عاشورائيات
4
.. النقد الناعم
في الحديث قال -عليه
السلام-: "أَحَبُّ إِخْوَانِي إِلَيَّ مَنْ
أَهْدَى إِلَيَّ عُيُوبِي" [الكافي: ج
2 ص 639].
وقال أمير المؤمنين -عليه
السلام-: "وَلَا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالًا
فِي حَقٍّ قِيلَ لِي، وَلَا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي، فَإِنَّهُ مَنِ
اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ
كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ، فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ
بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ؛ فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ
أُخْطِئَ، وَلَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللهُ مِنْ
نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي، فَإِنَّمَا أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ
مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لَا رَبَّ غَيْرُهُ يَمْلِكُ مِنَّا مَا لَا نَمْلِكُ مِنْ
أَنْفُسِنَا" [نهج البلاغة: الخطبة 216].
لو لم تكن هناك مرآة نبصر
فيها وجوهنا، هل كان بإمكاننا أن نعرف مواطن الجمال فيها أو مواطن الخلل؟
هل كنّا نستطيع أن نُصلح
من ترتيب هندامنا وشعرنا، أو نرى ما قد يظهر على سحنة الوجه من اصفرار أو بثور؟
كيف كنّا نستطيع أن
نتجمّل؟!
قد يجيب أحدنا بالقول: إذا
لم تكن المرآة فربما كان سطح الماء الساكن مرآة نرى فيه وجوهنا، وإذا لم يكن الماء
فالسطح المعدني الصقيل، وإذا لم تكن هذه ولا تلك فعيون الناس مرايا، فإذا رأوا ما
يسرّهم من مظهرنا شعّت ابتسامة الارتياح على وجوههم كعلامة على أنّنا مرضيّون في
نظرهم.
لقد حرص الإسلام على بناء الشخصية المسلمة بناءً متكاملاً، وجعل
في سلّم أولوياته فتح باب المعرفة أمام الناس، وحثَّهم على المشاركة في كل ما من
شأنه أن يرفع من مستواهم أو أن يجعلهم يساهمون في بناء مجتمعاتهم من خلال ممارستهم
الطبيعية لعملية النقد التي تنشأ من خلال هذا التفاعل الطبيعي مع المحيط، على أساس
شعور الفرد والمجموعة بالمسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقهم في تقويم وتصويب
الحركة الاجتماعية أو الثقافية وحتى السياسية...
والحديث الشريف يشبّه
المؤمن بأنّه "مِرْآةٌ لِأَخِيهِ المؤمن"
[من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 378]، وفي تعبير ثان: "الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ أَخِيهِ يُمِيطُ عَنْهُ الْأَذَى"
[وسائل الشيعة: ج 12 ص 220 الحديث 16108]، فكما أنّ
المرآة تُبدي المعايب وتحكي المحاسن، فإنّ المؤمن مسؤول عن نقل الصورة كما هي بلا
زيادة ولا نقصان، فإن رأى ما يسرّه من أخيه قال ذلك بصدق بعيداً عن التملّق
والمجاملة، وإن رأى ما يسوؤه منه فلا يتردد أو يسكت أو يكتم ذلك في نفسه.
وهذه المرآة (المؤمن)
كتومةٌ إذا رأت منك ما يشين؛ فإنّها لا تنقل ذلك للقادم الذي يأتي بعدك لتقول له
إنّها رأت في وجهك هذا العيب أو ذاك؛ لأنّها لا تحبّ الوشاية.
وكذلك هي لا تدوِّن في
ذاكرتها الصور القديمة، وإنّما تُظهر لك دائماً ما هو آني ومباشر، فإذا سبق لها أن
رأت فيك عيباً ونبّهتك إليه في حينها، فإنّها لا تعاود التذكير به ثانية وثالثة
لئلا تجرح إحساسك.
والمرآة (المؤمن) لا تكشف
-فقط- محاسن أو قبح المظهر الخارجي من وجه وزينة وشعر ولباس، وإنّما تُظهر جمال
وقبح ما نقوم به من حركات أيضاً، فإذا وقفت أمامها متزناً فإنّها لا تتحيز ضدك
وإنّما تظهر اتزانك ووقارك كما هو، وإذا وقفت إزاءها ورحت تقوم بحركات بهلوانية،
فإنّها لا تبقى على الحياد، بل تقول لك إنّك أصبحت مثيراً للسخرية؛ فحديث المرآة
هذا، هو حديث النقد والنصيحة والتسديد، وأخوك المؤمن "مَنْ
صَدَقَكَ لا مَنْ صَدَّقَكَ" [الإيضاح،
للفضل بن شاذان: ص 70] أي يصدقك القول في الدين.
إنّ النقد أداة من أعظم
الأدوات التي اخترعتها البشرية لبلورة وعيها واكتشاف ذواتها وأصولها وأوجه القصور
في مشروعاتها وإنجازاتها؛ حيث تظل الأفكار غائمة ومعتمة ما لم تتعرض لغثاء الألسنة
وأشعة التقييم.
وحتى لا يشعر المسؤول بأنه يملك أن يصادر قرارات الناس ومواقفهم
تحت عنوان (القداسة).. حثَّ الإسلام على ملاحقة هذا المسؤول وإن حمل عنواناً
إسلامياً؛ لأنّ أي تغييب لثقافة النقد وحسن الملاحقة ومسؤولية المتابعة قد يجعل من
المسؤول شخصية تميل إلى الطغيان أو إلى البطر أو قد يتراءى له بأنه يسلك بالناس
طريق الرشاد فيزعم لنفسه العصمة حيث لا عصمة له، ويميل إلى تصديق أوهامه الذاتية
ليصل به الأمر في نهاية المطاف إلى الهاوية التي لا يدفع ثمن السقوط بها وحيداً،
بل تضطر الأمة لدفع تلك الفاتورة الضخمة أيضاً.
وعلى هذا الأساس لم يعمل النبي -صلى الله عليه وآله- على تربية
الناس على مُساءلة المسؤول فحسب، بل كان هو بنفسه يحرص على تقديم حسابه للناس وهو
المعصوم الذي جاء رحمة للعالمين، فيقول لهم في نهاية المطاف: "إِنِّي وَاللهِ مَا تمسكونَ عَلِيَّ بِشَيْءٍ، إِنِّي
لَمْ أُحِلَّ إِلَّا مَا أَحَلَّ الْقِرَانُ، وَلَمْ أُحْرِّمَ إِلَّا مَا حَرَّمَ
الْقُرْآنُ". وليطالبهم أن يأخذوا الحق منه إذا كان لهم ثمة شيء
عنده، وأن يحاسبوه على أساس الدستور القرآني الإلهي.
وقد رأينا ربيبه ووصيه الإمام علي -عليه السلام- يدعو الأمة إلى
أن تمارس عملية النقد البنّاء حتى في ظل وجوده على رأس الدولة حتى لا يكونوا فريسة
لمن طغى من بعده، وليعلمهم بأنّ مصير الأمم إنما يقرر من خلال ارتفاع أو انخفاض
منسوب النقد فيها، ولذلك قال للناس من حوله: "
فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ الْعَدْلَ أَنْ
يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ، فَلَا تَكُفُّوا
عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ".
وفي الحديث: "أَحَبُّ إِخْوَانِي إِلَيَّ مَنْ أَهْدَى إِلَيَّ عُيُوبِي"
فاعتبر الإسلام النقد (هدية غالية)؛ لأجل أن يكون النقد والنصيحة والتسديد مقبولاً
ومرحباً به، بل يُقابل بالشكر.
والهدية -كما هو معلوم-
تجلب المودة "تَهَادَوْا تَحَابُّوا"
[من لا يحضره الفقيه: ج
3 ص 298 ح 4067، والكافي: ج 5 ص 144]، فإذا صغت نقدك بأسلوب
عذب جميل، وقدَّمته على طبق من المحبّة والإخلاص، وكنت دقيقاً ومحقاً فيما تنقد،
فسيكون لنقدك وقعه الطيب وأثره المؤثر على نفسية (المهدى إليه) الذي سيتقبّل هديتك
على طريقة "وَوَفِّقْني لِطاعَةِ مَنْ
سَدَّدَني، ومُتابَعَةِ مَنْ أَرْشَدَني" [الصحيفة السجادية: دعاء مكارم
الأخلاق].
ولذا يتوجب على (الناقد) أن
لا يحطّم ذات أحد بنقده القاسي الشديد، لنحرص على أن نرى ذات غير أجمل وأكمل وأنقى
من العيوب.. وأن نقول له: إنّ دافعك إلى النقد أن تراه فوق نقدك، وعندها تكسب أخاً
حبيباً بدلاً من أن تخلق لك عدواً.
ولم يكن أمير المؤمنين علي
بن أبي طالب -عليه السلام- بمنأى عن أن يرفض نقد ناقد، حيث يقول: "فَلَا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ
الْجَبَابِرَةُ، وَلَا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ
الْبَادِرَةِ، وَلَا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ، وَلَا تَظُنُّوا بِي
اسْتِثْقَالًا فِي حَقٍّ قِيلَ لِي..."، فالنقد والمشورة حق للأمة في
منظار علي -عليه السلام-.
وقد باشر
الإمام الحسين -عليه السلام- حقه في نقد الأوضاع التي كانت سائدة في زمن حكم يزيد
بن معاوية، فقال في نصه المشهور: "إنّي لم أخرج
أشراً ولا بطراً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله، أريد أن آمر
بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب" [بحار
الأنوار: ج 44 ص 330].
لقد وضع الإمام
الحسين عليه السلام عناوين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح في أمّة جده
رسول الله -صلى الله عليه وآله- في واجهة حركته؛ ليذكر المسلمين والمصاحبين له
بالعناوين الشرعية التي تفرض عليهم التحرك معه، وليحدثهم بأنّ مسألته ليست مسألة
ثائر يتطلع إلى السلطة من موقع الزهو والسيطرة الطاغية، فليست القضية قضية تحديات
المسألة الذاتية في مواجهة مسألة ذاتية أخرى، بل هي للإيحاء إليهم بأنّ هذه
العناوين تفرض على كل الناس الاستجابة لأية قيادة تعمل من أجل تحويلها إلى واقع
حيّ، كما تفرض على القيادة أن تتحرك من أجلها.
وما نؤمن بداهة
أنّ مسؤولية النبوة والإمامة هي الهداية لا الثورة (العمل المسلح)، فالثورة ليست أصيلة في حياة الإمام، وإنّما الأصالة للهداية، نعم
قد تتحقق الهداية عبر وسيلة الثورة، وقد تتحقق بغيرها، فمسؤولية
مكافحة الظلم وإزالته عن المستضعفين تقع على عاتقه بلا إشكال، ولكن من قال إنّ الظلم لا
يرتفع إلاّ عن طريق الثورة والاقتصاص من شخص
الظالم; فهذا إن صح في بعض
الأحيان إلاّ انه لا يصح مطلقاً.
تماماً كما
أراد الإمام الحسين -عليه السلام- من وراء نهضته حين لخّص هدفه السامي المقدس ذاك
بقوله: "اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا
منافسة في سلطان، ولا التماساً لفضول الحطام، ولكن لنرّد المعالم من دينك، ونظهر
الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويُعمل بفرائضك وسننك وأحكامك".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق