الأحد، 23 يوليو 2023


 

عاشورائيات 6

 

مسؤولية الكلمة:

ليست الكلمات التي نتفوه بها فقاقيع صابون تطفو على سطح ألسنتنا لتنفجر في الهواء بسرعة.. فالكلمة في الإسلام مسؤولية {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] رقيب يراقب أقواله في الخير وفي الشر، ذلك لأنّ اللسان كما في حديث الإمام الباقر عليه السلام: "مِفْتَاحُ خَيْرٍ وَمِفْتَاحُ شَرٍّ، فَاخْتِمْ عَلَى لِسَانِكَ كَمَا تَخْتِمُ عَلَى ذَهَبِكَ وَوَرِقِكَ" [الكافي: ج 2 ص 114].

وفي معتبرة مَسْعَدَةَ عن أبي عبد الله عليه السلام، عَنْ أَبِيهِ عليه السلام، أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ وَقَدْ كَلَّمَهُ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ فَقَالَ: "أَيُّهَا الرَّجُلُ تَحْتَقِرُ الْكَلَامَ وَتَسْتَصْغِرُهُ، اعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَبْعَثْ رُسُلَهُ حَيْثُ بَعَثَهَا وَمَعَهَا ذَهَبٌ وَلَا فِضَّةٌ وَلَكِنْ بَعَثَهَا بِالْكَلَامِ وَإِنَّمَا عَرَّفَ اللهُ جَلَّ وَعَزَّ نَفْسَهُ إِلَى خَلْقِهِ بِالْكَلَامِ وَالدَّلَالَاتِ عَلَيْهِ وَالْأَعْلَامِ" [الكافي: ج 8 ص 148 ح 128].

فمسؤولية الكلمة تتحدد في:

· التفكير بها قبل إطلاقها.

· اختيار الأحسن من بين الكلمات الحسنة الكثيرة.

· إتباع الأسلوب الأمثل في إطلاقها.

· دراسة انعكاسها وتأثيرها على من يتلقّونها.

وتلك عملية تحتاج إلى شيء من التدريـب، فالتسرع في قذف الكلمات كثيراً ما يؤدي إلى نتائج سلبية وأحياناً وخيمة، والتأني في انتقاء الألفاظ وصياغتها بأسلوب محبب، غالباً ما يؤدي إلى نتائج إيجابية طيبة.

فكلماتنا الجميلة هي مثل الهدايا.. يستحسن أن نقدمها مغلفةً بغلاف جميل حتى تسر الذين نقدمها إليهم. وكلماتنا الناقـدة مثل وخزات الإبر.. يفضل أن لا تكون موجعة للدرجة التي تجرح سامعيها.

وبعد حين من المراس والتمرين سـيكون لنا قاموسـنا الخاص في الكلمات المهذبة والكلمات النقدية الصريحة، فنحن في الحالين نريد أن نصل إلى عقول الناس عن طريق قلوبهـم، ولا يكون ذلك إلاّ بإتباع الأسلوب الذي علّمنا القـرآن إيّاه {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53].

كيف تكون الكلمة التي يطلقها الإنسان في الحوار أو التخاطب الاجتماعي؟

هل هي الكلمة التي يوحي بها المزاج، في لحظة انفعال؟ أو هي الكلمة التي يخطط لها العقل، ويحركها الإيمان؟

للكلمة مدلولها في حسابات الفعل وردّ الفعل، وأثرها السلبي أو الإيجابي في حركة العلاقات الخاصة والعامة، وفي إثارة المشاكل أو في حلّها.. وهذا ما يريد القرآن: توجيه الإنسان إليه في دراسة الفكرة التي يريد أن يحركها في المجتمع، ليختار الفكرة الأفضل التي تفتح القلوب على المحبة، والمشاعر على الرحمة، والعقول على الخير والحقيقة. ثم يدرس الكلمة الأحسن التي لا تختزن الحساسيات المعقَّدة في اللفظ والمدلول. وخاصة في سوح البيانات التي تصدر في المجتمع بين فترة وأخرى.

دور الكلام في التواصل بين الناس:

نتحدث عن التواصل من حيث هو دعوة وأمانة في أعناقنا، والكلام لا يقتصر فقط على الدعوة، بل هو مرتبط بعلاقتنا بأصدقائنا، بأبنائنا، بآبائنا، بزوجاتنا وأزواجنا.

وهنا نطرح سؤالاً: هل المهم (ما نقول) أو المهم (كيف نقول)؟

هذه قضية لعلنا نستطيع أن نأتي عليها أثناء بحثنا.

ولكن سأتحدث أولاً عن موضوع التواصل بين الناس، فنحن البشر بصفة عامة عندنا:

1- حاجات عضوية: كالحاجة للطعام، والشراب، والنوم، ووهي بطبيعة الحال حاجات محدودة.

2- حاجات نفسية: وكثير من الناس يغفلون عن أهميتها. وعلى رأس هذه الحاجات النفسية: الحاجة للحب، والحاجة للانتماء إلى مجموعة بشرية، وكذلك التقدير من قبل المجموعة التي ينتمي إليها الفرد. وهذه الحاجات كلها تتأثر تأثراً كبيراً بمنطوق الكلمة وبطريقة نطق الكلمة.

يروي سهل بن ساعد قال: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلامٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ، وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارهِ.

فقال صلى الله عليه وآله: يَا غُلامُ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ الأشْيَاخَ؟ (لأنّ الآداب تقتضي -وفقاً للسنة النبوية- أن يُعطى لمن هو على اليمين، إلا أنّ من هو عن يمنيه طفل صغير).

فقال الغلام: مَا كُنْتُ لأوثِرَ بِفَضْلِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللهِ.. فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ.

ما الذي سيشعره هذا الطفل الصغير وقد قدَّره أكبر شخص في هرم الأمة؟ ألا ينظر إلى ذاته نظرة احترام وتقدير؟!

لقد ثبت أنّ الأفراد الذين يتواصلون مع غيرهم تواصلاً إيجابياً يختلفون في نسبة إصابتهم بالأمراض، فمن كانت صداقاته أقل وتواصله أقل يكون عرضة للإصابة بالأمراض بنسبة ثلاثة أمثال من له صداقات.

فالتواصل بين البشر ليس له فقط فائدة على مستوى نقل الأفكار والمعلومة، بل له أثر كبير جداً على الحاجات النفسية التي وهبنا الله إياها.

وهنا نطرح سؤالاً: هل الكلمة التي تُنطق هي ذات الأثر الحقيقي في التواصل بينك وبين الآخرين، أم أنّ نبرة الصوت يمكن أن يكون له أثره في النفس؟

مهما كانت درجة البلاغة فهي لا تضمن قبول الأفكار، وتبقى بحاجة لتدعيم ومساندة من خلال الوضعية العامة للمتحدث وهيئته وجلسته؛ لأنّ الكثير من المصداقية نستمدها من انسجام وضعيتنا العامة مع ما نقوله ونبشر به أو نحذر منه.

وفي هذا الموضوع ملاحظات:

1 - دراسات رصدت دور المعطيات غير اللفظية في قبول الكلام والاقتناع به منها دراسة الأستاذ (ألبرت مهرابيان) حول الاتصال المرئي. وهو يرى أنّ الرسالة يمكن أن تدرك بثلاث طرق:

·      أ - مرئي باللغة الجسدية تأثيرها 55%

·      ب - صوتي من خلال النغمة ونبرات الصوت ويبلغ تأثيرها 38%

·      ج - شفهي وهي دلالة اللفظ على المعنى ويبلغ تأثيرها 12%

أي أنّ 93% من التأثير يعود للغة الجسدية ونغمة الصوت، والبعض يرى أنّ قياس التأثير بهذا الشكل فيه مبالغة إلى حد كبير.

2 - للنظر أهمية كبيرة في توضيح المعاني وإيصال الرسائل إلى السامعين. فالعين مرآة الروح، وهي هامة للتفاعل بين المتسامرين والمتخاصمين. فنحن عندما نرتاح لشخص ننظر إليه مدة تصل إلى 70% من وقت الخطاب، وعند الإعراض تقل هذه المدة عن 40%. ومن المهم للمتحدث ألا يتحيز بنظره نحو جهة من المجلس أو يديم نظره إلى شخص أو مجموعة من المتفاعلين معه.

المهم أن نعرف أنّ لغة الجسد عادة لا تكذب، فإذا كان أحدنا غاضباً أو كان هادئاً فسيبدو ذلك على وجهه، أو على حركات يديه، وقد يبدو في مظاهر كثيرة حتى في طبقة صوته.

يقول الإمام الباقر عليه السلام: "وَأَيُّمَا رَجُلٍ غَضِبَ عَلَى ذِي رَحِمٍ فَلْيَدْنُ مِنْهُ فَلْيَمَسَّهُ فَإِنَّ الرَّحِمَ إِذَا مُسَّتْ سَكَنَتْ" [الكافي: ج 2 ص 302]. ولا شك أنّ للمسافة بين الآخرين أثرها النفسي الواضح. وكذلك نلاحظ مؤثر اللمس في بعض حالات القلق والاكتئاب ناجحاً وخاصة عندما يكون المصدر معروفاً كعدم النجاح في امتحان، أو وفاة عزيز، أو أثر كارثة.

وهنا نطرح مثالاً تصويرياً من خلال استخدامنا للعبارة التالية: "مساك الله بالخير يا شيخ".. تارة تقولها (من دون مؤثر خارجي)، وتارة تقولها (مع ابتسامة)، وتارة (مع لهجة عتاب)، وأخرى تقولها (مع تهديد)..

فالملاحظ أنني لم أغيِّر في مضمون الكلمات، والذي تغيَّر هو أسلوب النطق. فأيها تأثرت بها؟

وإذا ما أخذنا هذا الموضوع من منظوره الشرعي: يقول رسول الله صلى الله عليه وآله: "أَوَ لا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِنْ فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؛ أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ". فأين السلام في لغة مجتمعنا الآن؟!!

وبمحاكمة بسيطة، لو أنّ أحداً ألقى عليك السلام وهو متجهم الوجه، فهل المقصد الشرعي من وراء السلام قد تحقق؟! كلا، ولأجل أن أربط هذا السلوك أحتاج في تواصلي الاجتماعي إلى:

· أخذ جملة من النصوص: "أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ".

· والأخرى لها علاقة بهذا: "تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ".

فلماذا إذن لا تكون خلافاتنا يعبر عنها بكلمات فيها نوع من الشفافية والمودة؟!

إنها ببساطة تخضع لـ(الوعي)، ولكن وعينا للأسف يغيب في أكثر مشاكلنا.

وفي السيرة الحسينية:

لم تكن علاقته عليه السلام بأتباعه علاقة آمر ومأمور، ولا علاقة قائد عسكري بجنوده، بل علاقة حبّ وودّ واحترام، يسوده الذوق الرفيع منه عليه السلام:

- لم يضع فاصلاً بينه وبينهم، فكانت أمواله وأطفاله وعياله معهم يبذلها من أجل الحقّ، وكان لأنصاره وأتباعه أسوة وقدوة وهو القائل: "نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم فلكم فيّ أسوة".

- يخاطب أتباعه قائلاً: "قوموا يا كرام فهذه رسل القوم إليكم".

- ويخاطبهم في وسط الحشود الكبيرة وهم قلة قليلة: "صبراً بني الكرام! فما الموت إلاّ قَنْطَرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة".

- جرت الطبيعة البشرية أن ينسى القائد في مرحلة الصراع الدامي العناصر غير البارزة من أتباعه وينشغل عنهم بكبار الشخصيات أو من له علاقة قربى معه؛ ولكنه عليه السلام يأذن لجون مولى أبي ذر الغفاري بالانصراف وترك نصرته فيقول جون: "يا ابن رسول الله أنا في الرخاء ألحس قصاعكم، وفي الشدّة أخذلكم، ... ﻻ والله ﻻ أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم".

ثم قاتل رضي الله عنه حتى قتل، فوقف عليه الحسين عليه السلام وقال: "اللّهمّ بيّض وجهه، وطيّب ريحه، واحشره مع الأبرار، وعرّف بينه وبين محمد وآل محمّد".

كذلك حينما قُتل واضح التركي وهو غلام لأحد أصحاب الحسين "اعتنقه الحسين وهو يجود بنفسه، فقال: من مثلي وابن رسول الله واضع خده على خدي".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

محرم 1447 في الصحافة الكويتية