الخميس، 16 مارس 2017

فقه أدب التعايش ٥


منذ أن ولد الرسول المصطفى ﷺ وإلى نزول الوحي عليه ﷺ في غار حراء، وحتى وفاته في المدينة المنورة، كانت دعوته تعتمد السلام والتسامح منهجاً وسلوكاً، فقد بدأ - صلّى الله عليه وآله وسلم - دعوته بالحكمة والموعظة الحسنة ولم يتخلَّ يوماً عن الرفق واللين في قوله وفعله، عملاً بقول الله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.
وبهذا المنهج اليسير أسس الإسلام مبدأ التعايش بين جميع الأطياف والمذاهب المختلفة في إطار من العدل والمساواة والدعوة إلى التعارف والتعاون، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، كما عمل على توطيد العلاقات السلمية بين الناس في الداخل والخارج قال سبحانه: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
ويتبين لمن وقف على سيرته المباركة، كيف حقق الإسلام قيم التسامح والسلام والرحمة بصورة واضحة في التعايش بين الأديان والمذاهب المختلفة، على أساس من حرية ممارسة الشعائر الدينية والتخلي عن التعصب الديني والتمييز العنصري، بل نراه كيف منح الحرية في الإبداع من خلال دائرة الاجتهاد القائمة إلى يوم الدين.
والسيرة النبوية المشرفة تزخر بالأمثلة والروايات التي تؤكد أنَّ الإسلام دين السلام والتعاون؛ فالدولة الإسلامية في عهد الرسول ﷺ عملت على مد جسور الحوار البنَّاء والتعايش السلمي داخل الدولة الإسلامية بين مواطنيها على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم، وخارجها في علاقاتها مع دول الجوار، وذلك عبر توطيد العلاقات السلمية من خلال المعاهدات التي أبرمها الرسول ﷺ مع مختلف القبائل والدول المجاورة، دون اعتبار لاختلاف الدين أو العرق أو اللون، إذ هدف هذه الرسالة العالمية هو الحفاظ على بنية الإنسان جسمانياً وفكرياً وروحياً، واتضح ذلك من خلال تكريم الله تعالى للإنسان وتسخير الكون له، وذلك بغية تحقيق سعادته في الدنيا، وفوزه بالنعيم المقيم في الآخرة: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا، ومن هنا جاء اهتمام الإسلام بالإنسان، فجعل مقاصد الشريعة تدور حوله وتحقق له ومنه وبه، ولذلك فرض عليها الحفاظ على النفس والعقل والدين والعرض والمال، سواء كان ذلك له أو لغيره.
ومن أجل الحفاظ على تلك المقاصد هذَّب وعالج الإسلام نزعة الحرب والاعتداء والانتقام في نفس الإنسان المسلم، فنهى عن ترويع الآمنين وعن قتل المسالمين، ولم يشرِّع الحرب إلا بغية الدفاع والذود عن حياض الدولة الإسلامية، فجاءت الحرب في الإسلام - على خلاف ما يشاع حول الدولة الإسلامية - للحفاظ على الإنسان، والحد من إراقة الدماء وإزهاق الأرواح. يقول الإمام علي : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ”إِيَّاكُمْ وَالْمُثْلَةَ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ“.
ولم يكن الرسول الأكرم ﷺ يقف في تعليمه لأمته المحبة والرحمة عند حد معين، فقد علَّمهم أنّها قد وسعت كلَّ شيء: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، وأنّ المؤمنين مأمورون أن يتخلقوا بأخلاق الله؛ وأنّ الإنسان لا يبلغ تمام إنسانيته إلا حين يرحم كلَّ حيٍّ تخلقاً بخلق الله سبحانه.
لقد أحبَّ رسول الله ﷺ النجاشي عظيم الحبشة حباً كبيراً لعدله وحكمته وصلاحه، وعندما مات النجاشي حزن عليه رسول الله ﷺ حزناً عظيماً؛ روى الشيخ الصدوق بإسناده إلى الإمام الحسن بن علي العسكري، عن آبائه، عن علي  قال: ”إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمَّا أَتَاهُ جَبْرَئِيلُ  بِنَعْيِ النَّجَاشِيِّ بَكَى  بُكَاءَ حَزِينٍ عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّ أَخَاكُمْ أَصْحَمَةَ - وَهُوَ اسْمُ النَّجَاشِيِّ - مَاتَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْجَبَّانَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ، وَكَبَّرَ سَبْعاً، فَخَفَضَ اللهُ لَهُ كُلَّ مُرْتَفِعٍ حَتَّى رَأَى جِنَازَتَهُ وَهُوَ بِالْحَبَشَةِ“.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

محرم 1447 في الصحافة الكويتية