الثلاثاء، 28 مارس 2017





رجب شهر التسامي

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}.
1 . الأشهر الحرم أربعة شهور: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرّم، ورجب. ونحن عندما نلتقي بشهر رجب، فإنّنا نلتقي بالكثير من المعاني والفيوضات الروحيّة والإيمانيّة، والبركات الإلهيّة، وهو -لعظيم شأنه، وكريم فضله- نسبه الله سبحانه وتعالى إليه، كما ورد في الحديث عن رسول الله (ص): "ألا إنّ رجب شهرُ الله، وشعبان شهري، وشهر رمضان شهر لأمّتي ".
والملاحظ أنّه وردت لفظ (الشهر الحرام) خمس مرات وهي في الآيات المباركات التالية:

قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 36].

وقال تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[البقرة: 194].

وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217].

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].

وقال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97].

كما وردت مرَّة واحدة بلفظ (الحُرُم، والأشهر الحُرُم) وهي قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5].

2. تأتي هذه الشهور الأربعة لتؤكد أهمية القواعد التي أرساها الإسلام في أسس التعايش المشترك مع الآخر في جميع الأحوال والأزمان والأماكن،‏ بحيث يصبح المسلمون في تناسق واندماج مع العالم الذي يعيشون فيه، بما يضمن تفاعلهم مع الآخر وتواصلهم معه دون تفريط في الثوابت الإسلامية.
3. حينما نتحدث عن المحبة والسلام فإنما نتحدث عن شعار الإسلام، فقد حددت الآيات القرآنية في أكثر من موقع ومناسبة هذا التوجه، فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً}، وقال تعالى متوجهاً للنبي (ص): {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ}، واعتبر الإسلام أنّ شعار المسلمين الرئيسي هو السلام، فكانت تحية الإسلام "السلام عليكم"، سواء مع الآخرين وحتى مع النفس: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً}، كذلك يقول الإسلام إنّ الله يدعو إلى دار السلام، وإنّ الشعار المرفوع في الجنة هو السلام، {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ}، {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
4. حافظ الإسلام على تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة، وكان هذا التحريم أحَدَ الطرق لإِيقاف الحروب الطويلة الأمد ووسيلة للدعوة نحو السلام والأمن، وإخماد نيران الحرب وإطفاء الأحقاد بين البشر.. وكانت حرمتها من شريعة إبراهيم، وكانت العرب تحترمها حتى في الجاهلية حينما كانوا يعبدون الأوثان غير أنَّهم ربما كانوا يحولون الحرمة من شهر إلى شهر سنة أو أزيد منها بالنسيء الذي تتعرض له الآية {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}. وقوله: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}، الإشارة إلى حُرمة الأشهر الأربعة المذكورة، والدِّين كما تطلق على مجموع ما أنزله الله على أنبيائه تطلق على بعضها فالمعنى أنَّ تحريم الأربعة من الشهور القمرية هو الدِّين الذي يقوم بمصالح العباد. (تفسير الميزان: ج 2 ص 125).
5. لشهر رجب حرمته -كما ورد في الحديث عن رسول الله (ص)- في صيامه وقيامه، فعن عبد الله بن عباس قال: كان رسول الله (ص) إذا جاء شهر رجب جمع المسلمين من حوله وقام فيهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر من كان قبله من الأنبياء فصلّى عليهم، ثم قال (ص): "أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ مُبَارَكٌ، وَهُوَ الشَّهْرُ الْأَصَبُّ؛ يُصَبُّ فِيهِ الرَّحْمَةُ عَلَى مَنْ عَبَدَهُ، إِلَّا عَبْداً مُشْرِكاً أَوْ مُظْهِرَ بِدْعَةٍ فِي الْإِسْلَامِ.. مَنْ صَامَ يَوْماً وَاحِداً فِي رَجَبٍ أَمْنٍ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ وَأُجِيرَ مِنَ النَّارِ.. شَهْرُ رَجَبٍ هُوَ شَهْرُ عَظِيمُ الْخَيْرِ..".
وفي ثواب الأعمال قال رسول الله (ص): "أَلَا إِنَّ رَجَبَ شَهْرُ اللهِ الْأَصَمُّ، وَهُوَ شَهْرٌ عَظِيمٌ، وَ إِنَّمَا سُمِّيَ الْأَصَمَّ لِأَنَّهُ لَا يُقَارِبُهُ شَهْرٌ مِنَ الشُّهُورِ حُرْمَةً وَفَضْلاً عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعَظِّمُونَهُ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ لَمْ يَزِدْهُ إِلَّا تَعْظِيماً وَفَضْلاً، أَلَا وَإِنَّ رَجَبَ شَهْرُ اللهِ، وَشَعْبَانُ شَهْرِي، وَرَمَضَانَ شَهْرُ أُمَّتِي، أَلَا وَمَنْ صَامَ مِنْ رَجَبٍ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً اسْتَوْجَبَ رِضْوَانَ اللهِ الْأَكْبَرَ، وَ أَطْفَأَ صَوْمُهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ غَضِبَ اللهِ، وَأَغْلَقَ عَنْهُ بَاباً مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ".
وقد ورد في الحديث: "رَجَبُ شَهْرُ الِاسْتِغْفَارِ لِأُمَّتِي، فَأَكْثِرُوا فِيهِ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ".
6. إنّ من أظهر الدلائل على استشعار حرمة هذا الشهر الحرام الحذرَ من ظلم النفس فيه باجتِراح السيّئات ومقارَفَة الآثام والتلوّث بالخطايا في أيّ لون من ألوانها امتثالاً لأمر الله تعالى {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ}، فالذنب في كلّ زمان هو اجتراء على الله سبحانه وتعالى، لكنّه في الشهر الحرام أشدّ سوءاً وأعظم شؤماً وأفدح ظلماً؛ لأنّه يجمع بين الاجتراء والاستخفاف وبين امتهان حرمة ما حرّم الله وعظّمه واصطفاه.
7. من أفضل الأعمال في هذا الشهر الصوم، ما روي عن موسى بن جعفر (ع) قال: "من صام يوماً من رجب تباعدت عنه النّار مسير سنة، ومن صام ثلاثة أيام وجبت له الجنّة". وروي أنَّ من لم يقدر على الصيام في أيام هذا الشهر يسبّح في كلّ يوم مائة مرّة بهذا التسبيح لينال أجر الصيام فيه: "سُبْحانَ الاِْلهِ الْجَليلِ ، سُبْحانَ مَنْ لا يَنْبَغي التَّسْبيحُ إِلاّ لَهُ ، سُبْحانَ الأعَزِّ الاَْكْرَمِ ، سُبْحانَ مَنْ لَبِسَ الْعِزَّ وَهُوَ لَهُ اَهْلٌ".
8. تتنوع الأعمال في شهر رجب بين يوم وآخر، وفي مقدمة هذه الأعمال عمل "أم داود" الذي هو في منتصف هذا الشهر.
9. لقد كان أئمة أهل البيت (ع) يستفيدون من هذا الشهر في الدعوة إلى الله تعالى، وقد ورد عن أبي حمزة الثمالي قال : سمعت علي بن الحسين (ع) يدعو في الحِجر -حجر إسماعيل- في غرّة رجب، فأنصتُّ إليه، وكان يقول : " يَا مَنْ يَمْلِكُ حَوَائِجَ السَّائِلِينَ، وَيَعْلَمُ ضَمِيرَ الصامتين، لِكُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْكَ سَمِعٌ حَاضِرٌ، وَ جَوَابٌ عَتِيدٌ، اللَّهُمَّ ومواعيدك الصَّادِقَةُ، وَأَيَادِيكَ الْفَاضِلَةُ، وَرَحْمَتُكَ الْوَاسِعَةُ، فَأَسْأَلُكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ وَأَنْ تَقْضِي حَوَائِجِي لِلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرُ".
وكان الإمام الصادق (ع) إذا دخل شهر رجب يدعو بهذا الدعاء وفي كل يوم من أيامه: "خَابَ الْوَافِدُونَ عَلَى غَيْرِكَ ، وَخَسِرَ الْمُتَعَرِّضُونَ إِلَّا لَكَ ، وَضَاعَ الْمُلِمُّونَ إِلَّا بِكَ ، وَأَجْدَبَ الْمُنْتَجِعُونَ إِلَّا مَنِ انْتَجَعَ فَضْلَكَ ، بَابُكَ مَفْتُوحٌ لِلرَّاغِبِينَ ، وَخَيْرُكَ مَبْذُولٌ لِلطَّالِبِينَ ، وَفَضْلُكَ مُبَاحٌ لِلسَّائِلِينَ ، وَنَيْلُكَ مُتَاحٌ لِلْآمِلِينَ ، وَرِزْقُكَ مَبْسُوطٌ لِمَنْ عَصَاكَ ، وَحِلْمُكَ مُعْتَرِضٌ لِمَنْ نَاوَاكَ ، عَادَتُكَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْمُسِيئِينَ ، وَسَبِيلُكَ الْإِبْقَاءُ عَلَى الْمُعْتَدِينَ ، اللَّهُمَّ فَاهْدِنِي هُدَى الْمُهْتَدِينَ ،وَارْزُقْنِي اجْتِهَادَ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَلَا تَجْعَلْنِي مِنَ الْغَافِلِينَ الْمُبْعَدِينَ ، وَاغْفِرْ لِي يَوْمَ الدِّينِ".
وكان (ع) يدعو بهذا الدعاء عقب كل صلاة وفي الصباح والمساء: "يَا مَنْ أَرْجُوهُ لِكُلِّ خَيْرٍ ، وَآمَنُ سَخَطَهُ عِنْدَ كُلِّ شَرٍّ ، يَا مَنْ يُعْطِي الْكَثِيرَ بِالْقَلِيلِ ، يَا مَنْ يُعْطِي مَنْ سَأَلَهُ ، يَا مَنْ يُعْطِي مَنْ لَمْ يَسْأَلْهُ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ تُحَنُّناً مِنْهُ وَرَحْمَةً ، أَعْطِنِي بِمَسْأَلَتِي إِيَّاكَ جَمِيعَ خَيْرِ الدُّنْيَا ، وَجَمِيعَ خَيْرِ الْآخِرَةِ ، وَاصْرِفْ عَنِّي بِمَسْأَلَتِي إِيَّاكَ جَمِيعَ شَرِّ الدُّنْيَا وَشَرِّ الْآخِرَةِ ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَنْقُوصٍ مَا أَعْطَيْتَ ، وَزِدْنِي مِنْ فَضْلِكَ يَا كَرِيمُ". ثمَّ مدَّ الإمام (ع) يده اليسرى فقبض على لحيته، ودعا بهذا الدعاء، وهو يلوذ بسبَّابته اليمنى، ثم قال بعد ذلك: "يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ، يَا ذَا النَّعْمَاءِ وَالْجُودِ ، يَا ذَا الْمَنِّ وَالطَّوْلِ ، حَرِّمْ شَيْبَتِي عَلَى النَّارِ".
10. في هذا الشهر الكثير من المناسبات الإسلامية العظيمة ومنها:
  •        أ‌-     ذكرى المبعث النبوي الشريف في السابع والعشرين.
  •     ب‌-    في الخامس عشر منه كان تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.
  •     ت‌-    في الثالث من رجب وفاة الإمام علي الهادي (ع).
  •     ث‌-    في الثامن منه مولد الإمام محمد الجواد (ع).
  •      ج‌-     في الثالث عشر منه مولد أمير المؤمنين الإمام علي (ع) .
  •      ح‌-     في الرابع عشر منه وفاة السيدة زينب (ع) .
  •     خ‌-     في الخامس والعشرين منه وفاة الإمام موسى الكاظم (ع) . 


  • أيها الأحبة:


الإسلام دعوة سلام بكل المقاييس:
فهو سلامٌ مع الله -عزّ وجلّ- من خلال عبادته وطاعته والابتعاد عن مواقع غضبه.
وهو سلامٌ مع النفس من خلال: حسن التعامل معها؛ بتأديبها وتطهيرها من كل شر، وتوجيهها نحو كل خير، وإبعادها عن كل عصبية وانفعال وحقد وبغضاء.
وهو سلامٌ مع الآخر، من خلال تبادل المودّة والرحمة والتواصل وعدم المقاطعة
 وحسن الجوار والإحسان والرحمة وأداء الحقوق الواجبة.

وهو سلامٌ مع الذين نختلف معهم، من خلال التواصل والحوار الموضوعي، وحسن التعامل معهم بالعدل والإحسان.

السبت، 25 مارس 2017


فقه أدب التعايش ٨

المواطنة والطائفية


يعبر أبو عثمان الجاحظ عن الوطن في رسالته «الحنين إلى الأوطان» فيقول: ”إذا كان الطائر يحن إلى أوكاره، فالإنسان أحق بالحنين إلى أوطانه...، فطرة الرجل معجونة بحب الوطن“.
والقرآن الكريم يشير إلى المعنى المتجذر في علاقة ارتباط الإنسان بوطنه «دياره» فيقول الله سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ «النساء: 666»، وكان يقال: ”لولا حب الناس الأوطان لخسرت البلدان“.
ومن كمال التزامك لوطنك أن تكون مخلصاً ووفياً لهذه الأرض التي عشت فيها وللوطن الذي احتضنك؛ لأنَّ الأرض وطن يعيش معك قضيتك ورسالتك، فيتم التعاطي معه كعنوان قائم بذاته، لا يحتمل الجدل في مسألة الدفاع عنه أمام كلِّ طامع.
فمسألة «المواطنة» هي أساس علاقة الإنسان بنظام الدولة، بغض النظر عن الخصوصيات الدينية والعرقية لكل طائفة. وكل فرد من أفراد الدولة يتساوى مع الفرد الآخر في «المواطنة» وما يترتب عليها من حقوق وواجبات، ولذا فإنَّ التلاعب بالأوراق الطائفية ينسف معنى المواطنة ويقتلها في الصميم ليحوِّل الوطن إلى أفراد تتحكم بهم العصبيات الطائفية بدلاً من أن تجمعهم الروح الوطنية وسقف المواطنة.
ولإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح تحتاج الدولة إلى ثورة حقيقية على المستوى الثقافي، وعلى مستوى تغيير الذهنية النمطية، ليكون الناس على بيّنة حيال الصورة الحقيقية للدولة الحديثة التي يعيش فيها المواطن وفق مبدأ الحقوق والواجبات.
إنَّ ثمة من لا يريد أن يقتنع بأنَّ المواطنة «محايدة»، ليست مذهبية أو دينية، وليست قبيلة أو أفراد، وليست عرقية أو إثنية، بل هي التي تعزز ما هو مشترك بين مكوِّنات المجتمع الواحد على أساس المصلحة العليا.
فالمواطنة رابطة عضوية تاريخية مصيرية واسعة، تؤسس على الاعتراف المتبادل بوجود الآخر واعتراف الكل بالجزء والجزء بالكل..
لقد تكوّن بالمدينة المنورة، وتحت قيادة الرسول ﷺ، مجتمع قائم على أساس دستوري مكتوب أو ما كان يعرف آنئذ ب «وثيقة المدينة»، والمجتمع آنذاك يتكون من رعايا مختلف الديانات: المسلمون من المهاجرين والأنصار، وأهل الكتاب من اليهود، وبقايا مشركي المدينة، وقد أطلق عليهم رعايا الدولة الإسلامية، وهي المرادف لكلمة ”المواطنين“ بحسب المصطلح المعاصر، فلا وجه للتفريق بين مدلول الرعايا والمواطنين في المجتمع الإسلامي لأنهم سواسية أمام القانون.
فإذا كانت كلمة «المواطنة» تنطلق من معنى الانتماء للوطن، وما يترتّب على هذا الانتماء من التزامات متبادلة في ما يقدمه الإنسان من نفسه للأرض التي حملته واتّسعت لمتطلباته وحاجاته الجسدية والفكرية وغيرها، وما يترتّب على السلطة التي تتحمل المسؤولية عن صون هذه الأرض من مسؤوليات حيال هذا الإنسان، فإنّ الالتزام هنا أكبر من أن يكون احتضاناً للأرض فقط، بل ينطلق في الأبعاد التي تجسدها كل العناوين التي تحملها كلمة «وطن».
وعلينا أن نلتفت إلى شيء له أهميته حينما تكون فئة ما مضطهدة فإنَّ إحساسها بالمواطنة يضعف ويقل، لا لأنها خارج منطق المواطنة، بل لأنَّ المواطنة هي حقوق وواجبات. ومتى أصبحت مجرد واجبات، أصبح الأمر لا يطاق. حينئذ يمكن للمحرومين حيث وكيفما كانوا أن يكونوا خارج منطق المواطنة.
ولذلك، فإنّ قيمة الوطن أو قيمة الأرض في المفهوم الإسلامي هي بمقدار ما تؤمّن للإنسان من فسحة للسكن المادي أو الروحي، وبمقدار ما تستطيع أن تعطيه من حرية تمكّنه من تقديم فكره للآخرين وتؤهّله لصياغة مستقبل رائد لنفسه ولبلده، ومن هنا كانت كلمة الإمام علي : ”لَيْسَ بَلَدٌ بِأَحَقَّ بِكَ مِنْ بَلَدٍ خَيْرُ الْبِلَادِ مَا حَمَلَكَ“، أي بمعنى ما حمل فكرك وأعطاك الحرِّية في تأدية واجباتك ونيل حقوقك.
إننا في أمسّ الحاجة للارتفاع من حضيض الاختلافات العصبية المذهبية غير المبنية على أسس فكرية وثقافية إلى فضاء الحوار الوطني الجامع، والقبول بالتنوع الاجتماعي الذي يقود الى التفاهم من خلال الحوار البنّاء الذي يعترف منذ البداية بخصوصية الآخر ليمهد للتفاهم العام حول كيفية بناء الوطن ودولة الإنسان والمجتمع الكبير وفق أسس الحماية الإدارية والسياسية والاقتصادية والثقافية.











الأربعاء، 22 مارس 2017



العلم دين يدان به



قال الإمام علي (ع) لصاحبه كميل بن زياد النخعي: "يَا كُمَيْلُ، الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ المَالَ. وَالْمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْإِنْفَاقِ، وَصَنِيعُ الْمَالِ يَزُولُ بِزَوَالِهِ.
يَا كُمَيْل بْن زِيَادٍ، مَعْرِفَةُ الَعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ، بِهِ يَكْسِبُ الْإِنْسَانُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ، وَجَمِيلَ الأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَالْعِلْمُ حَاكِمٌ، وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ.
يَا كُمَيْل بْن زِيادٍ، هَلَكَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ: أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، أَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ.
هَا إِنَّ ها هُنَا لَعِلْماً جَمّاً (وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلى صَدره) لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً! بَلَى أَصَبْتُ لَقِناً غَيْرَ  مَأْمُونٍ عَلَيْهِ، مُسْتَعْمِلاً آلَةَ الدِّينِ لِلدُّنْيَا، وَمُسْتَظْهِراً بِنِعَمَ اللهِ عَلَى عِبادِهِ، وَبِحُجَجِهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، أَوْ مُنْقَاداً لِحَمَلَةِ الْحَقِّ لاَ بَصِيرَةَ لَهُ فِي أَحْنَائِهِ يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ لِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ.
أَلاَ لاَ ذَا وَلاَ ذَاكَ! أَوْ مَنْهُوماً بِالَّلذَّةِ، سَلِسَ الْقِيَادِ للشَّهْوَةِ، أَوْ مُغْرَماً بِالْجَمْعِ وَالْإِدِّخَارِ لَيْسَا مِنْ رُعَاةِ الدِّينِ فِي شَيْءٍ، أَقْرَبُ شَيْءٍ شَبَهاً بِهِمَا الْأَنَعَامُ السَّائِمَةُ! كَذلِكَ يَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَامِلِيهِ".
مهما علا الإمام علي (ع) ببلاغته، إلا أنَّ هناك محطات تعد الأروع من كلماته، ولم أرَ كلمة وصف بها العلم كما وصفه علي (ع) حيث قال: "مَعْرِفَةُ الَعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ" وهذه من أروع الكلمات التي تؤكِّد قيمة العلم؛ فالعلم هو الذي يعرِّفك ربك، ودينك، والناس من حولك، والحياة التي تحياها.
ولذلك فالعلم هو الذي يحدِّد لك مسؤولياتك في وعيها أمام الله والرسول والحياة كلِّها، فالعلم دين يدان به، فلا بدَّ لك أن تلتزمه كخط للحياة وكطابع للشخصية وكإلتزام في الواقع تماماً كما هو الدين في التزاماته.
ولكي نقف على هذه القضية علينا أن نفهم الدين من واقعه في الحياة.

ما هو علاقة الدين بالحياة (القانون)؟

هو الذي يبين المحرمات والواجبات، القانون يتولد تلقائياً حين يلتقي الناس، فإذا حدث أن دخل إنسان كهفاً وليس فيه أحدٌ، يُباح له حينئذ أن يجلس في أيِّ مكان شاء، ولكن إذا كان فيه أحدٌ من البشر، لا يمكن أن يجلس في المكان الذي يجلس فيه الآخر، فيحرم عليه هذا المكان الذي يجلس فيه الآخر، فيكون قد تولَّد الحرام تلقائياً.
فالأطفال -وهم يلعبون- يضعون قانوناً للعبة يلتزم به الطرفان، وحين يحدث خرق للقانون ويريد البعض أن يجلس على ظهر الآخرين، هنا ينبغي أن يتدخل الوعي الإنساني الاجتماعي لوضع حد لانتهاك المحرم، وعندئذٍ تبرز مشكلة القانون في أعمق مستوياته؛ لأنَّ القانون يفترض التزام الأطراف لحماية الأفراد الذين يقع عليه العدوان.
والقانون بمجرد التفكير فيه، يتولَّد منه تلقائياً: إلغاء العنف، وإعلان الخروج من العنف، وحل المشكلات من دون لجوء إلى العنف، فمن لا يقبل ترك العنف، لا يمكن أن يدخل في عالم القانون.
والدخول إلى القانون طوعي، فلا يكون القانون قانوناً، إن لم يطبق على كلِّ الذين يدخلون فيه، فالمشكلة ليست في قسوة القانون أو لينه، وإنما المشكلة أن لا يخرج أحدٌ على القانون وأن لا يُنْقَضَ الميثاق.. {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}.
ومعنى القانون هو حماية الأفراد الذين يدخلون فيه.
والقانون هو إيقاف العنف ليكون الحل بالسلم، ولن تَـحُل الديمقراطية أو المجتمع المدني في مكان يعتمد فيه الناس على قوتهم الخاصة، أو يوجد فيه أناس يؤمنون بأنَّ القوة التي عندهم هي التي ستحميهم، وليست قوة القانون وقوة الفهم.
والخلاصة: إذا سيطرت القوة الجسدية فلا شريعة ولا قانون، وإذا سيطر العلم والفهم تكون الشريعة والقانون، ولا سلطان للجسد. هذا هو الفيصل بين مجتمع العنف واللاعنف، بين الشرعية واللاشرعية.
فالقانون والعنف ينفي أحدهما الآخر، لا قانون حيث يوجد العنف، ولا عنف حيث يوجد القانون.
فـ(الديمقراطية، الشورى، المجتمع المدني) هي حل المشكلات من دون عنف، وخاصة المشكلات السياسية؛ لأنه حيث تحل المشكلات بالعنف فلا ديمقراطية، وحيث توجد الديمقراطية لا تحل المشكلات بالعنف.
فأوضح شيء في الوجود ربما يكون هو أبعد شيء عن الإدراك.
ولقد ضرب القرآن مثلاً في حركة الظل على خفاء مفهوم الحركة، وكيف أنّ صورنا الذهنية تخطئ في فهم أوضح شيء وهو الشمس، فخطؤنا في الفهم لن يغير نظام الفلك، بل نحن الذين سنتغير.. وكذلك لن تتغير علاقة القانون والعنف، حين نتوهم أننا لن نستطيع أن نعيش دون عنف.. {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً * أَلَمْ تَرَى إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً}الفرقان: 43-45.
حين يتبع الإنسان هواه تكثر أنانيته وجبروته، حتى لا يرى إلا نفسه، و يبلغ به حب الذات حد العبادة ، إذ يجعل ما تشتهيه نفسه شرعاً يلتزم به، وحينئذ يسجن في زنزانة نفسه، ولا يؤمن بغيرها.
فالذي يجهل تاريخ تطور المعرفة، هو الذي يمكن أن يتخذ إلهه هواه (صوره الذهنية).
إنَّ الدين والقانون ينبغي أن لا يتأسسا على أهواء الناس، أي صورهم الذهنية عن الدين والأنبياء بل ينبغي أن توزن هذه الصور والأهواء بميزان تاريخ المعرفة الذي يحكمه قانون: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}الرعد: 17.
إنّ السيد المسيح (ع) يقول -واضعاً لنا ميزاناً لمعرفة الخير من الشر، ولتمييز الصادقين عن الذئاب الخاطفة-: "مِن ثمارهم تعرفونهم" فهل يمكن أن نعرف من هذه الثمرة ضَعفَ الشجرة التي أثمرت هذه الثمرة الفجَّة التي تُعَقِّدُ المشكلات ولا تحلها؟
أليس (الفيتو) -مثلاً- هو دين فرعون وقانونه حيث يقول: {أنا رَبُّكُم الأعَلى}النازعات : 24، ويقول: {لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ}الشعراء: 29.

العلم دين:

يقول الشيخ محمد جواد مغنية: "أي أنَّ العلم حق، وعلى كلِّ إنسان أن يدين بالحق، و يعمل به، وإنما يكون العلم حقاً وديناً مقدساً إذا خلقنا خلقاً جديداً ينهض بنا إلى حياة أفضل".. فالعلم هو الذي يحدِّد لك مسؤولياتك في وعيها أمام الله والرسول والحياة كلِّها، فلا بدَّ أن تلتزمه كخط للحياة وكطابع للشخصية وكإلتزام في الواقع تماماً كما هو الدين في التزاماته.
فالعمل بغير علم إفساد.. وفي الحديث عن الصادق (ع): قال رسول الله (ص): "من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح"؛ لأنه عندما يتحرك في العمل فإنه يغيِّر الواقع وعندما تغيِّر الواقع على أساس الخطأ والجهل فإنَّ معنى ذلك هو أنك تخلق مشكلة للواقع أكثر من المشكلة التي كانت فيه قبل أن تبدأ العمل. وهذه مسألة لا نزال نعيشها في حياتنا، حيث نواجه من لا يبلورون الفكرة قبل البدء بالعمل ولا يتعمّقون في خطوطها وطبيعتها وإيحاءاتها.
إذن، العلم:
1. "يَكْسِبُ الْإِنْسَانُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ، وَجَمِيلَ الأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ" فيستفيدون منه ويتحسسون حضوره معهم.
2. "وَالْعِلْمُ حَاكِمٌ"؛ لأنه يبني العقل، ويبدع الفكر، وينمي الحياة، ويرفع مستوى الإنسان، ويتحرك به في آفاق الإبداع.. فبالعلم تسيطر على حركة الحياة، والحياة من دون علم موت وجمود.. فهو يحكم والآخرون يخضعون له.
3. إليه ترجع الأمور "وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ".. فالعلم هو الذي يحكم الحرب والسلم والاقتصاد والاجتماع وغيرها من شؤون الإنسان، وهو الذي يضع القوانين والشرائع والبرامج والمناهج والوسائل والأساليب والأهداف.. لذلك تجد المال محكوم عليه؛ لأنّه يخضع للقوانين التي تحرّكه، ولحركة الاقتصاد، ولكلِّ شهوات الإنسان، وأما العلم فلا يخضع لأحد، بل هو يقتحم عقول الذين لا يؤمنون بالفكر ليفرض نفسه عليها.
بل إنَّ العلم قد فرض نفسه على العقول كلِّها، فإذا لم يقبل العقلُ علماً، فإنَّ العلم يلاحقه ليدخل العقل، سواء أراد أو لم يرد.
4. العلم هو القيمية الحقيقية للإنسان: الذين يملكون الملايين ويخزنونها في مصارفهم هم الذين يجمعون أرقاماً ويتحولون إلى رقم،
بل أصبح كثير من مشاهير العالم يقيمون بما يملك من المال.. ولذلك أصبح الرقم هو المعيار في التقييم، ارتفاعاً أو انخفاضاً!.
ولكن قيمة الإنسان في نظر علي (ع) في العلم.. قل لي كم هو علمك أقُل لك كم هي قيمتك؛ لأنَّ العلم هو أنت، وأما المال فهو شيء يشتريك وتشتريه.
فهل شعرت يوماً أن علياً (ع) في عداد الأموات؟.. كلا؛ "وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ: أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، أَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ". فهو، وإن كان غائباً عن عالم الحسّ، لكنه حاضر في المعنى والفكر، فهو يعيش في قلوبنا كمثل الضوء الذي يشرق في القلب خيراً ومحبة.. كذلك هم العلماء.

مأساة العلماء:

ثم يتطرق علي (ع) إلى مأساة العلماء ويصورها في صور عديدة:
الصورة الأولى: من يفتح للدين دكاناً فيه بعض بضاعة العلم ليبيع ويشتري، "بَلَى أَصَبْتُ لَقِناً غَيْرَ  مَأْمُونٍ عَلَيْهِ، مُسْتَعْمِلاً آلَةَ الدِّينِ لِلدُّنْيَا".
الصورة الثانية: من يستعلي بعلمه على الناس، أليس هناك من يخاطب الناس: أنا العالم وأنتم الجهلة.. أنا لا أحتاج إلى عقل ولكنني أوزّع عقلي على الناس كلّهم، أليس كذلك؟!؛ "وَمُسْتَظْهِراً بِنِعَمَ اللهِ عَلَى عِبادِهِ".
الصورة الثالثة: هو المؤمن البسيط الساذج لا ينطلق من العمق في وعيه وفهمه للأمور، ولكنّه مقلِّد في القول والعمل، فلا يملك قوة في البصيرة في دقائق الحق وخفاياه، فينقدح الشك في قلبه؛ لأنه لم يتعمق فيما سمعه من حملة الحق، فإذا جاء أي إنسان إليه، وعرض عليه ما يبلبل فكره، فإنَّ الشك ينقدح في قلبه، وهو كما وصفه علي (ع): "مُنْقَاداً لِحَمَلَةِ الْحَقِّ لاَ بَصِيرَةَ لَهُ فِي أَحْنَائِهِ يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ لِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ".
الصورة الرابعة: المغرم بالجمع والادّخار، وهو أقرب شيء بالأنعام السائمة، "أَوْ مَنْهُوماً بِالَّلذَّةِ، سَلِسَ الْقِيَادِ للشَّهْوَةِ، أَوْ مُغْرَماً بِالْجَمْعِ وَالْإِدِّخَارِ لَيْسَا مِنْ رُعَاةِ الدِّينِ فِي شَيْءٍ، أَقْرَبُ شَيْءٍ شَبَهاً بِهِمَا الْأَنَعَامُ السَّائِمَةُ"..
وفي جميع هذه الصور يموت العلم بموت حامله "كَذلِكَ يَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَامِلِيهِ"؛ لأنَّ الناس لا تنفتح عليهم.

الحب مظهر أصيل في الدين:

لقد جاء في كثير من الأحاديث أنّ أئمة الإسلام كانوا يقولون: ما الدين إلا الحب. ومن ذلك ما جاء عن الصادق (ع) أنّه قال: "وهل الدين إلا الحب" ثم تلا هذه الآية {قُلْ إِن كنتمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى}.
إذن علينا أن نقيم علاقة بين المحبة والمعرفة، ففي هذا المنظور، نعلم أنّ الإنسان جوهر قائم بذاته، يُبدع المعرفة إذ يدرك أنها ضرورة كونية. وعلى هذا الأساس، لا يستطيع الإنسان أن يبدع ما لم يكن محباً، فالمحبة القوة الدافعة باتجاه المعرفة والفاعلة في أساس الوجود..
فلو نزعنا (المحبة) من المعرفة والعلم سنرى محاكم التفتيش التي كانت نتيجة استئثار الكنيسة ومن ثم تعصبها ومصادرة الحقيقة وحكمها على الآخر بالزندقة والكفر والمروق... فالكنيسة مارست كل هذه الأمور لأنهم فقدوا (المحبة) وكذلك علماء الدين المسلمين يمارسون هذا الدور إلى يومنا هذا لأنهم فقدوا (المحبة)، ومن ثم نقول إنّ غياب المحبة تصل الأمور إلى بشاعتها وقبحها.
فالعلم نفسه إذا خلا من (المحبة) فإنّ فيه قابلية للانتفاخ والاستئثار والغرور وحينها يبدأ بإنكار أي حقيقة لا يتوصل إليها من خلال قنواته ليصل إلى إنكار الغيبيات جحداً وكفراً هذا من الجانب النظري.
وموضوع الحب والفهم يمكن أن يكون مرادفاً لموضوع الإخلاص والصواب..
إنّ السبيل للتخلق بأخلاق الرحمن إنما يتحقق عبر إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين، وإضاءة أبعاده الأخلاقية والمعنوية والرمزية والجمالية، وتطهير التدين من كافة أشكال الكراهية.

الاثنين، 20 مارس 2017


فقه أدب التعايش ٧ : محاكمة العقائد

مما يؤسف له أنَّ بعض الناس من أنصاف المتفقهين ينصِّبون أنفسهم مفتشين عن عقائد الناس، ويصدِّرون الأحكام يميناً وشمالاً، تكفيراً وتضليلاً أو تفسيقاً وتبديعاً، دون تثبت أو تورع، مع أنَّ تكفير المسلم لمسلم آخر أو تضليله هذيان وغير منطقي، وهو سم قاتل يسري في جذور حياتنا الثقافية والاجتماعية.. وفي الوقت نفسه تضع على مداركنا غشاوة سميكة، فلا نرى الآفاق الممتدة والإمكانات الكامنة وراء ظهور العاهات المستديمة في المجتمع مما يؤدي في تآكل الأمم وسقوطها.
فلا يجوز لنا اقتحام هذه العقبة إلا بحجة دامغة تقطع الشك باليقين؛ وليس من العلم في شيء أن نولِّد قضايا يقينية من مقدمات ظنية.. فلو أنَّ كاتباً أو محاضراً طرح بعض الأفكار التي قد يتراءى منها التشكيك في بعض المسلَّمات العقائدية لكنَّ لها وجهاً حسناً ومحملاً صحيحاً لا ينافي الاعتقاد فلا يسوغ البناء على الاحتمال الفاسد والحكم على أساسه، فإنَّ اليقين لا يزول إلا بيقين مثله، والحدود تُدرأ بالشبهات، وصريح القرآن يقول: ﴿ولا تقُولُوا لِمنْ ألْقى اليْكُمُ السّلام لسْت مُؤْمِنًا تبْتغُون عرض الْحياةِ الدُّنْيا «النساء: 944». في تأكيد بيّن على مبدأ الأخذ بالظاهر، والابتعاد عن محاكمة النوايا التي لا  يعلمها الا الله العالم بالسرائر.
والإسلام قد حمى أهل الكتاب وضمن لهم حرية العقيدة والعبادة منذ فجر الاسلام، ولو أعطى الإنسان لنفسه الحق في محاكمة عقائد هؤلاء وفقاً لعقيدته لما بقي مسيحيٌ واحدٌ أو يهوديٌ يعيش بين أظهر المسلمين حتى اليوم، فكيف نقبل على أنفسنا كمسلمين أن نتقاتل ونسلب من بعضنا ما حباه الله لنا وشرعه رسوله ﷺ من العيش الكريم.
قال الملا علي القاري - من علماء الحنفية -: ”ذكروا أنَّ المسألة المتعلقة بالكفر إذا كان لها تسعة وتسعون احتمالاً للكفر واحتمال واحد في نفيه، فالأولى للمفتي والقاضي أن يعمل بالاحتمال النافي؛ لأنّ الخطأ في ابقاء ألف كافر أهون من الخطأ في افناء مسلم واحد... وإذا كان اللفظ محتملاً، فلا يُحكم بكونه كفراً إلا إذا صرح بأنه نوى المعنى الكفري“.
وقال ابن حجر الهَيْتمي: ”الذي صرح به أئمتنا أنَّ من تكلم بمُحْتَمِل للكفر لا يُحْكَم عليه حتى يُسْتَفْسَر“. أي حتى يُسأل عن قصده، فإن قال: قصدتُ هذا المعنى وكان المعنى المذكور صريحاً في الكفر يكفّر، أما إن قصد معنىً غيرَ كفري فإنّه لا يكفَّر.
وجاء في كتاب رد المحتار لابن عابدين: ”إذا كان في المسألة وجوه - أي احتمالات - توجب التكفير ووَجْهٌ واحد يمنع التكفير، فعلى المفتي أن يميل إلى الوجه الذي يمنع التكفير تحسيناً للظن بالمسلم“.
وضرب مثلاً لذلك فقال: ”إذا شتم رجلٌ دينَ مسلم فيحتمل أن يكون هذا السبّ استخفافاً في الدين فيكفر، ويحتمل أن يكون مراده أخلاقه الرديّة ومعاملته القبيحة، لا حقيقة دين الإسلام، فينبغي أن لا يكفَّر حينئذ“.
ويقول الشاطبي في كتاب الاعتصام: ”وقد اختلفت الأمّة في تكفير هؤلاء الفِرَق أصحاب البدع العظمى، ولكن الذي يقوى في النظر وبحسب الأثر عدم القطع بتكفيرهم، والدليل عليه عمل السلف الصالح فيهم ألا ترى إلى صنع علي «رض» في الخوارج، وكونه عَامَلَهم في قتالهم معاملة أهل الإسلام..“.
إنّ قيمة المسلم، ولا سيما إذا كان داعية أو عالم دين، أن يعرف قيمة موقعه، ويحدد مقدار علمه، الأمر الذي يفرض عليه أن يحترم الفكر الآخر، ليدفعه ذلك إلى الاستماع إلى وجهة نظره بحكمة وروية، والجدال بالتي هي أحسن، والبعد عن الأساليب الحادّة التي تتحدى احترام إنسانية الإنسان. وهذا هو أول درجات تواضع العلماء.
إضافة إلى ما ينتظر العلماء من دور فاعل في تحصين مجتمعاتنا من روح الكراهية، وبث القيم الأخلاقية، واستثارة عناصر الرحمة في وجدان كل فرد، بحيث يتوجه إحساسنا إلى الجانب المضيء من الصورة بدلاً من الاستغراق في الجانب المظلم منها. فالمشكلة التي يواجهها المجتمع، تتمثل في غلبة العاطفة والانفعال على كيانه، والتي يستغلها البعض من أجل إثارة الأجواء ضد كل إصلاح وتعايش.
إنّ دين ومذهب كل إنسان يجب أن يترك لقناعة وضمير كل إنسان، وأنه حق كل إنسان أن يمارسه، كما يمليه عليه ضمير هذا الحق، هو في طبيعته حق لا يمكن التصرف به، وهو حق غير قابل للتصرف، وإلا سيرتد علينا بدمار موجع.
يقول العالم الأزهري الشيخ محمد عرفة «ت 1972م»: ”المتأمل في تاريخ علم الكلام لا يخالجه أدنى شك أنَّ هذا العلم - وبدل أن يشكل ركيزة أساسية وأرضية مشتركة للجمع والتوحيد - ساهم بوضعيته التاريخية في ثلم وحدة الأمة وتقطيع أوصالها وتحويل خلافاتها المذهبية إلى تكتلات عصبوية وحزبية لعبت دوراً رئيسياً في إشعال نار الفتن المذهبية وتغذية الصراعات الدموية في أكثر من مرحلة زمنية. ولم يكن ذلك بين الشيعة والسنة فحسب كما هو معروف وسطرت فصوله كتب التاريخ، بل بين أبناء المذهب الواحد، كصراعات الأشاعرة والمعتزلة أو الحنفية والحنابلة...“.
والأسف أنَّ الجهات الرسمية تهمل في إزالة التوترات التي تتخذ طابعاً مذهبياً، أو تؤدي إلى شعور مذهب بالغبن على حساب مذهب آخر بما يساهم في تعزيز التحسس المذهبي بين الشعب الواحد.
وكان من تداعيات هذا الإهمال نشوء ظاهرة التكفير والتضليل المتنامية في الأوساط الإسلامية في أساليبها المدمّرة وتجلياتها القاتلة، وهي - بطبيعة الحال - خدمة مجانية لأعداء الإسلام. يقول المرجع السيد محمد حسين فضل الله: ”إنّ الذين يستسهلون سلوك طريق القتل حتى ضد المسلمين يعيشون في حالة من الفوضى المفاهيمية التي غالباً ما تقود إلى فوضى سياسية وعسكرية وأمنية؛ تجعلهم يسفكون الدماء داخل المجتمع الإسلامي بدم بارد، حتى قادهم ذلك إلى قتل النساء والأطفال والشيوخ في هذا الموقع الإسلامي أو ذاك، وفي هذا البلد الإسلامي أو ذاك في غير حالة حرب. ولا شك بأنّ ذلك يختلف تماماً عن العمليات الاستشهادية التي تنطلق في مواجهة الاحتلال كتلك التي ينطلق بها المجاهدون في فلسطين من خلال اضطرار الشعب للدفاع عن نفسه والتي قد يسقط فيها الأبرياء عرضاً تماماً كما يسقط الأبرياء في ساحة الحرب. ومن هنا فإنّ ظاهرة التكفير التي تتحرك في أكثر من سياق وبعيداً عن الموازين الشرعية والإنسانية قد استطاعت أن تصنع واقعاً مدمراً في العالم العربي والإسلامي، كما أنها أعطت الفرصة للمستكبرين في العالم لكي تحرك عنوان الحرب ضد الإرهاب في طول هذا العالم وعرضه“.



معادلة مهمة نفتقد تطبيقها


* السلوك (العام) هو مجموعة من العادات..

* العادات هي الأعمال والأنشطة التي يقوم بها المرء كل يوم ..

* أما السلوك (المنطقي) فهو سلوك قائم على: إدراك عميق لـ(الإمكانات الشخصية) + و (الظروف المحيطة) + وفهم جيد بـ(طبائع الأشياء) و (منطق تطورها) ..

ولكي لا نقع في المخاطر لا بدَّ أن نربط بين: (السلوك السيئ) + و (عواقبه الوخيمة)..

وهذا سيساعدنا على التخلص منه (السلوك السيئ).

الأحد، 19 مارس 2017



فاطمة أم أبيها ورسالة عيد الأم


في مناسبة عيد الأم، تقام الاحتفالات بهذه المناسبة تكريماً للأمّ، فهل هذه الاحتفالات جائزة من النّاحية الشرعية؟

نقول: لا مانع من تكريم الأم، وإظهار الاهتمام بالاحتفال بها، ويؤجر الإنسان إن قصد إدخال السّرور عليها بذلك.
وقد أعطى الإسلام للأم مكانة تتميز عن مكانة الأب في معنى البرّ والعاطفة والإحسان؛ لأنّ الأم هي التي تبذل في صناعة الحياة للولد كلَّ الجهد، وتتحمل كل الثقل والتعب وكل الرعاية، فهي التي تحمل الولد وتغذيه من كل جسدها، وهي التي تواجه الخطر على حياتها عند الوضع، ومن ثم يأتي دور الرضاعة والحضانة، حيث يقيد الطفل حرية الأم في الحركة ويضيّق عليها الكثير من المساحة التي تتحرك فيها.

ولا يتطلب تكريم الأمّ ورجحان ذلك، ورود نص خاص يبيح الأمر، بل هو يتوافق مع المفهوم الإسلامي في برّ الوالدين والإحسان إليهما والتواضع لهما ورعاية حقوقهما وتقدير جهودهما وحفظهما، ووقوع ذلك في اليوم الذي اعتبر عند الناس عيداً لها لا يضر ولا يتنافى مع الشرع، فما يتنافى معه، هو أن نشرّع عيداً جديداً له أحكام العيد، وهذا غير حاصل. وبعبارة أخرى، هناك عيد بالمعنى الشرعي الإسلامي، وهناك عيد بالمعنى العام، أي المناسبة التي تعتبر لتكريم شخص أو وطن أو عنوان أو نحو ذلك.

ومن الجيد الاهتمام بالأم والعمل على تكريمها في يوم معيّن، هو يوم عيدها الذي تعارف عليه الناس رغم عدم وروده في شرعنا.

ويرى فقهاء أهل أهل السنّة، أنّ الاحتفال بيوم الأم ضمن الأطر الشرعية، أمر جائز شرعاً، لا مانع منه ولا حرج فيه، والبرّ مطلوب كل الأيام، والإحسان مفروض في كل وقت.

ويرى البعض الآخر أنّ الاحتفال بعيد الأم هو من جملة البدع والمحدثات، وأنّه تقليد غربي.. وأنّه لا يجوز إحداث عيد يحتفل به المسلمون غير عيدي الأضحى والفطر، لأنّ الأعياد من جملة إحياء المناسك والعبادات، قال تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} (الحج: 67).

ويجيب البعض الآخر بأنّه ليس في الشرع ما يمنع من أن تكون هناك مناسبة يعبِّر فيها الأبناء عن برّهم بأمهاتهم، فإنّ هذا أمر لا حرج فيه، ولا صلة له بمسألة البدعة، لأنّ البدعة المردودة هي ما أحدثه الإنسان على خلاف الشّرع.

يقول الإمام زين العابدين في رسالة الحقوق: "فَحَقُّ أُمِّكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهَا حَمَلَتْكَ، حَيْثُ لَا يَحْمِلُ أَحَدٌ أَحَداً، وَأَطْعَمَتْكَ مِنْ ثَمَرَةِ قَلْبِهَا مَا لَا يُطْعِمُ أَحَدٌ أَحَداً، وَأَنَّهَا وَقَتْكَ بِسَمْعِهَا وَبَصَرِهَا، وَيَدِهَا وَرِجْلِهَا وَشَعْرِهَا وَبَشَرِهَا، وَجَمِيعِ جَوَارِحِهَا، مُسْتَبْشِرَةً بِذَلِكَ، فَرِحَةً مُوَبِّلَةً (أي مواظبة ومستمرة) مُحْتَمِلَةً لِمَا فِيهِ مَكْرُوهُهَا، وَأَلَمُهَا، وَثِقْلُهَا وَغَمُّهَا حَتَّى دَفَعَتْهَا عَنْكَ يَدُ الْقُدْرَةِ، وَأَخْرَجَتْكَ إِلَى الْأَرْضِ، فَرَضِيَتْ أَنْ تَشْبَعَ وَتَجُوعَ هِيَ، وَتَكْسُوَكَ وَتَعْرى، وَتُرْوِيَكَ وَتَظْمَأَ وَتُضَحِّي وَتُنَعِّمَكَ بِبُؤْسِهَا، وَتُلَذِّذَكَ بِالنَّوْمِ بِأَرَقِهَا، وَكَانَ بَطْنُهَا لَكَ وِعَاءً، وَحِجْرَهَا لَكَ حِوَاءً (ما يحتوي الشيء ويحيط به)، وَثَدْيُهَا لَكَ سِقَاءً، وَنَفْسُهَا لَكَ وِقَاءً، تُبَاشِرُ حَرَّ الدُّنْيَا وَبَرْدَهَا لَكَ، وَدُونَكَ، فَتَشْكُرُهَا عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا بِعَوْنِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ".

السبت، 18 مارس 2017


فاطمة الزهراء تتكلم


الانفتاح على أفق سيدتنا فاطمة الزهراء (ع)، معناه: أننا لا نستطيع أن نتابع هذا المدى الواسع الذي تتمثل فيه هذه الآفاق؛ فما تعيشه امرأة كالزهراء مع الله لا يستطيع أحد أن يعبّر عنه بحرف..

وكانت طفولتها (ع) لا تحمل أية فرصة للعب الأطفال ولهوهم.. بل احتضنتها الملآسي منذ نعومة أظفاهرها من خلال ما يلاقيه أبوها (ص) من مشركي قريش من ضغوط أذى.. وكانت هي (أم أبيها) تتحسس آلام الرسالة وآلام الرسول.

وتصف (ع) تلك الفترة المكيّة ببلاغة فائقة فتقول: "فَبَلَّغَ (أي رسولُ الله) بالرِّسالة، صادِعاً بالنَّذارة (النذار: الأنذار)، مائلاً عَلى مَدْرَجَةِ (المدرج والمدرجة: المذهب والمسلك) المُشْركيْن، ضارباً ثَبَجَهُمْ (الثبج: وسط الشيء ومنه الكاهل)، آخِذاً بأَكْظامِهمْ، داعِياً إلى سَبِيْل رَبِّه بِالحِكْمَةِ وَالْمَوْعظَةِ الْحَسَنَةِ، يَكْسِرُ الأَصْنامَ، ويَنْكُتُ (ينكت: يلقيه ويطرحه) الهامَ (الهامة: الرأس)، حتّى انْهَزَمَ الجَمْعُ، وَوَلُّوا الدُّبُر، حَتى تَفَرّى (تفرى: تشقق) الليلُ عَنْ صُبْحِهِ، وَأَسْفَرَ الحَقُ عَنْ محْظِهِ (المحض: الخالص)، وَنَطَقَ زَعيمُ الدين، وَخَرستْ شَقاشقُ (الشقشقة: شيء يشبه الرئة يخرج من فم البعير أذا هاج. والمراد منه هنا تكلم الشياطين بملأ أفواههم بجرأة وشهامة) الشَّياطين، وأطاحَ وَشِيظُ (الوشيظ: الأتباع والخدم) النِّفاقِ، وانَّحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْرِ والشِّقاقِ، وَفُهْتُمْ بِكَلِمَةِ الإخْلاص في نفَر مِنَ البيض الْخِماص، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَة مِنَ النّار مُذْقَةَ (المذقة: شربة من اللبن الممزوج بالماء) الشّارب، وَنُهْزَة (النهزة: الفرصة) الطامِع، وقَبْسَةِ العِجْلان (قبسة العجلان : الشعلة من النار الّتي يأخذها الرجل العاجل)، وَمَوطئَ الأَقْدامِ؛ تَشْرَبُونَ الطَرقَ (الطرق: الماء الذي خوّضته الابل وبوّلت فيه)، وَتَقْتاتُونَ القِدَّ (القد: قطعة جلد غير مدبوغ) وَالوَرق، أذِلَّةً خاسِئينَ، تَخافُونَ أَنْ يَتخَطَّفَكُم النّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ، فَأَنْقَذكُمُ الله تَعالى بِمُحَمَّدٍ بَعْدَ اللُّتَيّا وَالَّتي، بَعْدَ أن مُنِيَ بِبُهْم (البهمة: الشجاع الذي لا يهتدي من أن يؤتى) الرجال، وَذُؤبانِ الْعَرَب، وَمَرَدة أهْلِ الْكِتاب (المارد : العاتي)، كُلَّما أوْقَدُوا ناراً لِلْحَربِ أطْفأَها اللهُ، أوْ نجَمَ (نجم: طلع) قَرْنُ الشَّيْطانِ، أوْ فَغرَتْ (فَغرت: فتحت) فاغِرَةً مِنَ الْمُشركيْن..." (نثر الدر للآبي: ج ٤ ص ٨، وأمالي الطوسي: ج ١ ص ٣٣٨ الحديث 55، وبلاغات النساء لأحمد بن أبي طاهر ابن طيفور: ، ومنال المطالب لابن الأثير: ص ٥٨٨، وجواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب، لابن الدمشقي: ج ١ ص 155).

الزهراء (ع) العالمة المعلِّمة:

في حياة الزهراء (ع) نقطة مهمة جداً، قد لا ينتبه إليها الكثيرون، وهي أنّ فاطمة الزهراء (ع) كانت أول مَن جمع كتاباً في الإسلام، ولم يُنقل أنّ رجلاً أو امرأةً جمع كتاباً في ذلك الوقت.

فـ"مصحف فاطمة" هو كتاب الزهراء (ع)، فاهتمامها بحديث رسول الله (ص) وبأحكام الإسلام، بحيث كانت تسجِّل ما تسمعه منه (ص)... فجمعت هذا الكتاب الذي تناقله أئمة أهل البيت، حتى أنّ الصادق (ع) كان ينقل عنه بعض الأحكام الشرعية.

وربما انطلق بعض الناس الذين يحقدون على خط أهل البيت ليتحدثوا أنّ للشيعة مصحفاً غير هذا المصحف، ولهم قرآن غير هذا القرآن، وهو مصحف الزهراء (ع)، ويقولون إنّ الصادق (ع) كان يتحدث فيقول: "مُصْحَفٌ فِيهِ مِثْلُ قُرْآنِكُمْ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَاللهِ مَا فِيهِ مِنْ قُرْآنِكُمْ حَرْفٌ وَاحِدٌ" فهماً منهم أنه قرآن خاص غير القرآن المتداول.

والذي عرفناه عن الإمام الصادق (ع) مما ثبت بسند صحيح، أنّ هذا الكتاب يشتمل على مفردات الأحكام الشرعية والثقافة الإسلامية؛ حيث قال: "وَمُصْحَفُ فَاطِمَةَ، مَا أَزْعُمُ أَنَّ فِيهِ قُرْآناً، وَفِيهِ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْنَا وَلَا نَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ، حَتَّى فِيهِ الْجَلْدَةُ وَنِصْفُ الْجَلْدَةِ، وَرُبُعُ الْجَلْدَةِ، وَأَرْشُ الْخَدْشِ".

ويشهد على ذلك ما رواه الكليني، بإسناده عن حبيب الخثعمي، قال: كَتَبَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ -وَكَانَ عَامِلَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ- أَنْ يَسْأَلَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ عَنِ الْخَمْسَةِ فِي الزَّكَاةِ مِنَ الْمِائَتَيْنِ: كَيْفَ صَارَتْ وَزْنَ سَبْعَةٍ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ (ص)؟ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَ فِيمَنْ يَسْأَلُ عَبْدَ اللهِ بْنَ الْحَسَنِ وَجَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (ع).

قَالَ: فَسَأَلَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: أَدْرَكْنَا مَنْ كَانَ قَبْلَنَا عَلَى هَذَا، فَبَعَثَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَسَنِ وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (ع)، فَسَأَلَ عَبْدَ اللهِ بْنَ الْحَسَنِ، فَقَالَ كَمَا قَالَ الْمُسْتَفْتَوْنَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: فَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ؟

فَقَالَ: "إِنَّ رَسُولَ اللهِ (ص) جَعَلَ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، أُوقِيَّةً، فَإِذَا حَسَبْتَ ذَلِكَ، كَانَ عَلَى وَزْنِ سَبْعَةٍ، وَقَدْ كَانَتْ وَزْنَ سِتَّةٍ، وَكَانَتِ الدَّرَاهِمُ خَمْسَةَ دَوَانِيقَ".

قَالَ حَبِيبٌ: فَحَسَبْنَاهُ، فَوَجَدْنَاهُ كَمَا قَالَ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَخَذْتَ هَذَا؟

قَالَ: "قَرَأْتُ فِي كِتَابِ أُمِّكَ فَاطِمَةَ".

قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ: ابْعَثْ إِلَيَّ بِكِتَابِ فَاطِمَةَ (ع).

فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللهِ (ع): "إِنِّي إِنَّمَا أَخْبَرْتُكَ أَنِّي قَرَأْتُهُ، وَلَمْ أُخْبِرْكَ أَنَّهُ عِنْدِي".

قَالَ حَبِيبٌ: فَجَعَلَ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ يَقُولُ لِي: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا قَطُّ (الكافي: ج 3 ص 507 ح 2).

وربما يرشدنا إلى جزء من هذا المجموع ما رواه الصحابي عبد الله بن مسعود، قال: جاء رَجلٌ إلى فَاطمَةَ، فقال: يا بنت رسول اللهِ هل ترَكَ رسول اللهِ (ص) عنْدَكَ شيئا تطْرِفِينِيهِ، فقالت: >يا جاريه، هَاتي تلْكَ الجريدة<، فطَلَبَتْهَا، فلم تَجدْهَا، فقالت: "ويْحَكِ اطْلُبيهَا، فَإنَّهَا تَعْدلُ عنْدِي حسَنًا وحُسَيْنًا" فطَلَبَتْهَا، فإذا هيَ قد قمَّتْهَا في قُمَامَتِهَا، فإذا فيها: قال مُحمَّدٌ (ص): "ليس منَ الْمُؤْمنِينَ من لم يأْمَنْ جارُهُ بَوَائقَهُ؛ من كان يُؤْمنُ باللهِ والْيَوْمِ الآخرِ فَلْيُكْرمْ ضيْفَهُ، ومَنْ كان يُؤمنُ باللهِ والْيَوْمِ الآخرِ فلا يُؤذِ جارَهُ، ومن كان يُؤْمنُ باللهِ والْيَوْمِ الآخرِ فَليَقُلْ خَيرًا أو لِيَسكُتْ؛ إنَّ اللهَ يُحِبُّ الحَيِيَّ الحَلِيمَ العَفِيفَ المُتَعَفِّفَ، وَيُبغِضُ الفَاحِشَ البذيء السُّؤالِ المُلْحِفَ، إنَّ الحَيَاءَ مِنَ الإِيمانِ، والإِيمَانَ في الجَنَّةِ، وَالفُحْشَ منَ البَذَاءِ، وَالبَذَاءَ في النّارِ" (المعجم الكبير: ج 10 ص 196؛ مجمع الزوائد: ج 8 ص 169).

فلو جال علماء المسلمين من أهل السنّة على كل مواقع الشيعة في العالم، وعلى كل بيوتات الشيعة في العالم، فإنهم لا يجدون إلا هذا القرآن الذي لا يختلف بكلمة، ولا بحرف، ولا بشيء، عن القرآن الذي بين أيدي المسلمين.

يقول المرحوم العالم المصري الشيخ محمد الغزالي في ردّه على من يتهم الشيعة بأنّ لهم قرآناً غير هذا القرآن: "لماذا لم يطلّع الإنس والجن على نسخة من هذا القرآن خلال هذا الزمن الطويل؟!! ولماذا هذا الافتراء؟!!
ولحساب من تفتعل هذه الاشاعات وتلقى بين الأعزاء ليسوء ظنهم بإخوانهم وقد يسوء ظنهم بكتابهم" (دفاع عن العقيدة والشريعة: ص 264).

ويقول: "والحق أنّ هناك أناساً يشتغلون بالدعوة الإسلامية، وفي قلوبهم غلٌّ على العباد، ورغبة في تكفيرهم أو إشاعة السوء عنهم، غلٌّ لا يكون إلا في قلوب الجبابرة والسفّاحين.. وإن زعموا بألسنتهم أنهم اصحاب دين" (هموم داعية: ص 164).

ولم تكتفِ الزهراء (ع) -كما ينقل لنا تاريخها- أن تكتب ما تسمعه من حديث، بل كانت تلقي بذلك على نساء المهاجرين والأنصار، وكان دارها مجمعاً للنساء، تلقي عليهنّ ما تعلّمته من رسول الله (ص).

يروى عن حفيدها الإمام العسكري قال: حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء (ع) فقالت : إنّ لي والدة ضعيفة، وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألك، فأجابتها فاطمة (ع) عن ذلك، فثنّت فأجابت، ثم ثلّثت إلى أن عشّرت فأجابت، ثم خجلت من الكثرة، فقالت: لا أشقّ عليك يا ابنة رسول الله.

فقالت (ع): "هاتي وسلي عمّا بدا لك... إنّي سمعت أبي يقول: إنّ علماء أُمّتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدّهم في إرشاد عباد الله ، حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلّة من نور ...".

وعن العسكري قال: "قالت فاطمة (ع) وقد اختصمت إليها امرأتان، فتنازعتا في شيء من أمر الدين، إحداهما معاندة، والأخرى مؤمنة، ففتحت على المؤمنة حجتها، فاستظهرت على المعاندة، ففرحت فرحاً شديداً، فقالت فاطمة (ع): "إنّ فرح الملائكة باستظهارك عليها أشدّ من فرحك، وإنّ حزن الشيطان ومردته أشدّ من حزنها".

وقد روى عنها وجوه الصحابة، ومنهم: علي بن أبي طالب، عبد الله بن مسعود، الحسين بن علي، عبد الله بن العباس، أنس بن مالك، السيدة أم سلمة، السيدة عائشة، أسماء بنت عميس، زينب بنت أبي رافع .. (المعجم الكبير: ج 22 ص 413-424).

ومن إبداعات سيدتنا فاطمة (ع) العلمية أنها تعتبر أول مسلمة تطرقت إلى الحديث عن مقاصد التشريع وفلسفته، وذلك في خطبتها العصماء بعد وفاة أبيها (ص)، وكأنّها تريد أن توحي للناس أن يأخذوا الإسلام بعمق وأن لا يأخذوه بشكل سطحي، بحيث يتحرك المسلم في ساحة عمله من خلال ثقافة الإسلام في عمق معانيه وأسراره.

وبهذا تخرجنا (ع) من الجمود الطاغي على ممارساتنا للإسلام من دون أن نتفهم معانيه وأسراره، وهذا هو مشوار أكثر المسلمين الذين يتحركون بالإسلام في إطار شكله الخارجي ولا يتحركون به من خلال ممازجته بالعقل والقلب والروح والإحساس والشعور.

ولقد تحدثت عن عشرين مورداً مهماً، في جمل قصيرة بليغة، وذكرت مقاصده الجليلة منه: "... فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق، والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحج تشييداً للدين، والعدل تنسيقاً للقلوب، وطاعتنا نظاماً للملّة، وإمامتنا أماناً من الفرقة، والجهاد عزّاً للإسلام (وذلاً لأهل الكفر والنفاق) ، والصبر معونة على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة، وبرّ الوالدين وقاية من السخط، وصلة الأرحام منسأة في العمر ومنماة للعدد، والقصاص حقناً للدماء، والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة، وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس، والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس، واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة، وترك السرقة إيجاباً للعفّة، وحرّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية، فاتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وأطيعوا الله في ما أمركم به و ما نهاكم عنه، فإنه إنما يخشى الله من عباده العلماءُ".

أم أبيها ورسالة عيد الأم:

في مناسبة عيد الأم، تقام الاحتفالات بهذه المناسبة تكريماً للأمّ، فهل هذه الاحتفالات جائزة من النّاحية الشرعية؟
نقول: لا مانع من تكريم الأم، وإظهار الاهتمام بالاحتفال بها، ويؤجر الإنسان إن قصد إدخال السّرور عليها بذلك.
وقد أعطى الإسلام للأم مكانة تتميز عن مكانة الأب في معنى البرّ والعاطفة والإحسان؛ لأنّ الأم هي التي تبذل في صناعة الحياة للولد كلَّ الجهد، وتتحمل كل الثقل والتعب وكل الرعاية، فهي التي تحمل الولد وتغذيه من كل جسدها، وهي التي تواجه الخطر على حياتها عند الوضع، ومن ثم يأتي دور الرضاعة والحضانة، حيث يقيد الطفل حرية الأم في الحركة ويضيّق عليها الكثير من المساحة التي تتحرك فيها.

ولا يتطلب تكريم الأمّ ورجحان ذلك، ورود نص خاص يبيح الأمر، بل هو يتوافق مع المفهوم الإسلامي في برّ الوالدين والإحسان إليهما والتواضع لهما ورعاية حقوقهما وتقدير جهودهما وحفظهما، ووقوع ذلك في اليوم الذي اعتبر عند الناس عيداً لها لا يضر ولا يتنافى مع الشرع، فما يتنافى معه، هو أن نشرّع عيداً جديداً له أحكام العيد، وهذا غير حاصل. وبعبارة أخرى، هناك عيد بالمعنى الشرعي الإسلامي، وهناك عيد بالمعنى العام، أي المناسبة التي تعتبر لتكريم شخص أو وطن أو عنوان أو نحو ذلك.

ومن الجيد الاهتمام بالأم والعمل على تكريمها في يوم معيّن، هو يوم عيدها الذي تعارف عليه الناس رغم عدم وروده في شرعنا.

ويرى فقهاء أهل أهل السنّة، أنّ الاحتفال بيوم الأم ضمن الأطر الشرعية، أمر جائز شرعاً، لا مانع منه ولا حرج فيه، والبرّ مطلوب كل الأيام، والإحسان مفروض في كل وقت.

ويرى البعض الآخر أنّ الاحتفال بعيد الأم هو من جملة البدع والمحدثات، وأنّه تقليد غربي.. وأنّه لا يجوز إحداث عيد يحتفل به المسلمون غير عيدي الأضحى والفطر، لأنّ الأعياد من جملة إحياء المناسك والعبادات، قال تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} (الحج: 67).

ويجيب البعض الآخر بأنّه ليس في الشرع ما يمنع من أن تكون هناك مناسبة يعبِّر فيها الأبناء عن برّهم بأمهاتهم، فإنّ هذا أمر لا حرج فيه، ولا صلة له بمسألة البدعة، لأنّ البدعة المردودة هي ما أحدثه الإنسان على خلاف الشّرع.

يقول الإمام زين العابدين في رسالة الحقوق: "فَحَقُّ أُمِّكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهَا حَمَلَتْكَ، حَيْثُ لَا يَحْمِلُ أَحَدٌ أَحَداً، وَأَطْعَمَتْكَ مِنْ ثَمَرَةِ قَلْبِهَا مَا لَا يُطْعِمُ أَحَدٌ أَحَداً، وَأَنَّهَا وَقَتْكَ بِسَمْعِهَا وَبَصَرِهَا، وَيَدِهَا وَرِجْلِهَا وَشَعْرِهَا وَبَشَرِهَا، وَجَمِيعِ جَوَارِحِهَا، مُسْتَبْشِرَةً بِذَلِكَ، فَرِحَةً مُوَبِّلَةً (أي مواظبة ومستمرة) مُحْتَمِلَةً لِمَا فِيهِ مَكْرُوهُهَا، وَأَلَمُهَا، وَثِقْلُهَا وَغَمُّهَا حَتَّى دَفَعَتْهَا عَنْكَ يَدُ الْقُدْرَةِ، وَأَخْرَجَتْكَ إِلَى الْأَرْضِ، فَرَضِيَتْ أَنْ تَشْبَعَ وَتَجُوعَ هِيَ، وَتَكْسُوَكَ وَتَعْرى، وَتُرْوِيَكَ وَتَظْمَأَ وَتُضَحِّي وَتُنَعِّمَكَ بِبُؤْسِهَا، وَتُلَذِّذَكَ بِالنَّوْمِ بِأَرَقِهَا، وَكَانَ بَطْنُهَا لَكَ وِعَاءً، وَحِجْرَهَا لَكَ حِوَاءً (ما يحتوي الشيء ويحيط به)، وَثَدْيُهَا لَكَ سِقَاءً، وَنَفْسُهَا لَكَ وِقَاءً، تُبَاشِرُ حَرَّ الدُّنْيَا وَبَرْدَهَا لَكَ، وَدُونَكَ، فَتَشْكُرُهَا عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا بِعَوْنِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ".

أيها الأحبة ..
علينا أن نستذكر كلمات سيدتنا الزهراء (ع) ومن كلماتها العظيمة قولها: "والعدل تنسيقاً للقلوب". فالعدل - كما هو معروف - من المسائل التي تتصل بالواقع الخارجي للحياة الاجتماعية للأمة، لأنّه بالعدل يصل كل إنسان إلى حقه، وبذلك يعمّ الخير في الناس وتقل الصراعات والمعارك .

فما هي علاقة العدل بالقلوب وبتنسيقها وجمعها مع بعضها البعض؟!!

إنّ العدل في حركيته الإنسانية وفي واقع العلاقات بين الناس، ودوره في وصول كل إنسان إلى حقه، يهيئ الرخاء والسلام والتوازن في الواقع الاجتماعي، وهذا أمر بيِّن لا يكاد يخفى على أحد، ولذا لم تركّز عليه الزهراء (ع)، وإنّما ركّزت على مسألة أخرى، وهي: تأثير العدل في علاقات الناس مع بعضهم البعض، فيما ينفتح فيه قلب على قلب، لأنّ الظلم ينتج الكثير من التعقيدات النفسية والكثير من الأحقاد الذاتية، ذلك لأنّ أي إنسان يُضطهد في حقه، فمن الطبيعي أن يحمل لمضطَهده مشاعر الحقد والعداوة والبغضاء، ما يجعل من الظلم مشكلة للعلاقات الإنسانية في دائرة المشاعر، كما هو مشكلة لواقع الإنسان في دائرة العلاقات الاجتماعية القائمة على أساس الحقوق.

لذلك أرادت الزهراء (ع) أن تؤكد قيمة العدل في جمع القلوب وتنسيقها، لأنّ المجتمع إذا كان قائماً على إعطاء كل ذي حق حقه، فإنّ من الطبيعي أن يبعد ذلك الكثير من المشاعر السلبية في علاقة الناس مع بعضهم البعض، وهذا هو الذي يهيئ لحركة السلام الاجتماعي أن تسود، لأنّ غالب المؤثرات في إيجاد الحروب أو في إبعاد حركة السلام عن الواقع هي العقد النفسية التي يحملها بعض الناس.

وكما يجب العدل يحرم الظلم، وهو يشتمل: ظلم النفس -روحاً وجسماً- وظلم العائلة، وظلم المجتمع، وظلم الحكومة، أي: ظلم الحكومة للناس أو ظلم الناس للحكومة، وظلم الحيوان والنبات والطبيعة، وظلم الأجيال القادمة أيضاً، والظلم الاقتصادي والاجتماعي وغيرها. قال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل: 118).
ولهذا فقد جعل الإسلام العدل من قواعده الأساسية، قال سبحانه: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ}، {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}.

إنّ مرحلتنا الإسلامية التي نخوض فيها حرباً من أشرس الحروب في مواجهة الطائفية، تطلّب منّا نساء ورجالاً أن نعطي كل طاقتنا للإسلام، وأن نتعلم الإسلام كأفضل ما يكون العلم والتعلم.

محرم 1447 في الصحافة الكويتية