الأربعاء، 19 يوليو 2023

عاشورائيات 2

ثقافة التخلف والغلو

يحق لنا أن نتساءل: هل يوجد مصدر للخوف على الإسلام؟!

نعم، وهذا يتمثل في التخلّف الذي يشيع بين المسلمين من خلال أولئك الذين يحملون ثقافة الخرافة وثقافة الغلو، وهذا ما نشاهده في كثير من الدعوات التي يتحرك بها البعض الذين يحاربون الذين يحملون الوعي والانفتاح والاعتدال.

ومن هنا فإنّ القراءة العاطفية لأحداث التاريخ تستدعي مجانبة الصواب، ونعتقد أيضاً أنّ من النتائج السلبية لتلك القراءة أنها سمحت بتسرب الخرافة إلى الخطاب الإسلامي عموماً والخطاب العاشورائي خصوصاً، وهذا أمر طبيعي في ظل غياب العقل النقدي واستقالته.

وما يدعو إلى القلق أنّ الخطاب المذكور الذي تسربت إليه الخرافة قد غدا خطاباً علنياً يسمعه الملايين من الناس من خلال المحطات التلفزيونية المجنّدة لهذه الغاية، والعلامة الفارقة في هذا الخطاب -مضافاً إلى اعتماده ثقافة القطيعة مع الآخر- إغراقه في الحديث عن المعاجز والكرامات دون تثبت من صحتها وواقعيتها، وإمعانه في سرد القصص الخيالية وغيرها من الحكايات التي هي أقرب إلى الأساطير منها إلى الحقيقة، كما هو الحال في روايات كتاب "أسرار الشهادة" للدربندي، هذا الكتاب المشحون بالأخبار الواهية والقصص المجعولة على حد تعبير المحدّث النوري، الذي وإن لم يشكّك في إخلاص الدربندي، لكنه هاجم كتابه المذكور معتبراً أنه "ليس له أي وقع ولا اعتبار لدى علماء هذا الفن وجهابذة الحديث والسّير، بل إنّ الأخذ منه والاعتماد عليه يدل على ضعف الناقل وقلة بصيرته في الأمور"، ويضيف: "بل إنّ نفس المؤلف يعترف في كتابه بضعف رواياته ويبرز بعض العلامات الدالة على كذبها ووضعها، إلاّ أنه راح يبرر سبب نقله لها، فكان شريكاً فيما سببته تلك الروايات من الفساد" [اللؤلؤ والمرجان: ص 201].

لقد أحسن المحدث النوري وأجاد في كتابه هذا، إذ تحدث مفصلاً عن شرائط قراءة العزاء وارتقاء المنبر، وأشار في ثناياه إلى الكثير من الأكاذيب والقصص المجعولة والتي لا تزال إلى يومنا هذا تتلى على المنابر بكرة وعشياً، وأرى لزاماً عليّ أن أنصح أخواني الخطباء والوعاظ بمطالعة هذا الكتاب والاستفادة من مطالبه وفوائده الكثيرة.

هاجس إبكاء الجماهير:

ومن سلبيات الخطاب العاطفي الذي طبع قراءة العزاء على الإمام الحسين -عليه السلام- اختصاره لهذه النهضة المباركة بالدمعة وصور المأساة المروعة، فالذي يشغل اهتمام قارئ العزاء هو الجانب المأساوي، ويضعف اهتمامه باستعراض صور الملاحم والبطولة ودروس العزة والكرامة والإباء، وهكذا قد لا يتطرق أو لا يملك إمكانية التطرق للدور النهضوي والتغيري لنهضة الإمام الحسين -عليه السلام-، في ضوء ذلك يصبح مقياس نجاح "الخطيب الحسيني" في مدى قدرته على إبكاء الجماهير واستثارة عواطفهم، واستدرار دموعهم، وإننا نلاحظ أنَّ معيار تصنيف الخطباء -لدى عامة الناس- لا يأخذ بعين الاعتبار مدى علمهم وثقافتهم بقدر ما يأخذ في الاعتبار رخامة صوتهم ونداوته، الأمر الذي انعكس على الخطيب نفسه فصار هاجسه الأول والأخير هو إبكاء الناس وليس تثقيفهم.

احذروا من الوقوع في الغلو:

إنَّ الحديث عن أشخاص ومنزلتهم ومكانتهم وصفاتهم لا بدَّ أن يخضع للضوابط ويلتزم بحدود ما يقوم عليه الدليل، فلا يمكن أن يُفوّض إلى الناس ليقول كل إنسان بما يراه ويريده وهو يفتح باباً للغلو وقول ما ليس بحق، وليس شأن أهل البيت -عليهم السلام- أن يسمحوا بذلك.

والميزان في ذلك هو قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} (المائدة: 77).

يقول المحقق الفقيه الشيخ محمد آصف محسني: "فكل شيء لم يثبت بدليل معتبر في حق أحد وقال به قائل فهو غلو، أي زيادة وتجاوز عن الحد الثابت شرعاً، وإن شئت فقل: إنه غير الحق، وإنه قول على الله بغير الحق، ولا فرق في حرمته وقبحه بين أهل الكتاب والمسلمين وغيرهم. فالغلو لا يختص بالقول بربوبية المخلوق ونبوة غير النبي كما يبدو من جملة من روايات الباب" [المشرعة: ج 1 ص 458].

والله سبحانه وتعالى -وهو يتحدث عن العدل في القول يقول: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}. فيؤكد الله سبحانه أنَّ في القول عدلاً وظلماً؛ فالعدل في القول هو: الاستقامة في التعبير عن الواقع من دون زيادة ولا نقصان، بحيث إنك إذا سمعت الكلمة، انفتحت على الواقع الذي تعالجه، سواء كان هذا الواقع متصلاً بالأحداث التي تتحرك في حياة الناس، أو مرتبطاً بالتقويم للناس، أو كان منفتحاً على مسائل العقيدة في مفاهيمها، أو الشريعة في خطوطها، وما إلى ذلك.

وقد جاء في حديث الإمام علي -عليه السلام-: "هلك فيَّ اثنان: محبٌّ غالٍ، ومبغض قالٍ"، فالأول أحبّ الإمام إلى الدرجة التي فقد فيها توازنه، فغالى في حبّه، ووضعه فوق الموقع الذي وضعه الله فيه، فوصل به إلى الربوبيّة، والثاني أبغض الإمام -عليه السلام-، حتى أعرض عنه وابتعد به عن درجته الحقيقية. وكان الأئمة -عليهم السلام- ينهون الذين يغلون فيهم؛ إذ كانوا يريدون لمن يتّبعهم أن يقفوا على الموقع الوسط في تصوّراتهم، لهم وفي سلوكهم معهم.

فقد دأب أئمة أهل البيت -عليهم السلام- فترة حياتهم في التحذير من الغلو فيهم، وأنَّ الغلو فيهم والاعتقاد بألوهيتهم أو ما يقرب من الألوهية، يعد كفراً..

وفي الصحيح، عن أبان بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله -عليه السلام- يقول: "لعن الله عبد الله بن سبأ إنه ادعى الربوبية في أمير المؤمنين، وكان والله أمير المؤمنين -عليه السلام- عبداً لله طائعاً، الويل لمن كذب علينا، وإنَّ قوماً يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا، نبرأ إلى الله منهم، نبرأ إلى الله منهم".

وفي الصحيح عن أبي حمزة الثمالي قال: قال علي بن الحسين -عليه السلام-: "لعن الله من كذب علينا، إني ذكرت عبد الله بن سبأ فقامت كلُّ شعرة في جسدي؛ لقد ادّعى أمراً عظيماً، ماله لعنه الله، كان علي -عليه السلام- والله عبداً لله صالحاً أخاً لرسول الله -صلى الله عليه وآله-، ما نال الكرامة من الله إلا بطاعته ولرسوله، وما نال رسول الله -صلى الله عليه وآله- الكرامة من الله إلا بطاعته لله".

وفي حديث الأربعمائة: قال أمير المؤمنين -عليه السلام-: "إياكم والغلو فينا، قولوا إنا عبيد مربوبون".

إنّ الخروج السافر عن هذا النهج يعد خروجاً عن ثوابت الدين الصحيح، وانحرافاً عن خط منهج أهل البيت -عليه السلام-؛ لأنهم يؤمنون بالتوحيد الخالص، وأنَّ الله سبحانه وتعالى هو الإله الواحد الذي لا بدَّ من أن نوحِّده في الألوهية ولا إله غيره، ونوحِّده في العبادة فلا معبود سواه، ونوحِّده في الطاعة فلا طاعة لغيره.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

محرم 1447 في الصحافة الكويتية