلمة التي يوحي بها المزاج، في لحظة انفعال؟ أو هي الكلمة التي يخطط لها العقل، ويحركها الإيمان؟

للكلمة مدلولها في حسابات الفعل وردّ الفعل، وأثرها السلبي أو الإيجابي في حركة العلاقات الخاصة والعامة، وفي إثارة المشاكل أو في حلّها.. وهذا ما يريد القرآن: توجيه الإنسان إليه في دراسة الفكرة التي يريد أن يحركها في المجتمع، ليختار الفكرة الأفضل التي تفتح القلوب على المحبة، والمشاعر على الرحمة، والعقول على الخير والحقيقة. ثم يدرس الكلمة الأحسن التي لا تختزن الحساسيات المعقَّدة في اللفظ والمدلول. وخاصة في سوح البيانات التي تصدر في المجتمع بين فترة وأخرى.

دور الكلام في التواصل بين الناس:

نتحدث عن التواصل من حيث هو دعوة وأمانة في أعناقنا، والكلام لا يقتصر فقط على الدعوة، بل هو مرتبط بعلاقتنا بأصدقائنا، بأبنائنا، بآبائنا، بزوجاتنا وأزواجنا.

وهنا نطرح سؤالاً: هل المهم (ما نقول) أو المهم (كيف نقول)؟

هذه قضية لعلنا نستطيع أن نأتي عليها أثناء بحثنا.

ولكن سأتحدث أولاً عن موضوع التواصل بين الناس، فنحن البشر بصفة عامة عندنا:

1- حاجات عضوية: كالحاجة للطعام، والشراب، والنوم، ووهي بطبيعة الحال حاجات محدودة.

2- حاجات نفسية: وكثير من الناس يغفلون عن أهميتها. وعلى رأس هذه الحاجات النفسية: الحاجة للحب، والحاجة للانتماء إلى مجموعة بشرية، وكذلك التقدير من قبل المجموعة التي ينتمي إليها الفرد. وهذه الحاجات كلها تتأثر تأثراً كبيراً بمنطوق الكلمة وبطريقة نطق الكلمة.

يروي سهل بن ساعد قال: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلامٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ، وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارهِ.

فقال صلى الله عليه وآله: يَا غُلامُ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ الأشْيَاخَ؟ (لأنّ الآداب تقتضي -وفقاً للسنة النبوية- أن يُعطى لمن هو على اليمين، إلا أنّ من هو عن يمنيه طفل صغير).

فقال الغلام: مَا كُنْتُ لأوثِرَ بِفَضْلِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللهِ.. فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ.

ما الذي سيشعره هذا الطفل الصغير وقد قدَّره أكبر شخص في هرم الأمة؟ ألا ينظر إلى ذاته نظرة احترام وتقدير؟!

لقد ثبت أنّ الأفراد الذين يتواصلون مع غيرهم تواصلاً إيجابياً يختلفون في نسبة إصابتهم بالأمراض، فمن كانت صداقاته أقل وتواصله أقل يكون عرضة للإصابة بالأمراض بنسبة ثلاثة أمثال من له صداقات.

فالتواصل بين البشر ليس له فقط فائدة على مستوى نقل الأفكار والمعلومة، بل له أثر كبير جداً على الحاجات النفسية التي وهبنا الله إياها.

وهنا نطرح سؤالاً: هل الكلمة التي تُنطق هي ذات الأثر الحقيقي في التواصل بينك وبين الآخرين، أم أنّ نبرة الصوت يمكن أن يكون له أثره في النفس؟

مهما كانت درجة البلاغة فهي لا تضمن قبول الأفكار، وتبقى بحاجة لتدعيم ومساندة من خلال الوضعية العامة للمتحدث وهيئته وجلسته؛ لأنّ الكثير من المصداقية نستمدها من انسجام وضعيتنا العامة مع ما نقوله ونبشر به أو نحذر منه.

وفي هذا الموضوع ملاحظات:

1 - دراسات رصدت دور المعطيات غير اللفظية في قبول الكلام والاقتناع به منها دراسة الأستاذ (ألبرت مهرابيان) حول الاتصال المرئي. وهو يرى أنّ الرسالة يمكن أن تدرك بثلاث طرق:

·      أ - مرئي باللغة الجسدية تأثيرها 55%

·      ب - صوتي من خلال النغمة ونبرات الصوت ويبلغ تأثيرها 38%

·      ج - شفهي وهي دلالة اللفظ على المعنى ويبلغ تأثيرها 12%

أي أنّ 93% من التأثير يعود للغة الجسدية ونغمة الصوت، والبعض يرى أنّ قياس التأثير بهذا الشكل فيه مبالغة إلى حد كبير.

2 - للنظر أهمية كبيرة في توضيح المعاني وإيصال الرسائل إلى السامعين. فالعين مرآة الروح، وهي هامة للتفاعل بين المتسامرين والمتخاصمين. فنحن عندما نرتاح لشخص ننظر إليه مدة تصل إلى 70% من وقت الخطاب، وعند الإعراض تقل هذه المدة عن 40%. ومن المهم للمتحدث ألا يتحيز بنظره نحو جهة من المجلس أو يديم نظره إلى شخص أو مجموعة من المتفاعلين معه.

المهم أن نعرف أنّ لغة الجسد عادة لا تكذب، فإذا كان أحدنا غاضباً أو كان هادئاً فسيبدو ذلك على وجهه، أو على حركات يديه، وقد يبدو في مظاهر كثيرة حتى في طبقة صوته.

يقول الإمام الباقر عليه السلام: "وَأَيُّمَا رَجُلٍ غَضِبَ عَلَى ذِي رَحِمٍ فَلْيَدْنُ مِنْهُ فَلْيَمَسَّهُ فَإِنَّ الرَّحِمَ إِذَا مُسَّتْ سَكَنَتْ" [الكافي: ج 2 ص 302]. ولا شك أنّ للمسافة بين الآخرين أثرها النفسي الواضح. وكذلك نلاحظ مؤثر اللمس في بعض حالات القلق والاكتئاب ناجحاً وخاصة عندما يكون المصدر معروفاً كعدم النجاح في امتحان، أو وفاة عزيز، أو أثر كارثة.

وهنا نطرح مثالاً تصويرياً من خلال استخدامنا للعبارة التالية: "مساك الله بالخير يا شيخ".. تارة تقولها (من دون مؤثر خارجي)، وتارة تقولها (مع ابتسامة)، وتارة (مع لهجة عتاب)، وأخرى تقولها (مع تهديد)..

فالملاحظ أنني لم أغيِّر في مضمون الكلمات، والذي تغيَّر هو أسلوب النطق. فأيها تأثرت بها؟

وإذا ما أخذنا هذا الموضوع من منظوره الشرعي: يقول رسول الله صلى الله عليه وآله: "أَوَ لا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِنْ فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؛ أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ". فأين السلام في لغة مجتمعنا الآن؟!!

وبمحاكمة بسيطة، لو أنّ أحداً ألقى عليك السلام وهو متجهم الوجه، فهل المقصد الشرعي من وراء السلام قد تحقق؟! كلا، ولأجل أن أربط هذا السلوك أحتاج في تواصلي الاجتماعي إلى:

· أخذ جملة من النصوص: "أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ".

· والأخرى لها علاقة بهذا: "تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ".

فلماذا إذن لا تكون خلافاتنا يعبر عنها بكلمات فيها نوع من الشفافية والمودة؟!

إنها ببساطة تخضع لـ(الوعي)، ولكن وعينا للأسف يغيب في أكثر مشاكلنا.

وفي السيرة الحسينية:

لم تكن علاقته عليه السلام بأتباعه علاقة آمر ومأمور، ولا علاقة قائد عسكري بجنوده، بل علاقة حبّ وودّ واحترام، يسوده الذوق الرفيع منه عليه السلام:

- لم يضع فاصلاً بينه وبينهم، فكانت أمواله وأطفاله وعياله معهم يبذلها من أجل الحقّ، وكان لأنصاره وأتباعه أسوة وقدوة وهو القائل: "نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم فلكم فيّ أسوة".

- يخاطب أتباعه قائلاً: "قوموا يا كرام فهذه رسل القوم إليكم".

- ويخاطبهم في وسط الحشود الكبيرة وهم قلة قليلة: "صبراً بني الكرام! فما الموت إلاّ قَنْطَرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة".

- جرت الطبيعة البشرية أن ينسى القائد في مرحلة الصراع الدامي العناصر غير البارزة من أتباعه وينشغل عنهم بكبار الشخصيات أو من له علاقة قربى معه؛ ولكنه عليه السلام يأذن لجون مولى أبي ذر الغفاري بالانصراف وترك نصرته فيقول جون: "يا ابن رسول الله أنا في الرخاء ألحس قصاعكم، وفي الشدّة أخذلكم، ... ﻻ والله ﻻ أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم".

ثم قاتل رضي الله عنه حتى قتل، فوقف عليه الحسين عليه السلام وقال: "اللّهمّ بيّض وجهه، وطيّب ريحه، واحشره مع الأبرار، وعرّف بينه وبين محمد وآل محمّد".

كذلك حينما قُتل واضح التركي وهو غلام لأحد أصحاب الحسين "اعتنقه الحسين وهو يجود بنفسه، فقال: من مثلي وابن رسول الله واضع خده على خدي".

محرم 1447 في الصحافة الكويتية