فقه أدب التعايش ٦ : أصالة الصحة والبعد العقدي
لو شك إنسان أنّ عقيدة فلان ممن هو على ظاهر الإسلام صحيحة أو فاسدة؟ وأنه مؤمن فعلاً بالله، وأنّ محمداً ﷺ عبده ورسوله، وأنّ العباد يُبعثون ويُحشرون.. أو أنه لا يؤمن بذلك كله أو بعضه فماذا يُحكم عليه؟
لا بدّ أن نلفت النظر بداية إلى أنّ الحكم بفساد العقيدة له مخاطر جمة ومضاعفات خطيرة؛ لأنّه قد يستتبع حكماً بارتداده واهدار دمه أو حكماً بضلاله وانحرافه، وهو ما قد يؤدي إلى محاصرته وعزله اجتماعياً، كما أنّ للحكم بفساد العقيدة آثاراً شرعية كثيرة، سواء على مستوى الأحوال الشخصية كالزواج أو الميراث، أو على المستويات الأخرى، كتولّيه بعض المناصب والمهام كالامامة والشهادة ونحو ذلك.
يقول الدكتور عبدالحميد الأنصاري: «التكفير حكم عظيمٌ، لما يترتب عليه من آثار خطيرة تمتد من الشخص الى زوجته وأولاده وأهله وقبيلته، فأين حكمة المشايخ وحُسن تبصّرهم في الأمور؟ لقد حذّر الرسول ﷺ من التكفير، وقال: ”أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما ان كان كما قال، والا رجعت عليه“. إنّ أعظم اثم يرتكبه مسلم ضد أخيه المسلم أن يكفّره وهو يعلم أنه يشهد الشهادتين، ويؤدّي الفروض الدينية، لمجرد الشبهة والظن، أو عن طريق الاستنتاج من الأقوال والمقالات وتقوّلات المغرضين المتربصين، وإذا كان الإسلام أمرنا أن ندرأ الحدود بالشبهات، فالتكفير أولى أن يُدرأ بها، فما بال مشايخنا يسارعون في التكفير؟!!».
ألا يكفي ما أصاب الأمة من محن وفتن، يقول الشيخ أبوبكر المشهور وهو من كبار علماء اليمن: «فالمتطرفون الأوائل أفتوا بجواز قتل الإمام علي لأنه قَبِل التحكيم، والمتطرفون السياسيون في الحكم أفتوا بمحاربة الإمام الحسين بن علي وقتلوه وأهل بيته شهداء في كربلاء.. والمتطرفون من العلماء في عصر المأمون أفتوا بفساد عقيدة من لا يقول بخلق القرآن، والمتطرفون من أهل القرار أفتوا بضرب الإمام مالك وتعزيزه حتى خلعوا كتفه وأركبوه على حمار بوضع مقلوب يسيروا به في شوارع المدينة...».
ولا مجال إلا للحمل على الصحة ما دام الشخص على ظاهر الإسلام، ولم يظهر منه ما ينافي ذلك قولاً أو فعلاً. وقد جرت سيرة المسلمين على تصحيح اعتقاد من يدّعي الإسلام حتى يعلم الخلاف، ولا يطالب ببرهان يثبت إسلامه.
وقال الشيخ البهائي العاملي: ”إنَّ المكلَّف إذا بذل جهده في تحصيل الدليل فليس عليه شيء وإن كان مخطئاً في اعتقاده، ولا يخلد في النار وإن كان بخلاف أهل الحق“.
ويرى الدكتور علي الوردي، أنَّ هذه النظرية ذات أهمية غير قليلة، وإن كانت تبدو للناظر السطحي بسيطة، وأنها في الواقع تنسجم مع أحداث ما توصلت إليه الأبحاث النفسية والاجتماعية.
والظاهر أنها تنسجم - أيضاً - مع قوله تعالى: «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»؛ ولأنَّ تعذيبه مع بذله الجهد والطاقة من غير تقصير قبيح.
ويعزو الدكتور الوردي هذا الرأي إلى أنَّ ”كلَّ مفكر صادق النظر إذا اطلع على العقائد المختلفة يستطيع أن يكتشف فيها حقيقة واضحة، هي أنَّ كل ذي عقيدة يؤمن بصحة عقيدته إيماناً قاطعاً لا شك فيه، وأنه مهما تأمل وفكر فلا يقدر أن يخرج بتفكيره عن الأدلة والقوالب المنطقية الملائمة لعقيدته، ومعنى هذا أنَّ الإنسان لا يلام على أية عقيدة اكتسبها من محيطه الاجتماعي فنشأ عليها، إذ إنَّ تلك العقيدة صحيحة في نظره كمثل ما تكون عقيدتنا صحيحة في نظرنا، فلو أننا نشأنا في محيطه لاعتقدنا بمثل عقيدته، وكذلك لو نشأ هو في محيطنا لاعتقد بمثل عقيدتنا“.
ومما يجدر ذكره أنَّ الفقيه الشيخ محمد جواد مغنية تبنَّى رأي الشيخ البهائي، وكذلك هو رأي المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله.
وكان من رأي الجاحظ «ت 255 هـ » ”أنَّ الشخص الأمي الذي يعيش في قرية نائية، أو محيط اجتماعي منعزل، نراه لا يعرف من العقائد غير العقيدة التي نشأ عليها، وهو إذاً لا يستطيع أن يفكر إلا في نطاق تلك العقيدة، أنه غير ملوم في ذلك ولا يعاقبه الله عليه، فالله لا يكلف نفساً إلا وسعها، ويستخلص الجاحظ من هذا أنَّ الله لا يعاقب من الكفار إلا أولئك المعاندين الذين يدركون الحق ويحيدون عنه حرصاً على جاه أو رئاسة أو نحو ذلك من الأسباب، أما الباقون منهم - وهم الذين يمثلون سواد الناس وأكثريتهم - فإنّ من الظلم عقابهم لأنهم لا يفهمون الحق إلا من خلال العادات والعقائد التي نشأوا عليها؛ والله ليس بظلام للعبيد“.
وقال المرجع الديني الشيخ ناصر المكارم الشيرازي: ”بل لا يبعد جواز الحكم بإسلام كل من شك في إسلامه وان لم يدّع الإسلام اذا كان في دار الايمان، والوجه فيه استقرار سيرة المسلمين على اجراء أحكام الإسلام، في المناكح والذبائح والطهارة وغيرها، على كل من كان في بلاد الإسلام من دون فحص عن مذهبه، حتى يقوم دليل على فساده“.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق