عاشورائيات
1
العقل
والعاطفة في ذكرى عاشوراء
في الصحيح عن بكر بن محمد، عن الإمام الصادق -عليه السلام-، أنه
قال للفضيل بن يسار: "تَجْلِسُونَ
وَتَتَحَدَّثُونَ"؟ قَالَ: نَعَمْ جُعِلْتُ فِدَاكَ، قَالَ: "إِنَّ
تِلْكَ الْمَجَالِسَ أُحِبُّهَا، فَأَحْيُوا أَمْرَنَا يَا فُضَيْلُ، فَرَحِمَ
اللهُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَنَا" [قرب الإسناد: ص 26].
ليس من السهل الحديث عن
عاشوراء وعن شخصيّة الإمام الحسين -عليه السلام-، وذلك بسبب التفاسير المختلفة
لهذه الواقعة وعلى طول التاريخ، مضافاً إلى ما لحقها من مراسيم العزاء المختلفة
(التقليديّة وغير التقليديّة).
وقد تمّ التحريف والكذب
والمغالاة في حق آل البيت -عليهم السلام- قديماً، سواء في الحديث عن عاشوراء أو في
الكتابة عنها؛ وذلك لأنّ الجميع يحبون أن يتقربوا إلى سوح أهل البيت -عليهم السلام- بأحاسيسهم المرهفة وعواطفهم
الجيّاشة، ناهيك عن الأخطار التي تحملها مثل هذه المفاهيم المغلوطة في توجيه
الطعنات الشنيعة للدين، ونسيان وتناسي القيم الإنسانيّة.
ففي صحيحة
إبراهيم بن أبي محمود قال: قلت للرضا -عليه السلام-: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ
إِنَّ عِنْدَنَا أَخْبَاراً فِي فَضَائِلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ -عليه السلام-
وَفَضْلِكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَهِيَ مِنْ رِوَايَةِ مُخَالِفِيكُمْ وَلا
نَعْرِفُ مِثْلَهَا عِنْدَكُمْ أَفَنَدِينُ بِهَا؟
فَقَالَ:
يَا ابْنَ أَبِي مَحْمُودٍ، لَقَدْ أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ
-عليه السلام- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وآله- قَالَ: "مَنْ
أَصْغَى إِلَى نَاطِقٍ فَقَدْ عَبَدَهُ، فَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ عَنِ اللهِ عَزَّ
وَجَلَّ فَقَدْ عَبَدَ اللهَ، وَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ عَنْ إِبْلِيسَ فَقَدْ
عَبَدَ إِبْلِيسَ".
ثُمَّ قَالَ
الرِّضَا -عليه السلام-: يَا ابْنَ أَبِي مَحْمُودٍ إِنَّ مُخَالِفِينَا وَضَعُوا
أَخْبَاراً فِي فَضَائِلِنَا، وَجَعَلُوهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا:
الْغُلُوُّ، وَثَانِيهَا: التَّقْصِيرُ فِي أَمْرِنَا، وَثَالِثُهَا: التَّصْرِيحُ
بِمَثَالِبِ أَعْدَائِنَا.
فَإِذَا
سَمِعَ النَّاسُ الْغُلُوَّ فِينَا: كَفَّرُوا شِيعَتَنَا وَنَسَبُوهُمْ إِلَى
الْقَوْلِ بِرُبُوبِيَّتِنَا.
وَإِذَا
سَمِعُوا التَّقْصِيرَ: اعْتَقَدُوهُ فِينَا.
وَإِذَا
سَمِعُوا مَثَالِبَ أَعْدَائِنَا بِأَسْمَائِهِمْ: ثَلَبُونَا بِأَسْمَائِنَا
وَقَدْ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ}.
يَا ابْنَ
أَبِي مَحْمُودٍ: إِذَا أَخَذَ النَّاسُ يَمِيناً وَشِمَالاً فَالْزَمْ
طَرِيقَتَنَا فَإِنَّهُ مَنْ لَزِمَنَا لَزِمْنَاهُ وَمَنْ فَارَقَنَا
فَارَقْنَاهُ، إِنَّ أَدْنَى مَا يُخْرِجُ الرَّجُلَ مِنَ الإِيمَانِ أَنْ يَقُولَ
لِلْحَصَاةِ هَذِهِ نَوَاةٌ ثُمَّ يَدِينُ بِذَلِكَ وَيَبْرَأُ مِمَّنْ خَالَفَهُ.
يَا ابْنَ
أَبِي مَحْمُودٍ احْفَظْ مَا حَدَّثْتُكَ بِهِ فَقَدْ جَمَعْتُ لَكَ فِيهِ خَيْرَ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. [عيون أخبار الرضا: ج 1 ص 272 ح 63].
ولكننا نقطع من أنّ الحسين
بن علي -عليه السلام- رسم لنا، برفضه الذل واختياره الشهادة، حياةً نتمكن من
خلالها أن نعيش بإنسانيتنا وكرامتنا من جهة، وتحقيق الوعد الإلهي الذي ينتظره
ورثته بالحق من جهة أخرى.
ومن المفهوم والمبرر
-عقلاً وشرعاً- أن تلعب العاطفة دوراً أساسياً في طريقة إحياء ذكرى الإمام الحسين -عليه
السلام-؛ لأنّ إحياء الذكرى بالأساليب ذات المنحى العاطفي وربطها المستمر بالوجدان
هو الطريق الأنجع لضمان استمرار قيم الثورة الحسينية وترسيخها في النفوس، إلا أنَّ
الأمر غير المفهوم ولا المبرر هو اعتماد "المنهج العاطفي" في قراءة
ومحاكمة النص التاريخي العاشورائي.
القراءة العاطفية:
القراءة العاطفية ليست
حكراً على أحداث عاشوراء، وإنما هي صفة عامة اتسم بها معظم المؤرخين والباحثين في
تعاملهم مع أحداث التاريخ الإسلامي، على الأقل في بعض مفاصله ومراحله التاريخية
كما هو الحال في مرحلة الخلافة الأولى، حيث قدَّموا بشأن هذه المرحلة -في أحداثها
ورجالاتها- تقييماً عاطفياً أكثر منه تقييماً واقعياً، واعتمدوا معايير أخلاقية في
دراسة الأحداث وتقييم الشخصيات..
فالقراءة السائدة لأحداث
صدر الإسلام وما جرى بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وآله- تتكئ على عنصر أخلاقي
وهو حسن الظن بالصحابة، وتتخذ من عدالتهم المدَّعاة مرجعاً في تحليل الأحداث
وتقييمها.
الأمر الذي أدَّى إلى
استخلاص نتائج لا تمت إلى الحقيقة بصلة، وقدّم صورة ملائكية عن علاقة الصحابة
بعضهم بالبعض الآخر، وهو الأمر الذي تكذّبه الأقوال والأفعال وتفضحه الوقائع
والمعارك التي جرت فيما بينهم مما لا نريد الخوض فيه، وقد أسهمت هذه القراءة
العاطفية للتاريخ في ضياع الحقائق وتمييع الوقائع وساوت بين الجلَّاد والضحية وبين
الصالح والطالح، وهذا ما عبّرت عنه بوضوح الجملة التي كتبها بعض المسلمين على ضريح
الصحابي الجليل حجر بن عدي الكندي، والجملة هي: "هذا ضريح سيدي حجر بن عدي (رض)
قتله سيدي معاوية بن أبي سفيان (رض)!".
في مقابل هذه النظرة
المفرطة في التفاؤل وحسن الظن، يقف أصحاب منطق القطيعة مع التاريخ الإسلامي
والإدانة لكل منجزاته ورموزه، واعتباره تاريخاً مزوراً ومبنياً على باطل، وكل ما
بني على باطل فهو باطل، إنّ هذه النظرة السوداوية المفرطة في التشاؤم وإساءة الظن
مجافية للحقيقة وبعيدة كل البعد عن الميزان الشرعي الذي يدعو إلى الإنصاف والعدل
في تقييم الأحداث والأشخاص، وإعطاء كل ذي حق حقه، قال تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ
تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ
خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].
وقد لاحظنا أنّ أمير
المؤمنين -عليه السلام- وهو المعنِّي الأول في أمر الخلافة لم يمنعه تجاوز الآخرين
لحقه أن يقيّم الوضع الإسلامي في عهد الخلفاء تقييماً إيجابياً، عندما قال: "لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ
وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً".
فعلي -عليه السلام- ينحّي
عاطفته ومظلوميته جانباً ويحكم بموضوعية تامة على واقع أمور المسلمين.
وهكذا فعل الفقيه الكبير
السيد أبو القاسم الخوئي -قدس سره- عندما نفى أن يكون بعض الخلفاء الأوائل ناصبي
العداوة لأهل البيت عليهم السلام بحسب الظاهر، وإنما القضية هي الطمع في الرئاسة
والسلطة [فقه
الشيعة: ج 3 ص 126]، وهذا الرأي أثار حفيظة بعض تلامذته فتعجب من
كلامه واستغربه [مباني منهاج الصالحين: ج 3 ص 205]!!
والحقيقة أنّ السيد الخوئي
-قدس سره- لم يكن ليغفل عن هذه الأحداث، وأخاله قد أجاب عليها ضمناً عندما لخّص
قضية الخلافة بالطمع في الرئاسة والسلطة، فإنّ الإنسان قد ينازع أحب الناس إليه في
أمر الخلافة، وقد قالها هارون الرشيد لأحد أبنائه: "وَاللهِ لَوْ نازعتني
هَذَا الْأَمْرَ لَأَخَذْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاكَ؛ فَإنَّ الْمَلْكَ عَقِيمٌ"
[عيون أخبار الرضا: ج 2
ص 86].
فمصادرة حق الغير لا
تتلازم مع بغضه وكراهته، أ لم يكن بعض قتلة الإمام الحسين -عليه السلام- يحبونه
وتفيض عيونهم دمعاً حزناً عليه، كما تدل على ذلك الكثير من الشواهد، ومنها كلمة
الفرزدق الشهيرة عندما لقيه الإمام الحسين -عليه السلام- في الطريق وسأله: كيف
خلّفت الناس بالعراق؟ فأجاب: خلّفتهم وقلوبهم معك وسيوفهم عليك [الأخبار الطوال للدينوري: ص 245].
وخلاصة القول: إنّ التاريخ
لا يقرأ بعاطفة؛ لأنّ العاطفة في جانبها الإيجابي (المحبة) أو السلبي (الكراهية)
تعمي وتصم، وإذا استحكمت بالإنسان منعته من الرؤية الصحيحة للأحداث، ولذا فإنّ
القراءة التحليلية لأحداث التاريخ إنما تكون ناجحة بمقدار ابتعادها عن المنحى
العاطفي في تفسير الأحداث واعتمادها المنهج النقدي الموضوعي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق