عاشورائيات 7
.. القاعدة القرآنية في أسلوب
الدعوة إلى الله ..
{وَلاَ
تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْواً
بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى
رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
السب أو الشتم
هو عبارة عن توصيف الآخر بما فيه نقص وإزراء بقصد إهانته، كوصفه بالحقارة
والوضاعة، أو تشبيهه بالحيوانات، والكفر والارتداد والخيانة واللعن والفجور... إلى
غير ذلك من كلمات السباب التي نستهلكها وإذا لم تسعفنا القواميس العربية بها رغم
وفرتها استوردنا من اللغات الأخرى شتائمها.
تعتبر هذه
الآية الكريمة قاعدةً إسلامية لسلوك الدعوة في الحياة، وهي تريد إبعاد الدعاة عن
أساليب السباب والشتائم، في ما يخوضون فيه من صراع الفكر والفكر المضاد؛ لأنّ هذه
اللغة تجر إلى ردود فعل حيث تضع الموقف في نطاق المهاترات، وتبعده عن أجواء الحوار
الهادئ الموضوعي.
ثم إنّ الآية
تحدثت عن هذه القاعدة من خلال نموذجٍ حيٍّ، حيث كان المسلمون الأولون، عندما تتعقد
في داخلهم الأزماتُ النفسية، من جرَّاء ما يواجهونه من حقد المشركين وعداوتهم
وطغيانهم، لا يجدون سبيلاً للتنفيس إلا في سبِّ المشركين وشتمهم، وهو تعبير عن رفض
المسلمين لكل أنواع الشرك بالله.
ولكنهم لم
يتنبهوا إلى أنّ ذلك قد يخلق في داخل المشركين لوناً من ألوان الإثارة ورد الفعل
العنيف، فيكون ردُّ فعلهم أن يواجهوا السبَّ بسبٍّ مثله.. فيسبوا الله، تنفيساً عن
غيظهم، وتعبيراً عن حقدهم، لأنّهم يرون أنّ السبيل الوحيد لرد الاعتبار لآلهتهم،
هو مهاجمة اسم الله، وهو في ذلك تحقير للمؤمنين به.
وقد أراد الله
سبحانه في هذه الآية، أن يَنْهى المسلمين عن المبادرة إلى سبِّ الذين يدعون من دون
الله بغير علم، أو سبِّ آلهتهم في عملية المواجهة؛ لأنّ ذلك لن يحقق أيةَ نتيجة
إيجابية لمصلحة الإيمان؛ لأنّه لن نستطيع إقناع شخص واحد بهذا الأسلوب، بل ربما
أدَّى إلى تعقيد الأمور بطريقة أكبر، وإقامة الحواجز النفسية ضد الإيمان
والمؤمنين، وتحويل الموقف إلى سبِّ الله من قبل المشركين.
فالقضية إذن
ليست في كون المشركين وآلهتهم يستحقون السبَّ أو لا يستحقونه لكي ندخل في نزاع
وجدال حول ذلك، بل القضية هي أنّ على الإنسان عندما يقوم بعمل ما، أن يحدد هدفه من
خلاله في ما يتحرك فيه من أهداف تتعلق بمصلحته الذاتية أو العقدية أو الحياتية
بشكل عام. فذلك هو ما يحقق للإنسان مصداقيته الإنسانية، ومعناه الحقيقي.
ولا يجوز
للإنسان الذي يحترم نفسه ومصيره، أن يخضع لحالة انفعالية طارئة، فتكون تصرفاته
ردَّ فعلٍ عصبي لتلك الحالة.
وفي الصحيح عن أبي بصير، عن الباقر -عليه السلام-
قال: "إِنَّ رَجُلًا مِنْ تَمِيمٍ أَتَى
النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله فَقَالَ: أَوْصِنِي، فَكَانَ فِيمَا أَوْصَاهُ أَنْ
قَالَ: "لَا تَسُبُّوا النَّاسَ فَتَكْسِبُوا الْعَدَاوَةَ لَهُمْ"
[الكافي: 2 / 360].
وهذا ما جاء في
بعض كلمات الإمام علي -عليه السلام- في ما كتبه لعبد الله بن عباس: "فَلا يَكُنْ أَفْضَلَ مَا نِلْتَ فِي نَفْسِكَ مِنْ
دُنْيَاكَ بُلُوغُ لَذَّةٍ أَوْ شِفَاءُ غَيْظٍ وَلَكِنْ إِطْفَاءُ بَاطِلٍ أَوْ
إِحْيَاءُ حَقٍّ".
الآن لو فرضنا
أنّ هناك "أكلةً" تحبها كثيراً وحصلت عليها وأكلتها، كم هو وقت إحساسك
باللذّة عندما تكون الأكلة في لسانك؟! لحظة، لكن بعد ذلك عندما تدخل إلى المعدة
فهل تحسّ بها؟ جربوا كلَّ اللذات، إحساسك باللذة أو شفاء الغيظ هو لحظة، وعليك أن
لا تخضع كل حياتك للحظة. وهل هذه هي أفضل ما نلته؟!، لكن ما هو الذي يبقى "وَلَكِنْ إِطْفَاءُ بَاطِلٍ أَوْ إِحْيَاءُ حَقٍّ"،
هو أن تصل إلى الأسلوب، إلى الوسائل التي تُطفئ الباطل الذي أراد الله سبحانه
وتعالى لك أن تطفئه وحمّلك مسؤولية إطفائه، وإحياء الحق يكون كما يريد الله سبحانه
وتعالى.
ولعلنا نستوحي
من هذا الخط الأخلاقي في السلوك العملي والنفسي، أنه -عليه السلام- لم يتحدث في
الخطبة الشقشقية عن حرمانه من حقه في الخلافة من خلال الحزن على ما فاته منها، كما
لم يتحدث عن حصوله عليها بزهوٍ وفرح، بل كان يتحدث بهدوء الإنسان المسؤول الذي
يثير النقد للموقف، ليوجِّه الوعي إلى اكتشاف الخلل فيه، لئلا يبقى نهجاً للمستقبل
في نظر الناس الذين انفتحوا عليه في واقع التجربة، أو في ما ينقله التاريخ منها،
فهو لا يريد للخطأ أن يأخذ صورة الصواب، ولا يرضى للانحراف أن يأخذ دور الاستقامة
في القداسة، ولذلك كان نقده نقداً رسالياً يستهدف تصحيح النظرة إلى التجربة، كما
كان يخطِّط للمستقبل في مسألة الحكم أن يكون حركةً في اتجاه إقامة العدل وهدم
الظلم، لا حالةً ذاتية في الطموح والعنفوان.
إذن السب لن
يشارك في إحياء الحق وإطفاء الباطل، بل يمثل مجرد حالة ذاتية (بلوغ لذة وشفاء غيظ).
والمسلم لا يجوز أن يبادر إلى ذلك؛ لأنّه يسيء إلى الهدف.
كيف نقابل
السبّابين؟
نعتقد أنّ
الأسلوب الأنجع يتلخص في:
1
-
المحاججة بالمنطق والبرهان لو وجد المرء آذانا صاغية عند الساب، وإن كان الغالب
أنّ الساب قد ختم على سمعه وعقله بالشمع الأحمر.
2
-
العفو والصفح عنه والإعراض وقول "سلاماً" له إذا كان من السفهاء
الجاهلين، وبهذا ينأى الإنسان بنفسه عن الانحطاط إلى مستواه وربما يوقظ أسلوب
العفو ضميره ويعيده إلى سواء السبيل.
وهذه مدرسة أمير
المؤمنين -عليه السلام- فإنّه كان يقابل السيئة بالحسنة والشتيمة بالعفو، فقد كان
جالساً في أصحابه فمرت بهم امرأة فرمقها القوم بأبصارهم فقال -عليه السلام-: "إِنَّ أَبْصَارَ هَذِهِ الْفُحُولِ طَوَامِحُ،
وَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبُ هِبَابِهَا، فَإِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى امْرَأَةٍ
تُعْجِبُهُ فَلْيُلامِسْ أَهْلَهُ، فَإِنَّمَا هِيَ امْرَأَةٌ كَامْرَأَتِهِ. فقال
رجل من الخوارج: قَاتَلَهُ اللهُ، كَافِراً مَا أَفْقَهَهُ. فَوَثَبَ الْقَوْمُ
لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ -عليه السلام-: رُوَيْداً إِنَّمَا هُوَ سَبٌّ بِسَبٍّ،
أَوْ عَفْوٌ عَنْ ذَنْبٍ" [نهج البلاغة: قصار الحكم 420].
(قصة) ولقد شتم رجل
أبا ذر الغفاري، فقال لشاتمه: "يَا هَذَا لا تُغْرِقْ
فِي شَتْمِنَا وَدَعْ لِلصُّلْحِ مَوْضِعًا، فَإِنَّا لا نُكَافِئُ مَنْ عَصَى
اللهَ جَلَّ وَعَزَّ فِينَا بِأَكْثَرَ مِنْ أَنْ نُطِيعَ اللهَ فِيهِ".
3
-
الدعاء له بالهداية: وهذا ما نتعلمه من علي -عليه السلام- أيضاً فإنّه لما سمع
أصحابه يشتمون أهل الشام دعاهم إلى الدعاء لهم: "...
وَقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا
وَدِمَاءَهُمْ وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِمْ وَاهْدِهِمْ مِنْ
ضَلالَتِهِمْ " [نهج البلاغة: الخطبة 206].
مع مسلم ابن عقيل:
ويعلمنا مسلم
بن عقيل -عليه السلام- في درساً هاماً أن لا نتجاوز في صراعاتنا القواعد الشرعية والأخلاقية،
ولذا عندما قدر على أن يفتك بعبيد الله بن زياد الطاغية في بيت هانئ بن عروة رفض
ذلك وقال: "الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مسلم".
فإذا أردت أن يكون
هدفك شريفاً وسامياً يتطلب منك وسيلة وأسلوباً متناسبا مع ذلك الهدف.. ولا تبرر
أهمية الهدف باستخدام الوسائل السيئة، وهذا ما عرف اليوم بأنّ الغاية أي الهدف
الجيد لا تبرر الوسيلة (السيئة).
أليس مسلم هو
ربيب عمه علي -عليه السلام-؟!
وعلي -عليه
السلام- لا يغدر ولا يفجر، وإن انتهى حفاظه على القيم إلى أن ينهزم في الظاهر،
ويفوز عدوه الذي لا يلتزم بأخلاق في صراع فهو لا يطلب النصر بالجور والغدر "وَاللهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي،
وَلَكِنَّهُ يَغْدِرُ وَيَفْجُرُ. وَلَوْ لَا كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ
أَدْهَى النَّاسِ، وَلَكِنْ كُلُّ غُدَرَةٍ فُجَرَةٌ، وَكُلُّ فُجَرَةٍ كُفَرَةٌ،
وَلِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" [الخطبة: 200].
وربما يفوز هذا
الثاني لفترة مؤقتة ولكن النصر النهائي هو لصاحب المنهج الأخلاقي.
ولذا اختار
الإمام الحسين -عليه السلام- ابن عمه مسلماً سفيراً عنه إلى العراق: "وَقَدْ
بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ أَخِي وَابْنَ عَمِّي وَثِقَتِي مِنْ أَهْلِ بَيْتِي
وَأَمَرْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيَّ بحالِكم وَأَمْرِكمْ وَرَأْيِكمْ، فَإِنْ كَتَبَ
أَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ رَأْيُ ملأِكم وَذَوِي الْفَضْلِ وَالْحِجَى مِنْكُمْ
عَلَى مِثْلِ مَا قَدِمَتْ عَلَيَّ بِهِ رُسُلُكُمْ وَقَرَأْتُ فِي كُتُبِكمْ،
أَقْدِمُ عَلَيْكُمْ وَشِيكاً إِنْ شَاءَ اللهُ..".
ولقد كان موقف أولاده في كربلاء لا يقل عن موقف أبيهم -عليه
السلام- حيث كتبوا بدمائهم الزكية شهادة قل مثيلها.
أ- فهذا ولده عبد الله وأمه رقية بنت أمير المؤمنين.. عندما قام
الحسين -عليه السلام- في أصحابه خطيباً: "اللهم
إني لا أعرف أهل بيت أبرَّ ولا أزكى ولا أطهر من أهل بيتي ولا أصحاباً هم خير من أصحابي،
وقد نزل بي ما قد ترون وأنتم في
حل من بيعتي، ليست لي في أعناقكم بيعة، ولا لي عليكم ذمة، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه
جملاً وتفرقوا في سواده، فإنّ القوم إنما يطلبوني".
قام إليه عبد الله بن مسلم فقال: "يا بن رسول الله ماذا
يقول لنا الناس إن نحن خذلنا شيخنا وكبيرنا وسيدنا وابن سيدنا سيد الأعمام وابن
نبينا سيد الأنبياء، لم نضرب معه بسيف، ولم نقاتل معه برمح، لا والله أو نرد موردك
ونجعل أنفسنا دون نفسك، ودماءنا دون دمك، فإذا فعلنا ذلك فقد قضينا ما علينا وخرجنا
مما لزمنا".
قال أبو مخنف: برز ووقف بإزاء الحسين -عليه السلام- وقال: يا مولاي
أتأذن لي بالبراز؟
فقال له الحسين: يا بني كفاك وأهلك
القتل. أنت في حل من بيعتي، حسبك قتل أبيك مسلم، خذ بيد أمك واخرج من هذه المعركة.
فقال: يا عم! بأي وجه ألقى جدك محمداً صلى الله عليه وآله وقد
تركتك، يا سيدي لا والله لا كان ذلك أبداً بل أُقتل حتى ألقى الله بذلك، لست والله
ممن يؤثر دنياه على آخرته.
يقول ابن شهر آشوب: "أول من برز من بني هاشم: عبد الله بن
مسلم... فقاتل حتى قتل ثمانية وتسعين رجلاً بثلاث حملات".
ب - أما ولده محمد -وأمه أم ولد-، وله من العمر اثنتا عشرة سنة
أو ثلاث عشرة استشهد بعد أخيه عبد الله.
ج - الشهيدان بالمسيب فهو ولدان لمسلم - قاله الصدوق- ذبحا على
شط الفرات ورميا في الفرات بعد الذبح والقبتان المشيدتان في المسيب باسم ولدي مسلم
شيّدا على موضع سجنهما أو موضع ذبحهما.
ولأجل ذلك قال الحسين: "اللهم
اقتل قاتل آل عقيل".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق